آخر البحر.. أطياف يوريبيدس وثورة الجعايبي

آخر البحر.. أطياف يوريبيدس وثورة الجعايبي

العدد 867 صدر بتاريخ 8أبريل2024

ماذا تبقى فعلا من تلك الأسطورة اليونانية ما يمكنه أن يغذي مسرحنا اليوم؟ وهل نحتاج فعلا إلى العودة إلى تلك الأصول الغابرة ونبش أسرارها؟ وهل تحتمل تنزيلها اليوم في سياقات واقعنا المتحوّل؟
قد لا يكون «فاضل الجعايبي» خلال مساره الإبداعي الطويل مولعا بالأساطير اليونانية أو مهتما بالاشتغال عليها، ولا هو بالقارئ النهم لما كتب حولها من نصوص مسرحية وشعرية وتاريخية وفلسفية وعلمية ونقدية، لكنه وللحظة ما فارقة، لا يعرف سرّها الا هو، قد قرّر أن يستعين بتلك الأعمال التي ظلت بعيدة عن مدار احتياجاته في ما سبق ومركونة في رفوف الذاكرة، عكس الكثير من المخرجين المسرحيين في العالم كبرتولت بريشت، وانطوان فيتاز، وجون فيلار، وروجيه بلانشون و بيتر بروك و روبيرت ويلسون وغيرهم كثر، ممن تعاملوا مبكّرا مع تلك الآثار ،فعثروا مثلا  في أعمال لسوفوكل واسخيلوس ويوريبيدس، ظالتهم التي لطالما بحثوا عنها وربما وجدوها في تلك النفائس التي تنضح بالميتافيزيقا وسحر القرون الآفلة والشخصيات الملحمية والأحداث الصادمة.  

1. عود على بدء
في  سنة 2010 حينما دُعي «فاضل الجعايبي» إلى مسرح Shauspielhaus  بمدينة بوخوم في ألمانيا من أجل إقامة فنية مطولة تنتهي بإنجاز عمل مسرحي في تلك المؤسسة العريقة،  وهي ليست المرة الأولى التي يتعاون فيها «فاضل الجعايبي» مع مسارح عالمية خارج تونس  بل سبقتها تجربة مسرحية سميت «عرب برلين» سنة 2002 ، كما تم الاشتغال أيضا على رواية  المحاكمة «le procès» لرائد الكتابة الغرائبية والكابوسية التشيكي «فرانز كافكا»، وذلك في نفس المسرح ببوخوم بعد سنتين من مسرحية «ميديا» اي عام 2012، كما تعاون «فاضل الجعايبي» أيضا مع مسارح عالمية أخرى في فرنسا وكذلك في إيطاليا وأشهرها البيكولو في ميلانو Piccolo theatro Di Milano ، فهي إذن تجربة ثرية ومهمة لواحد من رواد المسرح العربي الحديث، ولا غرابة أن يجد هذه الحظوة والتقدير بمعية الفنانة «جليلة بكار» التي كلفت حينها بصياغة نص العرض الذي اقترحه مدير مسرح بوخوم، وتم الإتفاق على أسطورة «ميديا» ليوريبيدس كمنطلق للمشروع، ويمكن اعتبار تلك التجربة هي لحظة المواجهة الأولى بين «الجعايبي» وشخصية «ميديا»، مواجهة يبدو أنها لم تنتهي إلى اليوم، على الرغم من أن العمل حينها، قد دخل في الريبيرتوار الرسمي والدائم لذلك المسرح المهيب وتمتع بثلاث سنوات من التوزيع، بعد أن أحدث أثرا مهما في ألمانيا بالنظر إلى أبعاده البين ثقافية - interculturel- وسياقاته الفكرية والاجتماعية المتنوعة توّجت بنجاح تجربة التعاون مع مخرج تونسي(فاضل الجعايبي) ومؤلف تونسي (جليلة بكار) ودراماتورج ألماني ونص مرجعي يوناني، مع جمهور مختلط من جاليات أوروبية وآسيوية وعربية.
ولعل هذه التجربة المتنوعة ل»فاضل الجعايبي» والتي حُفرت أسسها في المسرح الجديد(1975)  مع «محمد إدريس» و»الحبيب المسرقي» و»فاضل الجزيري» وتواصلت في فرقة «فاميليا»(1992) مع «جليلة بكار» و»فاطمة بن سعيدان» و»حبيب بلهادي»، وصولا إلى إدارة المسرح الوطني التونسي(2014-2020)،  تتيح له إنتاج «مسرح نخبوي للجميع» كما يصف مساره، مسرح يصنع الدهشة ويتسلل إلى نفسية المتفرج ومزاجه وينفذ إلى ذاكرته ويخاطب حاضره ومستقبله بكل قسوة ليعيده إلى رهان التحرّر وضرورات الثورة على كل ما هو قيد اجتماعي أو لاهوتي او سياسي، ومن زاوية أخرى ،هو أيضا مسرح قادر على تطويع النصوص المرجعية لأدواته الجمالية وطرحه الفني، بالشكل الذي يجعل منها محاملَ فكرية لما يرغب في قوله اليوم، داخل الحاضنة الاجتماعية والسياسية ووفق رؤى فلسفية تنهل من الموروث الحداثي والميثولوجيا اليومية، وتساؤل المسارات والارتدادات والتصدّعات التي يعيشها ويتحمّل تبعاتها  المواطن التونسي والعربي عموما، في ظلّ احتدام الصراعات الاثنية وتصاعد أجيج الكراهية والعنصرية والحروب الدينية والانتقام واستفحال الجريمة والاستغلال وامتهان الجسد وانهيار منظومات حقوق الإنسان، واستفحال ظاهرة العنف ضد النساء والأقليات.
كلها عناصر تظافرت لتتيح لفاضل الجعايبي فرصة نموذجية لقول ما يجب أن يقال دون مواربة أو تزيين ووفق تقييمه للأوضاع التي يعيشها سواء بشكل مباشر أو تلك التي يتقبّلها عبر وسائل الإعلام والمواقع الإلكترونية.

2. أطياف يوريبيدس:
يبدو أن العرض في ملامحه النهائية ينحدر من سلاسة الملاحم العظيمة كالإلياذة  والاوديسة في القرن الثامن قبل الميلاد  في اليونان القديمة وأثرت بعدها في انتاجات العصر الهليني زمن الاسكندر الأكبر واسهمت في انتشار الفكر اليوناني في العالم قبل الحروب مع الرومان ، تلك الملاحم التي جعلت من الوجود مثالا حيا للغموض والحيرة، بعد أن اكتنزت في باطنها الصراعات الكبرى للآلهة والاقدار والإنسان في سياقات مأساوية وضارية، جعلت من تلك الأحداث أزلية وخالدة في المخيلة السردية للإنسانية، فهي ليست حكرا على مجال جغرافي بعينه وانما هي ملك للبشر، حيث يمكن اعتبارها التمثلات الأولى  للانطولوجيا وبداية تبلور التعبيرات الفنية التي تكشف عن رؤى مختلفة وجديدة للعالم، وتعززت تلك المدونة في عهد بيزيستراتوس الذي رافق الكتاب التراجيديين وشجعهم على المعارف والإبداع والاستلهام من الحكايات والأساطير وتثمينها في آثار أدبية خالدة مثل «أوديب ملكا» و»انتيغون» لسوفوكل،»الفرس» لاسخيلوس و»ميديا» ليوريبيدس،
ولا غرابة في أن تكون تلك الأعمال الطلائعية، مصادرا لاقتباسات كتاب عظام أثروا المدوّنة المسرحية، كالروماني لوكيوس سينيكا الذي عاش في القرن الأول ميلادي وقدّم رؤيته لمسرحية «ميديا» وفق فلسفته الروائية التي تنبني أساسا على شخصيات تخوض صراعات درامية حادة بين قوتين، العقل والحكمة من جهة، والعاطفة الجامحة والغريزة من جهة أخرى،  بالإضافة إلى جان أنوي الذي  شرح من خلال نصه المسرحي»ميديا» فلسفته القائمة على أن الانتقام غريزة في البشر وأن الإنسان ميّال إلى الشرور ولن يفتكّه من تلك الآفات التي تنكّل به ،سوى الموت. 
لقد واصلت أطياف يوريبيدس الطواف بيننا بعد مرور كل هذه القرون المتتالية، نظرا لطرازها التراجيدي النادر، وصنعتها الفنية التي جعلت منها مصدرا للإبداع وإعادة التفكير في النفس بوصفها كيان معقد يصعب فهمه وتحتمل أكثر من تأويل يمتزج فيه الميتافيزيقي بالواقعي،  وقد لا نبالغ إذا ما قلنا إن «آخر البحر» التي اقتبسها «فاضل الجعايبي» من فاجعة يوريبيدس قد مثلت حدثا ثقافيا مهما في تونس بداية هذا العام 2024، فهي استعادة جدية للأسطورة اليونانية بثوب آخر ومقترح فكري لا يتوقف عن مهاجمة التابوهات ودكّ الثوابت وإعادة طرح السؤال مجددا، من هو المذنب الحقيقي ؟.
يبدأ العرض من حيث انتهت خرافة «ميديا» الأصلية، أي بعد هروبها على عربة مجنّحة تقودها الثعابين في رحلتها نحو الشمس بعد اقترافها لفعل القتل (ذبح ولديها)، فهي تغادر حياة زوجها «جاسون» بعد أن اذاقته مر الانتقام جرّاء خيانته وغدره لها مع ابنة «كريون» ملك كورنث، فهي تفر من عدالة الأرض وتتجه نحو الأعالي بحثاً عن عدالة سماوية أكثر إنصافا.
وهنا يلتقي مصير «ميديا» يوريبيدس  ، ب»عاتقة «الفتاة اليمنية المثقفة التي ابتدعها خيال «فاضل الجعايبي» في محاولة ذكية منه لمحاورة الحكاية الأصلية ومعارضتها حسب ما يقتضيه واقع الحال في تونس، فتاة يمنية ضحت بأهلها وعشيرتها من أجل أن تدافع عن حبها للشاب التونسي «حمادي» ،الذي استطاع إقناعها بالهروب من اليمن والتوجه إلى قرطاج ومقاسمته حياة جديدة، في ظاهرها انعتاق، وفي باطنها آلام وقسوة لا يحتملها إنسان، وتمت حادثة الهروب بعد سرقة «عاتقة» لوثيقة تاريخية هامة من مكتبة والدها بناء على طلب الحبيب، وثيقة بمثابة كنز  لا يقدّر بثمن، ولم تكن تدرك ساعتها ،أن بفعلتها تلك ستلاحقها لعنة أجدادها، اذ أن جرمها هو خيانة للدم وللعائلة وللوطن، فتنقلب حياتها رأسا على عقب بعد إنجابها لتوأم، في زواج مستعجل من شخص غريب جمعتها به الأقدار ووقعت في حبّه، ولهذا لم يدم ذلك الزواج فترة طويلة خاصة بعد اكتشاف «عاتقة»، نيّة زوجها «حمّادي» التخلّي عنها والارتباط بشابة أخرى تجمعه بوالدها معاملات تجارية مربحة ومصيرية، مما يدفعه إلى التضحية بزوجته الأولى، رغم تنازلتها العظيمة من أجله وتحمّلها للأهوال والأخطار  وهي تقطع المحيطات في سبيل التحرّر من أسر العائلة والتقاليد والتنعم بقوانين الدولة التونسية التي تكفل في الظاهر حقوق المرأة بشكل كامل ضمن ما تحتويه مجلة الأحوال الشخصية من تشريعات ثورية مقارنة بدول أخرى شبيهة، غير أن «عاتقة» القادمة من ثقافة بعيدة تكتشف وبعد فوات الأوان أنها هربت من جحيم لتلج جحيما آخر، وتستمرّ مأساتها بعد قتلها لشقيقها الذي حاول مطاردتها وثنيها عن صنيع مشين ستدفع ثمنه العائلة عارا وإثما.

3. مؤسسات معطّبة:
ما الذي دفع فاضل الجعايبي إلى استحضار ميديا اليوم؟
إن متابعة العرض في أدق تفاصيله يكشف لنا أن الأسطورة تعيد نفسها بأشكال ومسمّيات مغايرة، لكنها تحافظ على هيكلها المقدّس الذي أنتجت من أجله، الا وهو السؤال العظيم حول المصير في مواجهة القدر، فإذا كانت “ميديا” ارتكبت إثما فظيعا تستحق بعده العقاب، فلماذا لا نتساءل عن السبب؟
ثمة إشكالية كبرى يحاول «فاضل الجعايبي» تنبيهنا اليها، وهي أن الجريمة يجب أن لا تقتصر على فاعلها بل تسحب كل من تسبب في وقوعها وتجرّه إلى ضوء الأحداث، فوجود الفاعل لوحده وحتى بعد اعترافه لا يكفي لإصدار الحكم وغلق القضية وحفظ الملف، لقد بدأت خيوط اللعبة الدراماتورجية التي حبكها العرض في التشكل، لنجد أنفسنا أمام قطبي الرحى : كتابة درامية كلاسيكية بنيت وفق ثوابت وأهمها وحدة الحدث والمكاشفة وتحول البطلة من السعادة إلى الشقاوة، لكن وفي الآن ذاته تراوغنا هذه الكتابة وتتبدى في ثوب معاصر فتنهل من التقطيع السينمائي وتتوسل السرد كوسيلة تغريب، كما تنحو نحو التشظي والاستطرادات أحيانا..،  وكتابة ركحية تضع الممثل محورا للفرجة وتتيح له كل عناصر العرض الأخرى وتطوع له الفضاء ليبدو في أقصى لحظاته التعبيرية جسدا وصوتا وحركة وتفاعلا حسيا، فهي مقاربة جمالية تبدو ما بعد حداثية في مستواها السينوغرافي التقشفي خاصة، لكنها تخدم في كل الأحوال رؤية العرض في وحدته وتكامله ولا تشوش على المتفرج متعة التواصل النفسي مع شخصيات الأحداث والتي تتحرك وفق مسارين يكشفها خطابها المسترسل حينا، أو المشفوع بالاستدراك حينا آخر.
ويمكن أن نصف المسار الأول بأنه مباشر، أي يمكن تقبله في صيغته الطبيعية والمثالية، اما المسار الثاني فيمكن وصفه بالمخاتل، اي ذلك الذي نستشف منه رمزية ما، يرغب الدراماتورج في توجيه انتباهنا له.
فالعرض إذن يقوم على ثنائيات متعددة، منها الظاهر والمكشوف ومنها المستتر، وليس من الهين جمع كل تلك المتضادات في سياق واحد، ولكن يمكن أن نلخصها في مفارقة عجيبة أتقن الدراماتورج حياكتها وصدّرها للمتفرّج وبشكل صادم ودون تغليف وتتمثل في مواجهة الأم المجرمة قاتلة أطفالها، والقاضية التي لم تسعفها الأقدار بالإنجاب رغم محاولاتها المتكررة، كلها شخصيات مرتبكة وفاقدة للقرار، بل أن «عاتقة» قد تبدو بينها أكثر اتزانا وحكمة.
يبدو أن العرض في تلك اللحظات التراجيدية قد كشف عن عمقه الفلسفي دفعة واحدة وهو ما أدى إلى تجاوز الحكاية الأصلية ليوريبيدس ومن ثمة التورط في أسئلة «فاضل» المفزعة،  حيث يبدو الكل قاصرا عن كشف الحقيقة المطلقة، فالقاضي مثلاً قد يرتبك ويسهو وتخرج أحكامه غير عادلة، والطبيب النفسي قد يهاجمه الاكتئاب أو تغلبه ميوله الجنسية، والمحامية البارعة يخونها ضميرها المهني فتتحول من نبل المهمة ورقيها إلى دنس التجارة بمصائر البشر، وكل هذه المؤسسات المذكورة، تعالج قضية «عاتقة»  المتلبسة بالجرم بعد اغراقها لولديها في البحر، فهي مؤسسات روتينية ومتخلفة بشكلها الحالي، وليست قادرة على تجاوز دوائرها المفرغة من اي اجتهاد أو التمرد على أحكام المجتمع شبه القروسطي والرافض للانزياح عن ثوابته القديمة.
إنها محاكمة شاملة لسنوات طويلة من الاستكانة للماضي والاطمئنان لما حققته دولة الاستقلال في تونس من مكتسبات حداثة غير مكتملة، ولم تشهد تطوراً ولا انفتاحاً بل بقيت حبيسة مقولات عقيمة وجمل جوفاء ترددها المحامية دون اقتناع، هي قيم أصابها الترهل وشارفت على أن تصبح مجرد فلكلور يثير السخرية.
لم تنجو «عاتقة» بفعلتها، لكنها أتمت انتقامها على أكمل وجه وواجهت الخيانة بأشد منها دون أن تحسب العواقب، بل تركت المجال لجموحها وجنونها، لتعطي درسا قاسياً لمجتمع الفضيلة المصطنعة، فهي ليست حكاية عابرة تروى في أقسام المحاكم وإنما هي ملحمة أسطورية خاضتها امرأة وحيدة في مواجهة الجميع.


وليد الدغسني