العدد 922 صدر بتاريخ 28أبريل2025
صدر حديثًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن سلسلة الإبداع المسرحى كتاب جديد للكاتب والناقد المسرحى إبراهيم الحسينى، يحمل عنوان “حكاية من الخيال ومسرحيات أخرى”، ويضم بين دفتيه ثلاث مسرحيات متكاملة شكلًا ومختلفة مضمونًا، لكنها تلتقى فى نسيج فكرى متماسك، يتسم بوعى عميق بالتحولات النفسية والاجتماعية والسياسية التى يعيشها الإنسان المعاصر. يشكل هذا الكتاب المسرحى العمل الثلاثين فى مسيرة إبراهيم الحسينى، وهى مسيرة تمتد لأكثر من ربع قرن فى الكتابة النقدية والإبداعية، ترك خلالها بصمة واضحة فى مسار المسرح العربى، وقدم نصوصًا شكّلت علامات بارزة فى تجديد الخطاب المسرحى شكلًا ومضمونًا.
المسرحية الأولى بين دفتى هذا الكتاب هي: “مناخوليا” وتدور أحداثها داخل مستشفى للأمراض النفسية، لكن النص يتجاوز حدود المكان ليطرح تساؤلات مريرة عن طبيعة “الجنون” فى عالم أصبح العقل فيه عبئًا لا ميزة. الشخصيات التى تقطن هذا العالم المغلق ليست مجرد مرضى، بل تمثيلات مكثفة للواقع المهترئ خارج أسوار المستشفى، حيث تتحول السلطة الطبية إلى سلطة سياسية رمزية، ويتحول العلاج إلى قمع، والاختلاف فى الرأى إلى جريمة.
يستخدم الحسينى هنا الكوميديا السوداء بأسلوب ذكى حيث تتماهى المأساة مع النكتة، وتتحول السخرية إلى أداة تشريح نفسى وفلسفى. اللغة فى “مناخوليا” تقترب وتكثف لغة الحياة بشكل سلس وجمل حوارية سريعة ممتلئة بالرموز التى تحيلنا للواقع المعاش، لغة ذات نبرة عبثية تلامس الجوهر دون أن تقع فى فخ المباشرة أو الشعاراتية. واللافت أن الحسينى لا يقدم إجابات جاهزة بقدر ما يزرع الأسئلة فى عقل المتلقى، ويدع له حرية إعادة بناء المشهد من الداخل.
والمسرحية الثانية داخل الكتاب هى “طواحين الهوا” تؤكد خصوصية فعل الكتابة لدى الحسينى، فهى تقدم عالمًا فانتازيًا ساخرًا، تلتقى فيه شخصيات كاريكاتيرية مع واقع عبثى مفرط فى القسوة والرمز.
فأحداثها تدور داخل فندق مهجور يظهر كما لو كان أحد قلاع العصور الوسطى التى يسكنها الفرسان، تحيط به طواحين هواء خضراء، ويصل إليه شخصية هاربة من ماضيها لتجد نفسها محاصرة بشخصيات غرائبية: فتاة تبحث عن فارس وهمى، عصابة تحلم بسرقة جوهرة التاج، وساحرة عجوز تسيطر على من حولها بتعاويذها. كل شخصية فى النص تحمل دلالة رمزية، وتكشف عن نمط من أنماط حياة الإنسان المعاصر بين الخضوع، والسخرية، والتهرب، والتواطؤ.
“طواحين الهوا” ليست فقط نصًا مسرحيًا، بل تأمل درامى فى معنى الهروب، والسلطة، وترصد الشكل المعاصر لفكرة الغواية التى يجسدها ذلك الشيطان الناعم، الذى لا يحتاج إلى نار وقرون، بل يكفيه تقديم الوعود بالثراء والسلطة مقابل بيع الروح. ويرصد النص أحد تلك اللحظات المفصلية لبيع بعض ضحاياه أرواحهم عن طيب خاطر فى مشهد يحمل كل معانى التحول الأخلاقى والوجودى.
فى هذا النص يمزج الحسينى بين اللغة المحكية الساخرة والتكوين السريالى الفلسفى، مقدمًا نصًا متوترًا، عميقًا، ومفتوحًا على التأويل. وهو بذلك يواصل مشروعه المسرحى الذى يجمع بين العمق الفكرى والجرأة الفنية، ويعيد للمسرح العربى بريقه كمجال للتفكير لا للتلقين.
تُعد مسرحية “طواحين الهوا” نموذجًا حيًا على قدرة المسرح على طرح أسئلته الكبرى من خلال الحكاية الساخرة والرمز البسيط. وهى نص قابل للتقديم برؤى إخراجية متعددة.
أما المسرحية الثالثة، التى تحمل عنوان الكتاب؛ مسرحية “حكاية من الخيال” فهى على النقيض من المسرحيتين السابقتين، حيث تفتح الباب أمام العجائبية والفانتازيا، وتستخدم البنية الرمزية بأسلوب مغاير تبدو فيه المسرحية فى ظاهرها وكأنها حكاية خرافية، لكن سرعان ما يتكشف أن “الخيال” فيها ليس سوى مرآة أكثر دقة للواقع. القصة تدور حول كيان غامض، يهيمن على حياة مجموعة من الأفراد، ويدّعى أنه يحميهم من خطر ما، دون أن يتضح ما هو هذا الخطر. ومع تصاعد الأحداث، يتضح أن هذا الكيان الغامض ليس سوى استعارة للسلطة حين تنزع عنها قناعها، وتتحول إلى مؤسسة للإخضاع الفكرى والمعنوى. هنا يعود الحسينى إلى ثيماته المحببة: العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الحرية والخوف، بين الحقيقة والوهم. لكنه يقدمها هذه المرة بلغة شعرية رائقة، تتداخل فيها الحوارات مع الصور الشعرية مكثفة، تلك التى تمنح النص طابعًا تأمليًا دون أن تخرجه من سياقه الدرامى.
والمسرحيات الثلاث تشى بمقدرة الكاتب على خلق عوالم مغلقة لكنها مشبعة بالدلالات، وهو ما يعكس درايته بصناعة العوالم الدرامية، وما يلزمها من اقتصاد فى اللغة، وتوظيف ذكى للتقنيات المسرحية الحديثة. كذلك يظهر تأثره الواعى بتجارب عالمية متنوعة، لكنه لا يستنسخها، بل يعيد توطينها ببنية ولغة ذات خصوصية.
لا ينتمى الحسينى إلى مدرسة مسرحية واحدة، بل يدمج فى نصوصه عناصر من الواقعية الجديدة، والعبث، والكوميديا السوداء، والفنتازيا الرمزية، فى ما يشبه توليفة درامية شخصية باتت علامة خاصة داخل مشروعه المسرحى.
ويبدو أن ما يُثرى هذه النصوص أيضًا هو السياق الذى تخرج منه. فإبراهيم الحسينى ليس مجرد كاتب مسرحى، بل هو ناقد ومحلل وباحث، يشتغل بالمسرح كتابة وتنظيرًا وتدريسًا. حيث يشغل حاليًا منصب رئيس التحرير التنفيذى لجريدة “مسرحنا” الأسبوعية الصادرة عن وزارة الثقافة المصرية، ويدير ورشات للكتابة المسرحية والدرامية، وتُدرّس نصوصه فى جامعات مصرية وعربية. وقد صدر له حتى الآن أكثر من ثلاثين كتابًا فى المسرح والنقد، منها مسرحيات أصبحت علامات فى المسرح المصرى الحديث من مثل: جنة الحشاشين، باب عشق، أيام إخناتون، أخبار أهرام جمهورية، مذكرات سنوحى المصرى، ظل الحكايات، متحف الأعضاء البشرية، سجن فايف ستارز، وتغريبة آدم الليلكى، وكلها حصلت على جوائز وتم تقديمها على خشبات المسارح.
ولم يقتصر تأثير الحسينى على المشهد المحلى، بل امتد حضوره إلى الساحة الدولية، حيث تُرجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية، وقدم عدد منها فى مسارح عالمية، من بينها برودواى فى نيويورك، حيث عرضت مسرحيته Comedy of Sorrow” بإخراج وفريق عمل أمريكى عدة مرات وفى ولايات مختلفة، أهمها ماتم تقديمه على مسارح برودواى بنيويورك، فى العرض الذى أخرجته تريسى فرانسيس، ولعبت دور البطولة فيه نجلا، ابنة المفكر الفلسطينى الراحل إدوارد سعيد. كما ناقشت أعماله أطروحات أكاديمية لطلبة الماجستير والدكتوراه فى جامعات عربية وأجنبية، ما يعكس الجدية الفكرية والعمق الجمالى الذى تتسم به نصوصه.
وقد نال الحسينى عبر مسيرته العديد من الجوائز المرموقة، منها جائزة ساويرس الثقافية لكبار الكتاب، جائزة كاتب العام من جامعة هارفارد، جائزة التميز من اتحاد كتاب مصر، جائزة المجلس الأعلى للثقافة لأفضل نص مسرحى، وجائزة مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى. وهو بذلك يُعدّ واحدًا من القلائل الذين جمعوا بين الكتابة الإبداعية ذات الوعى الفنى، والكتابة النقدية ذات الخلفية المعرفية، مما منحه قدرة خاصة على إنتاج نصوص مركّبة، تقرأ الواقع بعين ناقدة دون أن تقع فى فخ التنظير الجاف.
يأتى كتاب “حكاية من الخيال ومسرحيات أخرى” إذًا ليضيف لبنة جديدة إلى مشروع مسرحى متكامل يسعى لإعادة المسرح إلى مكانته كمنصة للوعى، للمساءلة، وللتحريض الفكرى. إن ما يميز هذه النصوص الثلاث أنها لا تطرح خطابًا مغلقًا، بل تفتح أفقًا واسعًا للتأويل، وتحفّز القارئ أو المشاهد على المشاركة فى إنتاج المعنى. وهنا بالضبط تكمن أهمية المسرح الحقيقي: فى كونه مساحة للحوار المفتوح، لا مجرد استعراض للحكمة الجاهزة.
وبينما تستمر موجات المسرح التجارى فى غزو الخشبة العربية، يقدم الحسينى نموذجًا مضادًا، ينتمى إلى تقاليد المسرح الجاد دون أن يكون ثقيل الظل، ويخاطب العقل دون أن يغفل الجمال، ويكتب بلغته الخاصة التى تتجاوز اللحظة لتصير جزءًا من السياق المسرحى العربى المعاصر.
أخيرا “حكاية من الخيال ومسرحيات أخرى” ليس مجرد كتاب جديد، بل هو صوت من داخل المسرح، يصرخ بالأسئلة الكبرى، ويسخر من كل ما هو زائف، ويمنح الإنسان فسحة للتفكير فى إنسانيته وسط عالم مضطرب. هو كتاب يستحق أن يُقرأ، ويُعرض، ويُناقش، وربما يُستعاد مرارًا لاكتشاف ما بين سطوره من إشارات لا تنتهي.
أخيرا جدير بالذكر أن المسرحيات الثلاث تم تقديمها قبلا عدة مرات على خشبات المسارح المصرية كان آخرها تقديم المخرجة خيال حسن لمسرحية مناخوليا على مسرح الهوسابير، وتقديم مسرحية حكاية من الخيال على مسرح الأقصر من إخراج عماد عبدالعاطى، ومسرحية طواحين الهوا من إخراج شريف صلاح الدين.