الأداء التمثيلي وتطوير العرض المسرحي

الأداء التمثيلي وتطوير العرض المسرحي

العدد 866 صدر بتاريخ 1أبريل2024

إن كان « مارتن إيسلن « يرجع تاريخ « الدراما الحركية « إلى المسرح اليوناني القديم اعتماداً على المعجم اللغوي لكلمة «دراما « ففي اللغة اليونانية كلمة « دراما» تعني ببساطة حركة، الدراما حركة محاكية، حركة تقلد أو تمثل سلوكا إنسانياً والجانب الحاسم هو التركيز على « الحركة»
فإنه منذ  بداية « الفعل المسرحي « ظهر سؤال جوهري هو: هل يمكن أن تتحقق الدراما بوسائل أخرى غير الكلمة المكتوبة؟ 
وإن تطورت الفكرة عند رواد المسرح التجريبي في العالم أمثال « أرتو « و» كوكتو» و» بريخت « و» مايرخولد « الذي كان من أوائل الداعين إلى فكرة المسرح المفتوح في التخلي عن الوضعية التقليدية لبنية المسرح والاندماج الكامل مع انفعالات الجمهور ، فيقول : 
«إن المسرح الشرطي ، بعد أن يحطم الأضواء الأمامية ، سينزل بخشبة المسرح إلى مستوى الصالة ، وبعد أن يُبنى نطق وحركة الممثلين إيقاعياً، سيقرب إمكانية إنبعاث الرقص، أما الكلمة فسيكون من السهل أن تتحول في هذا المسرح، إلى صرخة ملحنة وصمت مموسق».
فى بحثه الدءوب عن جوهر المسرح يرى «جرتوفسكي» أنه يمكن للعمل أن يتم بدون مكياج أو ديكور أو أزياء أو إضاءة أو مؤثرات لكنه لا يمكن أن يوجد دون تلك العلاقة الحية بين الممثل والمتفرج، وهذه الدعوة تنبني ـ في الأساس ـ على رفض تام لكل آليات المسرح التقليدي.
وهذا التصور الشكلي يأتي من تصور مواز ينبثق من الروح الإنسانية حيث كان يهتم بـ “عرض العملية الروحية للممثل لا يشترط فيه أن يكون محترفا، فالمهارة التمثيلية إنما تتأتى بإقامة ورش فنية تهتم بطرق الأداء المختلفة في محاولة لبناء نسق جديد يعتمد على اختراق حاجز اللحظة الشعورية لدى المتلقي ولن يتأتى ذلك إلا بالاندماج الكامل أو على حد تعبير ستانسلافسكي “إن الممثل يجب أن يكون قادرا على التعبير ـ بالصوت ـ عن تلك الدفعات التى تتذبذب على الحدود الفاصلة بينه والحقيقة، إنه باختصار يجب أن يكون قادرا على أن يبنى لغة التحليل النفسي الخاصة به للأصوات علي نفس النحو الذي يبني الشاعر العظيم قصيدته من كلمات وهو يقصد بذلك القفز على الحواجز الفاصلة بين الممثل ـ باعتباره مؤديا وبين شخصيته الحقيقية في الحياة ـ من ناحية، ومن ناحية أخرى تفتيت الهوية بين شخصية الممثل والجمهور فى محاولة لإقامة جدلية مسرحية تتوازى مع العرض بفضاءاته المختلفة، دون طغيان معرفي لفكرة التكنيك.
«المسرح - إذن- هو فن المغامرة والبحث عن صيغ تجريبية دائما، لذا نراه عبر تاريخه الطويل قد تعددت أشكاله من خلال تنوع طرق الأداء في التمثيل والتأليف والإخراج ويكاد يكون هو أكثر الفنون كسرا للنمط, فما أكثر المحاولات الجادة للخروج عن الشكل التقليدي للمسرح من أجل الوصول بذائقة الجماهير إلى حالات من المغايرة و الدهشة، وهذا التجريب لا يتأتى إلا من خلال مبادرات فنية فردية كانت أو جماعية ترتبط بالواقع السياسي والاجتماعي، وتهتم هذه المحاولات -في الأساس- بتنمية المهارات الفنية والأدائية لدي الممثل، من خلال التدريب الشاق والمستمر على فنون الأداء المختلفة»
والمسرح ـ عبر تاريخه الطويل ـ اعتمد على عنصرين فنيين في التجديد هما تنوع طرق الأداء التعبيري وعملية التلقي المتصاعد من قبل الجمهور مما نتج عنه سقوط الحواجز في علاقة تبادلية أنتجت أنساق جديدة تعتمد على مسرحة فضاءات جامدة مهملة لم تكن مستخدمة من قبل في العرض المسرحي من أجل تثوير الوعي الغائب وإعطائه إمكانيات للحضور لم يأخذها في فترات سابقة.
منذ أرسطو والشخصية الدرامية هي المكون الجوهري الفارق والمميز للدراما عن غيرها من الفنون وخاصة السرد الذي يقوم على شخصية سردية، وفي هذا يقول أرسطو: «وتتم هذه المحاكاة في شكل درامي لا في شكل سردي» وهو يوضح المقصود بالشكل الدرامي حين يقول: إن المحاكاة يقوم بها أناس يفعلون «فالدراما التي هي فعل لا تقوم إلا بوجود الفاعلين/الشخصيات/الممثلين على خشبة المسرح، وهو ما يعبر عنه أرسطو أيضا إذ يقول: «إن الفعل يقضي بوجود بعض الأشخاص كي يؤدوه، وإن لهؤلاء الأشخاص بالضرورة – بعض الخصائص المميزة».
وهناك العديد من الأمثلة والنماذج على أهمية الشخصية في بناء الدراما، وعلى ضرورة معرفة المؤلف بشخصياته قبل أن يكتب، وربما يذهب رأي إلى أن هذا الأمر من البديهيات التي لا تحتاج إلى حشد الآراء لإثباتها ولا حتى للنماذج الثلاثة السابقة، لكن واقع الكتابة المسرحية يثبت أن هذه البديهية عند البعض طلاسم، فالاهتمام بمعرفة وبناء الشخصية ليس موضوعًا محسومًا ومسلمًا به ومنتهيًا، لكن الأهم من هذا هو اعتبار النص المطبوع نقطة انطلاق لكل صناع العرض، الذين من حقهم على المؤلف، بل ومن حق المؤلف نفسه على نفسه، ألا يدخر وسعا في ضبط جميع علامات نصه بحيث يكون واضحا في غير مباشرة، وممتلئا في غير تعقيد ولا إبهام، وجزء أساس من مهمة المؤلف هذه، تتعلق بمعرفته وبنائه لشخصياته ليعرفه القارئ/المخرج/الممثل/السينوغراف/الموسيقي/الكريوجراف كما يعرفها المؤلف، وللجميع بقيادة المخرج فيما بعد أن يتفقوا مع المؤلف أو يختلفوا، أن يلتزموا أو لا يلتزموا بما كتبه عن شخصياته، وهنا يكون أمام النقد مجال أوسع للمقارنة والتحليل، ويكون أمام الجمهور كذلك مجال أوسع للاستمتاع بإبداع  المؤلف وإبداع  المخرج في حالات الاتفاق والاختلاف بدرجاتهم. مما يساهم في حل بعض مشكلات الواقع المسرحي الخاصة بالخلافات بين المخرج والمؤلف، والتي كتب عنها على سبيل المثال نجيب سرور تحت عنوان الصراع بين المؤلف والمخرج، في كتابه حوار في المسرح فالمؤلف بوعيه بأن هذا النص يكتب في الأساس لكي يعرض، يعي أن عليه أن يكتب به كل ما من شأنه أن يساعد كل فناني العرض بقيادة المخرج على فهم النص فهما عميقا، وبالتالي بناء منظوماتهم العلاماتية فوق منظومة واضحة ومبنية بإحكام، وليس مجرد تفريغ لشحنة انفعالية، أو ذهنية في قالب حواري يأخذ من النص المسرحي شكله الخارجي كقشرة لا تحوي بداخلها لا دراما ولا مسرح، وهو ما يحدث غالبا عند المؤلفين المبتدئين.
تعد ملامح الشخصية التعبيرية من أهم العناصر الدالة على الدراما التعبيرية بشكل عام، حيث تتكرر ملامح هذه الشخصية ضمن سمات التعبيرية في غالبية المراجع، لكن هذه الملامح لا تتميز بما تتميز به مثلا «خصائص الشخصية التراجيدية» في كتاب فن الشعر لأرسطو فالتعبيرية التي اتجه مبدعوها لتصوير «الحقيقة الداخلية للنفس البشرية») لم تهتم بتصوير العالم تصويرا موضوعيا، بل إن المبدع التعبيري عامة، والمؤلف المسرحي. كلما اتجه رسم الشخصية لداخل النفس البشرية للمؤلف أو للشخصية، كان هناك من الخصوصية في كل تجربة ما يصعب أحيانًا الوصول لقاسم مشترك كبير وواضح تقنيا، يمثل علامة دالة بغير لبس على ملامح الشخصية الدرامية التعبيرية.
والمسرح التجريبي هو المسرح الأكثر جذبا للجمهور، لأنه يقوم على عناصر مهمة منها الإدهاش، وكسر حاجز التوقع، والفعل الجماعي، من خلال التفاعلية المتنامية أثناء العرض، فكل عنصر من عناصر العمل المسرحي يحس بذاته وبأهميته وبأن له دورا فاعلا في العملية المسرحية.   
وأصبحت كثير من دراسات المسرح والأداء تؤكد على فكرة ضرورة المشاركة مع الجمهور، ولعل الصيحة التي أطلقها الفنان الفرنسي “جان جاك لابل” عام 1968م، والتي دعا فيها إلى التقارب بين المسرح والجمهور والتي يقول فيها: “لا لمسرح أو مشاهد باهظة الثمن من أجل جمهور سلبي من المستهلكين- ولكن مؤسسة جماعية حقا في البحوث السياسية والفنية، ويجري التجريب على نوع جديد من العلاقة بين منفذيها والمتفرجين.
 الصيحة كانت ضمن صيحات متعددة، كانت بداية لفكرة التجريب المسرحي في الغرب، والذي كان “ثورة وخروجا على المؤسسات ونزوعا دائما إلى ربط الفن بالحياة.
إن التيار الرئيسي في المسرح الطليعي لا يمكن تحديده بمجرد وجود سمات أسلوبية مشتركة، وإن كانت هذه السمات شديدة الوضوح، إنما يعد المسرح الطليعي في أساسه توجها فلسفيا،، فأعضاء هذا المسرح يربطهم توجه معين إزاء المجتمع، كما يربطهم توجه جمالي خاص، ورغبة في إعادة صياغة طبيعة العرض المسرح”.
من هذا المنطلق جاءت تجربة “مسرح الشمس” التي تأسست عام 1964 على يد “أريان منوشكين”، وأصبح مسرحهم “من أشهر المسارح في أوروبا، وقد سعى باستمرار وتصميم إلى أن يدخل تعديلات ممتازة في شكل الأداء المسرحي ونظرية المسرح باعتبار أن المسرح لونا من ألوان الممارسة الاجتماعية”.
ولقد رأينا فن “المسرح” في تلك العلاقة الحميمية “التلامسية” المباشرة فيما بين الممثل وبين الجمهور حيث تكمن فيها عناصر السحر والعمل معا.. وذلك من خلال القدرة التوليدية للمسرح ـ كظاهرة اجتماعية ـ على إبداع شرارة التواصل الإنساني الفعال “بالحركة والصوت والكلمة وبالإشارة والإيقاع..” أيضا من خلال قدرة المسرح ـ كحالة جماعية متميزة ـ على اتاحة المجال لتبادل الأدوار والذوبان الجمعي في مناطق شعورية مستحيلة، وأزمنة لا شعورية حالمة، بعيدة الغور في أعماق كل من قطبي العملية المسرحية “ممثل/ جمهور”.


عيد عبد الحليم