غاب الصوت وبقى الصدى: وداعًا الكاتب والشاعر يوسف مسلم

غاب الصوت وبقى الصدى: وداعًا الكاتب والشاعر يوسف مسلم

العدد 925 صدر بتاريخ 19مايو2025

رحل الكاتب والشاعر يوسف مسلم، تاركًا خلفه فراغًا فى المشهد الثقافى لا يسده إلا صدى كلماته. لم يكن مجرد شاعر أو كاتب، بل كان عينًا ترى الجمال فى التفاصيل المنسية، وصوتًا لمن لا صوت لهم. برحيله، تطوى الحياة صفحة قلمٍ متفرد، عَبَرَ بحروفه حدود اللغة، ليمس القلب والذاكرة معًا الكاتب الراحل من مواليد 1979 تميزت نصوصه بالجرأة والوضوح فى تقديم أفكاره المحمّلة بالغضب والسخرية وتصوير الألم الإنسانية وطرح الأسئلة الوجودية الحادة.
أصدر مسلم عددًا من المسرحيات، منها: “الحارس” (2007)، و”الشبيهان أو مؤامرة العباقرة” (2009)، و”عيون زجاجية”، و”هكذا رقصت سالومي”. إلا أن أبرز أعماله تبقى مسرحية “وليمة عيد”، الكوميديا السوداء التى تُصور لنا كيف يغدو الإنسان “وليمة” على مائدة مجتمع.
أمّا فى الشعر، فقد ترك عددًا من المجموعات من بينها: “فقه الغضب” (2014)، و”شاعرًا يموت شاهرًا إصبعه الأوسط فى وجه العالم” (2016)، و”حقائب منسية بقصد” (2024). وعَبّرت معظم قصائده عن وجعه وتمرّده الداخلى،.
نال يوسف مسلم عدة جوائز فى مجال التأليف المسرحى، وجائزة محمد تيمور للإبداع المسرحى، والميدالية الذهبية للتأليف المسرحى من مهرجان الشباب، وتكريمًا فى ملتقى الشارقة للشباب العربى أجرينا هذا الملف لتأبين المبدع يوسف مسلم الذى رحل بجسده لكن إبداعه باقٍ.  
يوسف.. نبضٌ غاب.. وأثر باق
نعت الكاتبة صفاء البيلى الكاتب يوسف مسلم فقالت:” كم هو محزن جدا.. أن تصحو من النوم لتفاجأ بأخبار الرحيل الموجعة.. ففى صمتٍ مفاجئ، انطفأ قنديل مضيء مهلم، له بصمته الفريدة فى عالم الشعر والمسرح على حد السواء، غاب قلب تحير طوال عمره بين أحلامه وواقعه.            
رحل يوسف مسلم بعدما سار رحلة ليست بالطويلة، رحلة محفوفة بالصمت حينا والبوح أحيانا والغضب دائما، رحل حزينا متعبا تاركًا خلفه فراغًا يتردد صداه فى أروقة ذاكرتنا المتعبة. هذا لأن يوسف لم يكن مجرد إنسان عابرٍ فى محطات العمر كعابرين كثر، بل كان نبضًا حيًا، يتدفق عذوبةً وصدقًا وإنسانية.. فى زمن عز فيه الصدق والعزوبة والإنسانية.
كان يرحمه الله معطاء كشجرةٍ وارفة الظلال، يستظل بها كل من يعرفه من أصدقائه المقربين وحتى العابرين. روحه الوثابة كانت تحمل ما تحمل من الرقة، و طيبة القلب و الحكمة الهادئة. كان حضوره كنسيمٍ فى يومٍ قائظ، وابتسامته الوادعة تمنح السكينة للنفوس المضطربة.
لم ينتبه الكثيرون لموهبته الكبيرة فى الكتابة، سواء فى كتاباته الشعرية أو المسرحية، ولا أدرى ألأنه كان من أهل البيت (الشعر والمسرح)، وأهل البيت لا يعرفون غالبا القيمة الحقيقية لبعض المنتسبين إليه؟ ولكننى كنت أرى أن السبب ربما يعود إليه هو نفسه، فلم يكن كثير الكلام أو الثرثرة عن نفسه، وكثيرا ما كنت أحدثه بلسان وقلب الأخت الكبرى التى ترى فيه موهبة نادرة لا يعمل على الترويج لها..فى حين يظهر ويعلو من لا يمتلكون جزءا ضئيلا من موهبته.                
فى شعره، تميز بقدرته على التقاط التفاصيل الصغيرة فى الحياة اليومية وتحويلها إلى صور شعرية مؤثرة. كان يرى الجمال فى البسيط والعادى، ويعرف كيف يُعبّر عن المشاعر الإنسانية المعقدة بألفاظ عذبة وصادقة. فلم يكن شعره مجرد وصف للعالم من الخارج، بل كان انعكاسًا لعالمه الداخلى بالانفعالات والأفكار والتساؤلات. إذ عَبّر فى معظم قصائده عن وجعه وتمرّده الداخلى، وسخريته من الأنظمة والسلطات السياسية والاجتماعية والدينية، حتى وصف نفسه بأنه “عاشقٌ حتى الكراهية»
أما فى كتابة المسرح؛ فلم يكن بالنسبة له مجرد وسيلة لتفريغ شحنات غضبه من الحياة التى ربما كان يرى أنها غير عادلة تماما..أو حتى مجرد كتابة يعرف قواعد لعبتها، بل كان أداة للتنوير والتغيير الاجتماعى. كان يحلم بمسرح قادر على استعادة دوره الطليعى فى المجتمع، مسرح يخاطب العقل والوجدان، ويدفع بالجمهور إلى التساؤل والتفكير..
لم تشغله المظاهر أو الرغبة القاتلة فى الظهور وتحقيق الذات. لم تبهره الجوائز ولا طرقها الوعرة المحفوفة بالشوك.. مع عشقه للمسرح لم يقاتل من أجل ظهور أعماله على خشبات مسرح الدولة التى يعمل بها موظفا فى المسرح.. لم يزاحم أى أحد فى أى شيء.. لذا علينا أن نتزاحم نحن فى جمع كتاباته ونشرها فى إحدى هيئات النشر التابعة للوزارة.. ربما يقلل هذا من وطأة حزنه والمرارة التى كانت لا تفارقه.
وتابعت: «إن رحيل يوسف ليس مجرد فقدان لصديق، بل هو غياب لروحٍ أدبية وفنية كانت تثرى حياتنا بجمالها وعمقها. هو صمتٌ مفاجئ فى سيمفونية الحياة، لكن لحنه سيظل باقيًا فى ذاكرة الروح، يتردد كلما تذكرنا بصفاء قلبه وجمال إبداعه.
وداعًا أيها الطيب يوسف، رحمك الله وغفر لك.. يا صديق الكلمة وعاشق الخشبة. ستبقى ذكراك دائما فى قلوب الأنقياء من محبيك.

كتب المسرح المختلف عن السائد والمنتمى لمسرح العبث ومسرح القسوة
فيما كشف الكاتب سعيد حجاج عن الكاتب والشاعر يوسف مسلم بعض النقاط المهمة فقال: «يوسف مسلم يعتبر واحدا من أهم الشعراء والمسرحيين فى جيله. وقد كتب المسرح المختلف عن السائد والمنتمى لمسرح العبث ومسرح القسوة فى خلطة شديدة التميز والعبقرية التى اهلت نصوصه المسرحية للفوز بالعديد من الجوائز المصرية والعربية      
بل إن هناك عرضا ترجم إلى اللغة الألمانية وعرض هناك.
وهذا بالطبع يعكس أصالة ما يكتب ويلقى الضوء على قضايا مجتمعه الإنسانى. لكن مع الأسف كانت أحلامه مجهضة داخل مجتمعه وأجهضت أيضا أحلامه فى المسرح المصرى .
غير أن الهواة فى الجامعات وداخل قصور وبيوت الثقافة اهتموا بما يكتب اهتماما بالغا.               
جعل خصوصا مخرجى النوادى يقدمون له بعض أعماله فى نوادى المسرح حيث أنه الاكثر قربا للمغامرة من النصوص التقليدية.
وأنا من هنا أناشد المسرحيين فى مصر وفى العالم العربى الاحتفاء بما ترك من نصوص متميزة سواء بطباعتها أو عرضها على المسرح وأعتقد أن هذا إن حدث فقد يشكل اعتذارا بالغ الأهمية على تجاهل المسرحيين لأعماله التى تميزت كثيرا وناقشت العديد من القضايا المسكوت عنها فى المجتمع. ولا انسى بالطبع قصائده شديدة التمرد على كل المستويات. لغة وموضوعات. وانا متأكد أنه لولا ترفعه عن عرض أعماله على المخرجين لتبوا المكانة التى يستحقها فى مسرحنا المصرى والعربى.

كانت لغته كالسيف الصقيل، حادةً فى واقعيتها
بينما أوضح الفنان فضيل فيض موجه عام لغه إنجليزية بوزارة التربية والتعليم بالفيوم عن الراحل يوسف مسلم فقال:” لأكثر من اثنى عشر عامًا، امتدَّ بيننا حوارٌ روحيٌّ عميق، كالنهر الخفيّ الذى يغذّى الأشجار دون أن يُرى. كان غوصًا فى فقه النص المسرحى، ورقصًا مقدسًا بين الممثل وخشبة المسرح والجمهور، حيث تتحول أدوات العرض — من لغةٍ تضيء الظلمات، إلى ألحانٍ تلامس الأسرار، إلى أضواءٍ ترسم عوالمَ غير مرئية — إلى طقوسٍ للقاء الذات والآخر.
كنتُ أتفيأ ظلال شكسبير، حيث اللغةُ كالنسيج الإلهى، مُرصَّعة بالاستعارات التى تُلامس السماوات، والإيقاع الذى يُحرِّك الروح كالريح فى أغصان الشجر. فى لغته يعتمد على(Blank Verse)(مقاطع خماسية غير مقفاة) فى الكثير من حواراته. لغة معقدة أحيانًا بسبب استخدامه للغة الإنجليزية القديمة والمفردات التى قد تكون صعبة على القارئ المعاصر. ولكنه فى عبقرية كنا نثمنها نحن الإثنان؛ يوسف وانا كان يمزج بين الفصحى واللغة العامية فى بعض المسرحيات (مثل مشاهد الحمقى أو الشخصيات الشعبية).           
لغة وإن بدت للبعض كالسرِّ المغلق، فهى فى حقيقتها مرآةٌ تعكس أعماق الوجود، بلغةٍ تتراوح بين الفصحى والعامية، كأنها جسرٌ بين الأرض والسماء.
أما يوسف، فقد كان قلبه ينبض بالمسرح السياسى والوجودى حيث البساطةُ سطحٌ يخفى تحته محيطًا من الفكر والسياسة. كانت لغته كالسيف الصقيل، حادةً فى واقعيتها، عابرةً للرمز كالرؤيا، لا تبحث عن الزخرف، بل عن الجوهر الذى يُحرِّك الضمير.
ووسط هذا الحوار، كنا نلتقى عند “هاملت”، أيقونتنا المشتركة، حيث يسقط القناع، ويتجلى السؤال الأزلي: أن نكون أو لا نكون؟ كانت رحلتنا مع الفنِّ رحلةَ روحٍ تبحث عن الجمال كمنقذٍ من ظلمة الواقع، وكطريقٍ إلى الذات العليا. فالمسرح، فى النهاية، ليس مجرد خشبةٍ وحوار، بل هو مرآةُ الروح، ومعبدُ الأسئلة التى لا تنتهى.
وهكذا، تحوَّل نقاشنا من فقه النص إلى تأمُّلٍ فى الوجود، حيث كلُّ حوارٍ هو دعوةٌ للغوص فى الأعماق، وكلُّ صمتٍ بين السطور هو صوتُ الحقِّ الذى ينتظر من يسمعه.

كان قلب حساس يتلقى الحياة بكل عنفوانها وأوجاعها
قال الصحفى والكاتب الساخر ومدير تحرير موقع جريدة وطنى ماجد سمير:”يوسف مسلم كان واحدًا من أنقى من عرفت فى حياتى. طفولى النزعة، عابث بكل ما حوله، حتى بظله، لكن خلف هذه البراءة كان قلب حساس يتلقى الحياة بكل عنفوانها وأوجاعها، وهو ما تسبب فى معاناته المستمرة طيلة سنوات عمره.
لم أستطع حضور سرادق عزائه، لأننى ببساطة لا أؤمن أنه رحل. يوسف لا يزال حيًا بروحه المبدعة، التى ترفرف فوق رؤوس محبيه وأصدقائه. جسده فقط هو من انتقل إلى مكان آخر، أما حضوره فى أعماله وإبداعاته ومواقفه وصوته وضحكته ودموعه، فلا تزال تؤكد لنا أنه بيننا. وصفته يومًا بأنه “أطول شاعر فى العالم”، وكان يستحق أن يكتب شعرًا عموديًا يناسب قامته الفارعة.
طوال صداقتنا الطويلة، لم يجاملنى يوسف فى أى من كتاباتى. كان ناقدًا صادقًا، أثق فى رأيه تمامًا، كما كان يقول دائمًا: “أنا ما اعرفش أجامل فى الفن والإبداع”. وعلى عكس صلابته فى النقد، كانت طبيعته الإنسانية شديدة الرقة، مليئة بالحب والاحتواء.
عاش يوسف مظلومًا، لم يحصل حتى على 10% مما يستحقه كشاعر ومسرحى موهوب. وظيفته فى وزارة الثقافة لم تكن دافعًا لتحقيق أحلامه، بل كانت عائقًا حرم موهبته من الانطلاق. ورغم حزنه الداخلى، لم تكن كتاباته كافكوية الطابع، بل كان يحول هذا الحزن إلى لحظة فرح غريبة وخاصة، تنقله لعالم أكثر عدلًا وأكثر حياة. قال لى يومًا: “أنا بموت كتير، بس فى كل مرة برجع بقصيدة نثرية جديدة أو نص مسرحى مختلف”. وكأنه كان يصف رحيله المنتظر بقصائده، ومع ذلك لم يرحل فعليًا.
قناعتى راسخة أن الحضور الجسدى لا يعنى الحياة، كما أن الإبداع الحقيقى لا يموت. سيظل يوسف مسلم حيًا، مادامت قصائده ونصوصه تحمل أنفاسه وملامحه، ومادام أثره باقيًا فى قلوب من أحبوه.

يوسف.. غضب وألم ووداعة
فيما نعت الناقدة أمل ممدوح الكاتب والشاعر يوسف مسلم فقالت: «عينان ممزوجتان بالغضب والوداعة معا، وملامح عوملت وسامتها بإهمال متعمد وعدم اكتراث، بمظهر عام يتمرد بلا مبالاته كصيحة من غضب وسخرية مشهرة بل صوت فى وجه الحياة؛ لحية غير مهذبة عمدا غالبا وشعر كيفما اتفق وإن كان ممشطا، لمحات تمرده الواضحة هادئة عفوية غير زاعقة، فتمرده حقيقة بسيطة لا تسعى كثيرا لإعلان وإثبات مبالغ، ولا تطل منه شهوة الاختلاف أو التميز، فهو هم كبير يثقل نفسه، نظرة عينيه كانت تبدو لى إما هادئة مسالمة لكنها تنبع من معين غاضب، أو مشتعلة لكنها تتوق للرجوع لسلام فى عالم بعيد، كأنه يحاول احتواء صرخة عظيمة، مسكون بزحام يجعله شديد الحضور أحيانا أو آويا لغياب فيه، هكذا رأيت أول مرة يوسف مسلم الكاتب الموهوب والشاعر والناقد أيضا، ولم يتغير انطباعى منذ التقيته عام 2014، أى منذ أحد عشر عاما فى مهرجان دوم للحكى بقنا.
 وتابعت: “إيناركى وفجومى كما يصف نفسه لكن معادلته الخاصة كما أراها، أنه يمارس ذلك دون تعد على خيارات غيره أو إزعاجهم لأجل هذه الطبيعة، بل كان هادئ الصوت قليل الكلام فى الأغلب ومحترما لاختلافات الآخرين، ولا أدرى لم فوجئت قليلا ونحن معا كفريق من الأصدقاء فى معبد دندرة حين طلب منى تصويره عند مهبط سلم داخل المعبد، ربما لشعور يصلك بأنه لا مبال أو غير منتمٍ لشيء، وإن كان فى الوقت نفسه يحمل نهم طفل يراقب العالم ويحرص أن لا يفوته شيء.  
واستكلمت قائلة:”  فى وقت لاحق حضرت ليوسف مناقشة مسرحيته “ الحارس” إن لم تخنى الذاكرة، وكانت تدير التقاش الحبيبة الراحلة د. نهاد صليحة، التى أشادت بموهبة عظيمة وعبقرية ليوسف فى الكتابة المسرحية بكلمات لا أذكر نصها بدقة الآن، كان أثناء ذلك هادئا بشدة يتابع باهتمام راض دون أى اشتباك أو تداخل، ويومها شعرت بامتنانه لحضورى، فهو يقدر كل شيء بصدق ودون تطرف استحقاقى، هذه اللمحات برغم سياقه العام كانت تزيدنى تقديرا إنسانيا له وترينى صدقا أصيلا مع نفسه لا يسعى لأى شيء آخر، أما مؤخرا وآخر لقاءاتى به فكانت منذ عام فى أيام الشارقة المسرحية، حيث كان له نص مسرحى مشارك فى المهرجان، كنت أشعر فيه بصمت غريب كأن شيئا قويا أسكت كل شيء، ألم ما وإحباط ويأس يطلون منه، كأنه هنا وليس هنا، لا أعرف الكثير عن حياته أو أسبابه، لكنها هشاشة متوقعة للإنسان الذى يحس ويلاحظ ويغضب ويحلم أكثر مما تتحمل الحياة وأكثر مما تعطى وأكثر مما تستحق، وأكثر مما يحتمل، يؤلمنى أنه غاب وهو يحمل هذا الشعور بالإنهاك، وخفوت جذوة الحياة فيه ببطء وصمت، فاللهم سلاما جميلا ليوسف..سلاما ربما لم يعرفه يوما.

الشعراء يبدأون قيامتهم بالخروج من عالمنا المحدود
فيما وصفه الناقد محسن ميرغنى فقال عنه: “أمثال يوسف من المبدعين لا يموتون، لأن إبداعهم يبقى كثيرا بعد رحيلهم عن عالمنا المؤذى، أمثال يوسف يرحلون يسافرون يذهبون بعيدا إلى مسافة لا يمكننا إدراكها بقدراتنا.
المحدودة من يقرأ أشعار يوسف الأخيرة سيكتشف أنه كان يعد نفسه لرحلته البعيدة تلك منذ شهور، وكأنه يحاول إبلاغنا برفق بقراره الابتعاد عن المشهد الواقعى والدخول فى المشهد الأزلى الإبداعى الجمالى. يوسف كان شاعرا مجيدا ومهما فى تاريخ الإبداع الأدبى والشعرى المعاصر. والشعراء لا ينتهون أبدا الشعراء يبدأون قيامتهم بالخروج من عالمنا المحدود والاستقرار فى عالم نصوصهم الدائمة الحضور، والمعبرة عن نفوسنا جميعا حال قرأناها بتمعن وتأمل كاف لما تحمله من خلاصات لعذوبة وألم ومجازات. تحملها أيضا نصوصه المسرحية وحوارات شخصياته الملهمة لفنانى المسرح. تعلمنا فى قاعة الدرس أن المسرح هو الشعر ومن يقرأ مسرحيات يوسف التى ألفها مثل الحارس والشبيهان ورقصة سالومى الأخيرة ووليمة عيد ومجموعة مسرحياته القصيرة التى تابع نشرها على صفحته على فيسبوك، ومنها مسرحية التقرير، سيدرك إلى أى مدى صدق مقولة المسرح هو الشعر ويدرك أيضا أهمية وقيمة يوسف مسلم كمؤلف مسرحى مصرى تحتاج نصوصه للخروج إلى النور لكى يشاهدها الناس ويتداولها فنانو المسرح الباحثون عن النصوص الجيدة والملهمة لهم وللجمهور.
 
كان مثقف للغاية يمتلك وعيًا يتخطى سنوات عمره
الناقدة والمدرس المساعد بالمعهد العالى للفنون المسرحية شيماء توفيق تحدثت قائلة عنه:” هو شاب مصرى بامتياز، كان هذا الانطباع الأول الذى كونته عن يوسف مسلم منذ التقائى به منذ ما يقرب من خمسٍ وعشرين عامًا حينما التحقت بقسم الدراما والنقد فى المعهد العالى للفنون المسرحية، فبدى لى وكأنه إحدى شخصيات روايات نجيب محفوظ، كان مثقف للغاية يمتلك وعيًا يتخطى سنوات عمره، لديه موهبة فذة فى الكتابة، يخيم عليها طابع كوميدى ساخر لا يخلو من مرارة، وهو نفس الطابع الذى سرعان ما يُلاحَظ فى شخصيته، على المستوى الإنسانى كان صادقًا ونقيًا للغاية وصديقًا وفيًا لأصدقائه يُشعر من يحادثه بالثقة والارتياح، ورغم أنه كان حاضر النكتة فى حديثه لكنه كان يحمل الكثير من الأحلام المجهضة التى تركت لديه إحساس بالأسى يظهر فى نظرته. لم يطق يومًا القيود، أذكر أنه حكى لى عن إحساسه المميت بقيود الروتين الوظيفى الإدارى، تلك التى كانت تعيقه عن عمله الأحب إلى نفسه وهو الكتابة وبالفعل ترك وظيفته للتفرغ للكتابة والقراءة.
  يوسف لم يجامل ولم يتخلَ يومًا عما يؤمن به من أفكار، امتلك آراء صادمة أحيانًا لم يتفهمها غير من يعرفه على المستوى الإنسانى، عاش حياته ولم يعرف الزيف أو المراوغة ولم يسعَ يومًا لفرض نفسه من أجل مصالح شخصية ولكنه على العكس كان عزيز النفس وكثيرًا كان يفضل الاستغناء. سأفتقده كثيرًا فهو كان من أعز الأصدقاء تغمده الله بواسع رحمته.

يوسف مسلم كان إنسانًا نادرًا وموهبة لا تتكرر
نعى المخرج المسرحى أحمد السيد الكاتب والشاعر الراحل يوسف مسلم بكلمات مؤثرة، مشيدًا بموهبته الفذة وإنسانيته العميقة، ومؤكدًا أن الزمن الحالى لم يكن مناسبًا لقامة
إبداعية مثله. وقال السيد: “يوسف مسلم لم يكن مجرد فنان أو شاعر أو كاتب، بل كان إنسانًا حقيقيًا، والبشر الحقيقيون أصبحوا نادرين. كان كاتبًا متميزًا، عميق الرؤية، ومجتهدًا منذ أيامه الأولى كطالب فى المعهد العالى للفنون المسرحية. من بين قلة قليلة من طلاب قسم الدراما الذين كتبوا فعليًا، كان يوسف أحد أبرزهم، إلى جانب أحمد عبد الرازق ومحمد عبد البسيط. بالنسبة لى، هؤلاء كانوا الهدف الحقيقى من قسم الدراما: تخريج مؤلفين، لا
مجرد نقاد.» وأضاف السيد: “يوسف امتلك قدرة نادرة على التعبير عن رأيه بهدوء واتزان، حتى فى لحظات الخلاف. كان يحترم كل أشكال الفن، ويفصل بوضوح بين الاحترام الشخصى والاختلاف فى الرأى. كان غاضبًا من العالم، لكن غضبه دائمًا ما جاء فى صورة هادئة وواعية، لا تحمل صخبًا ولا عدوانية.» وتابع: “عملنا معًا على مسرحية ‘أثناء المتشابهين’، وكانت النقاشات بيننا دائمًا مهنية ومحترمة. كان يفصل تمامًا بين شخصه ككاتب وعلاقته بالمخرج. امتلك قدرة فريدة على التواصل والتفاهم، وكان نموذجًا للتعاون والإبداع.»
 وختم السيد كلماته قائلًا: “ربما اختاره الله لأن هذا الزمن لا يناسب قامة مثله—زمن مليء بالسطحية والافتراء والكذب. يوسف كان موهوبًا، شاطرًا، مبدعًا، وهذه كلها صفات أصبحت غير مرحب بها فى عالم اليوم. رحمك الله يا يوسف، وتقبلك قبولًا حسنًا. كنت أكثر من فنان أو صديق—كنت إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى وأضاف السيد قائلًا:” فى بداية مشوارنا فى مسرح أوبرا ملك، وتحديدًا عندما كان مركز فنى وثقافى فى أوج نشاطه واحتوائه لكل أشكال الإبداع، كان الشاعر والكاتب يوسف مسلم قد أصدر ديوانًا بعنوان «فقه الغضب»، وهو عمل شعرى مميز أثار الانتباه لما يحمله من عمق وتجريب شعرى مختلف. نظمنا ندوة خاصة لمناقشة هذا الديوان، وتخللها قراءات من بعض نصوصه، التى كانت ملهمة للغاية. كان يوسف مسلم، ولا يزال، شاعرًا مختلفًا فى رؤيته، يمتلك حسًا شعريًا فريدًا.


رنا رأفت