هشاشة الوطن البديل في مسرحية «لجوء»

هشاشة الوطن البديل في مسرحية «لجوء»

العدد 866 صدر بتاريخ 1أبريل2024

تناقش الكاتبة العمانية شيخة بنت عبد الله الفجرية قضية مهمة جدا تتفجر في كل الأزمنة وخصوصا في الوقت الحاضر؛ وهي قضية اللجوء والتي تمثل هاجسًا للكثير من الدول التي يلجأ إليها اللاجئون وفي نفس الوقت يمثل متنفسا للدول التي خرجوا منها نتيجة الحروب، وما بين الطرفين تكمن المأساة الإنسانية والمعاناة الحقيقية التي يعيشها هؤلاء اللاجئون سواء بالخروج قسرًا من أوطانهم التي عاشوا فيها طيلة حياتهم واختيار الوطن البديل وانتظار سماحه لهم بالدخول، أو بقاءهم في مخيمات بمناطق حدودية يواجهون فيها خطرًا حقيقيًا؛ بدءا من قلة الإمدادات والظروف الطقسية الصعبة وصعوبة العناية بالأطفال الذين خرجوا معهم والأمن والشعور بالأمان. استخدمت شيخة الفجرية مجهرا على تلك المخيمات فكتبت مسرحيتها «لجوء».
استطاعت الفجرية أن ترسم مخيمًا للجوء بشخصياته الخمس التي مثلت كل من يعيش في مخيم وما يواجهه من مشكلات اجتماعية وربما سياسية وأخطار حقيقية. لم تحدد مخيمًا بعينة ولكنها وضعت الحدث الدرامي في أي مخيم في العالم، يُفهم من ذلك التنويه أن الحدث الدرامي الذي نحن بصدده قد يحدث في أي مخيم في العالم، ذلك التعميم يدق ناقوس الخطر ويلفت الانتباه إلى تلك المجتمعات المنغلقة التي تواجه النكبات بشكل متتالٍ، وما ينجم عنها من خلق مواطنين يكرهون تلك المجتمعات الخارجين منها أو التي ينتظرون الدخول إليها، وينظرون إليهم بأنهم سلبوا منهم حريتهم وأمنهم وأمانهم المفقود.
تستهل شيخة الفجرية مسرحيتها «لجوء» باستخدام تقنية الاسترجاع في المشهد الأول حينما يدخل رجال في مخيم لجوء ليلا بالنعش في منزل أم مكلومة ماتت ابنتها إثر عملية اغتصاب وحشية، تناجي الأم ابنتها وتلومها لأنها لم تتخذ الحيطة والحذر وخصوصا في زمن الحروب إذ أن انتهاك الحرمات من ملامح تلك الحروب، وأن النساء أكثر المستهدفين ونفهم أنها كانت تلقنها عدم الاستسلام. /الاستسلام ربح نصف المعركة/ ألم أخبرك بأن الحروب أفخاخا تنصب لاصطياد النساء؟/عليَّ أن أتجرع عاصفة العار التي تعتصرني وحيدة/ لن أعيش بقلبٍ يفور ويغلي من الغضب، بينما يمررُ مغتصبوك ألسنتهم على شفاههم، متلذذين بما نالوه منك. إن المشهد الاسترجاعي جاء ليفجر المسكوت عنه في قضايا اللاجئين وليمهد للحدث الدرامي من خلال شخصية الأم التي تبدو أنها واعية ومدركة لتلك القضايا.
في المشهد الثاني تفجر الأم قضية أخرى وهي قلة الدواء في المخيمات إذ أن ابنتها ريحانة المريضة تحتاج للدواء والطعام، فتتحرك وهي حائرة وتفكر إذا ما قامت بحياكة الملابس فهل تستطيع توفير تلك الاحتياجات؟ بينما تفهم ابنتها أن الأم لا تستطيع توفير الدواء لها بشكل منتظم لكنها لا تملك من أمرها شيئا. /إن ابنتي تتألم، ابنتي تعاني، كيف أخفف من معاناتها يا الله؟ لم يعد الدواء يكفي؛ ولم يعد هناك مالٌ لشراء دواءٌ آخر/ وما بين حزن الأم على ابنتها وعجزها عن توفير الطعام والدواء لها ومرض ريحانة وحزنها على قلة حيلة أمها يتنامي الحدث الدرامي ويضع الشخصيتين في مواجهة المجهول الذي لا ترجى منه أي بادرة أمل.
يقول عبد القادر القط في كتابه “من فنون الأدب المسرحية”: لا شك أن سلوك الشخصية وما تأتيه من أفعال وما تتصرف به في بعض المواقف خير وسيلة تفصح عن طبيعة تلك الشخصية وقيمها وتكوينها النفسي أو الخلقي أو الفكري أو غير ذلك من جوانب النفس الإنسانية. في المشهد التالي ترسم لنا شيخة الفجرية شخصية أخرى مختلفة تماما في خيط درامي آخر له صله وثيقة بالخط الرئيسي؛ شخصية شريف زوج ريحانه السكير الذي لا يفيق من ثمالته، إذ يتواجد في الحانة ولكنه لا يستطيع دفع المال مقابل الشراب لكنهم يطردونه ويسير في الشارع دون هدي ينعي حظه وقل حيلته لأنه لا يعمل وينتظر زكاة من القادرين، وفي المشهد الذي يليه نجد شريف وهو يقف عاجزا أمام زوجته ريحانه المريضة وتأنيب أمها له لأنه لا يستطيع مساعدة زوجته.
المقصود بالبناء الدرامي هو التطور في بنية التركيبة المسرحية، وصولا إلى ذروتها ومن ثم إلى نتائجها النهائية. هكذا يحلل المختصون في علم المسرح قواعد المسرح الكلاسيكي والمسرح الواقعي ويقسمونها إلى مراحل تبدأ بالمقدمة أو المشاهد الاستهلالية، وتمر بمرحلة الصراع أو ما يسمى بالعقدة، بعدها تأتي النهاية لتشكل حلًا للمشكلة نفسها. جاء البناء الدرامي في مسرحية “لجوء” متينا يثير التخيل لدي المتلقي وبنسيج محكم من خلال حبكة محكمة تتسم بالدينامية والتوتر والتفاعلية وشخصيات تتولد فيها الطاقات وحوار تفاعلي دال، إنه بناء قائم على الهدم والتغيير ومن ثم إعادة البناء بتكنيك واعٍ، وأن الحبكة باستمراريتها تتحكم في حركات الفعل الدرامي وتوجهه وفقًا لضرورتها كما أنها سوف تتدفق وتساهم في إعادة تشكيل الحدث ونموه الذي يصل إلى نقطة التأزم من خلال شخصية الأم والبنت. يحتشد البناء الدرامي بالإشارات والدلالات سواء كانت ذاتية أو تقابلية أو مسكوت عنها أنتجتها الاستعارة ليكتمل البناء الدرامي.
تلجأ شخصية شريف إلى البحث عن الضوء وهو يرمز إلى الوعي الذي يجب أن يتحلى به في ظل ظروفه الصعبة بعد أن اغتصب المجرمون زوجته، ذلك الضوء هو الأمل في الأمن والأمان الذي يفتقده اللاجئون، فيظل في مناجاة نفسية تظهر دواخله المحطمة وينعي وجوده الإنساني في ظل عالم جاحد، يلجأ شريف للشراب حتى ينسى مأساته التي تسببت فيها الحروب، يبحث عن ظلال شخصيته تحت ضوء قمر لا يعي أزمته ولا يساهم في حلها ويلقي اللوم عليه/أنت السبب، تمثل مناجاة شريف الوعي الحقيقي للمسرحية بعد مناجاة الأم في المشهد الأول التي تعتبر مفتاح النص، وبرغم شخصية شريف المحطمة إلا أنه يعتبر العمود المكسور في الأسرة والذي لا تزال الأم تضع فيه بارقة أمل للخروج من أزماتهم الاجتماعية.
جاءت اللغة الحوارية بسيطة ومكثفة برغم أنها تحمل دلالات كثيرة وعبّرت عن الفكرة بشكل ميسر وأتاحت للشخصيات أن تتشكل وتأخذ دورها في تنامي الحدث المسرحي، وتحمل في كلماتها آلاما داخلية وفرتها مقاطع المونولوج وساهمت بشكل كبير في وجود مزيج من الحالة الملحمية التي تحتاجها الفكرة الأساسية لتضفي عليها جوًا من الدرامية. 
يمثل المشهد التالي ذروة الأحداث إذ يعود الأب بعد غياب عام كامل، فر فيها من الظروف القاسية التي مروا بها، وحينما تناقش الأم سبب غيابه تتفجر الأحداث بالسر العظيم إذ يفشيه في وجود زوج ريحانه، يؤكد أن ريحانة ليست ابنته ولا ابنتها، وأن الأم قتلت ريحانه بعد أن اغتصبها المجرمون في مخيم لاجئين سابق، وأن المريضة التي تنتظر الدواء ليست ريحانة، ويؤكد شريف وريحانة ذلك/ ريحانة: نعم أعلم، أعلم أنني لستُ ابنتكما/ البنت: (تحمل ملفًا في يدها/ بهدوء) تعلمين جيدًا لماذا تنصب مخيمات اللجوء بعد العبث ببلداننا!!. فجرت الابنة البديلة حقيقة عمل الأم إذ أنها صيدلانية. ثم تقول:/ لقد تأذت عيني وأنا أحاول الهرب من الكلاب الجنسية الضالة، تلك الكلاب التي تجوب مخيمات اللاجئين في العالم لتهتك الحرمات، وتقتل الكرامات. نكتشف أن الأم قتلت ريحانة خشية العار بعد اغتصابها. كما نكتشف أنها تحاول قتل الابنة البديلة ببطء بالدواء لأنها تحاول ابتكار عدو تشفي فيه غليلها.
تتجلى الأزمة الحقيقية بنمو الحدث الدرامي في حديث الابنة البديلة والأم إذ تتكشف حقائق كثيرة منها أن الأم تعتبر البنات يأتين بالعار بينما أوهمت الابنة البديلة الأم بأنها عمياء حتى تكتشف حقيقتها لكنها ارتضت بالأمر الواقع لأنها تحتاج إلى ملاذ أو لجوء./أوهمتك أنني عمياء لا أرى شيئًا، لأنني لم أرد المواجهة، كنت بحاجةٍ إلى لجوءٍ يوفر لي الراحة والحماية والرعاية والمداراة، وقد وجدت كل ذلك في خداعك، كان كلانا تخدع الأخرى. تعترف الأم بما اقترفته من قتل ابنتها ريحانة، وتبرر ذلك بأنها تكشف حقيقة المخيمات وأزمة اللاجئين./ليست جميع الدول التي تقيم مخيمات اللاجئين تتعهد بحمايتهم. وتكشف أن هناك دولا تتسول من الدول الغنية باسم اللاجئين لتنهب المساعدات وتترك اللاجئين نهبا لأطماع الآخرين وللجوع وسارقي الأعضاء البشرية وللقتلة.
يقول رشاد رشدي في كتابه “فن كتابة المسرحية”: إن الكاتب الجاد يبرر أحداثه تبريرًا قويًا وأن يمهد في كل جزء للجزء الذي يليه، وهو لا يمهد لتطور حدثه تمهيدًا مباشرًا ولكنه يوحي به ويعطينا من المعلومات ما يجعلنا نتوقع هذا التطور وعملية التمهيد هذه جزء لا يتجزأ من مهمة الكاتب المسرحي فهو يمهد للحدث اللاحق بطريقتين، بإشارات خفيفة توحي به، وبخلق الجو الملائم الذي يمهد له.
في المشهد الأخير تقوم الأم الشخصية الرئيسية بمعرفة ما يجب أن تقوم به، أن تتمرد على الأوضاع السيئة، وتحاول تغيير الواقع الأليم، أن تواجه وتصمد ولا تواري وجهها في الرمال، تقول: سأقول لكل مغتصب حقير، لسنا ضعيفات، لسنا ضعيفات لتسرقوا أرواحنا.
استطاعت الكاتبة المسرحية شيخة الفجرية أن تغوص في أعماق الشخصيات وأن تفجر المأساة التي يعيشونها، طرقت على قضية ملتهبة جدا وهي قضية اللاجئين في المخيمات، وضعت يدها على الأمراض الاجتماعية التي يعانون منها. اختارت موضوعًا عصريًا يواكب النكبات التي تتعرض لها بعض الدول بسبب الحروب وتؤثر بشكل مباشر على مواطنيها فتتفجر معاناة الخارجين منها ومن ثم يلوذون بالمخيمات بصفتها حلا مؤقتا لكنه قد يطول. برعت في تقديم شخصيات حية من خلال بناء محكم وحدث درامي يحتوي على تفرعات درامية تشابكت في النهاية فجاءت مسرحية “لجوء” نتمنى أن تتحول إلى عرض مسرحي يشاهده جمهور حي يلمس قضية اللجوء ومأساة اللاجئين في وطن بديل هش.


ترجمة عبد السلام إبراهيم