أنا وأنت وسواد عينيها!!

أنا وأنت وسواد عينيها!!

العدد 863 صدر بتاريخ 11مارس2024

من عادة الريحاني ألا يعرض مسرحيته الجديدة أكثر من أسبوعين، ثم يعرض المسرحية الجديدة التالية، أو يعرض عروضاً من مخزونه السابق «الريبرتوار» تمهيداً للعرض الجديد .. هذا التقليد لم يلتزم به الريحاني - في ذلك الوقت - حيث ظل يعرض مسرحيته «ياسمينة» فترة ليست بالقصيرة، ثم توقف ولم يعرض عروضاً جديدة أو قديمة طوال أكثر من شهر كامل، رغم أنه أعلن في مجلة «ألف صنف وصنف» أنه سيبدأ في عرض مسرحيته الجديدة «أنا وأنت» يوم 20 نوفمبر 1928 .. ولكنه عرضها في يناير 1929.
ومسرحية «أنا وأنت» تأليف الريحاني وبديع خيري وبطولة «بديعة مصابني» مع بقية أفراد فرقة الريحاني، وتدور أحداثها - كما نشرتها مجلة «المصور» - حول رجل ريفي استطاب أن يقبع في عقر داره ويقتنع بما وهبه الله من أرض واسعة وبما رزقه من أملاك شاسعة، غير أنه لم يستمر محافظاً على البقاء في بيته فآثر أن يقذف بنفسه في تيار المدنيّة الجارف، وإذا به في كازينو «سان أستفانو» بالإسكندرية يستعرض أمام بصره ما فعل التمدين بجميع طبقات الشعب. فهؤلاء أساتذة قد خلعوا طرابيشهم وأمعنوا فى لعب كرة القدم، وهؤلاء نسوة قد خلعن أستار الحجاب وظهروا في الأسواق لا يستر قميصهن ما بعد الركبتين. وقد لعب مقص الحلاق بشعورهن السوداء الحالكة فأتى عليها .. إلى غير ذلك من مبتكرات ومبتدعات، وقد أراد الرجل الريفي «محفوظ بك» أن يقترن بفتاة من هذا النوع فاجتذبه مبروك إلى إحداهن «السيدة بديعة» وظل مبروك هذا يغري الفتاة وهي معرضة، بينما تطمح والدتها إلى هذا القران طمعاً في ثروة الرجل. وما هي إلا أن قبلت حتى نقلت هذا الريفي الساذج إلى حياة غير التي تهيأت له. فلبس ملابس الشارلستون واندمج في الوسط الأرستقراطي، فكان كالغراب الذي أراد أن يقلد العصفور فعجز عن ذلك! وبعد مرور الزمن وتوالي التجارب القاسية المُرّة يفوق «محفوظ بك» من غشيته فينتزع نفسه وامرأته من هذا الوسط الذي يعيشان فيه، ويجعل من تلك التجارب عظة له في مقتبل حياته!
كتب «سهيل» - ناقد مجلة «المصور» - كلمة عن العرض قال فيها: إن مسرحية «أنا وأنت» استعراضية، وأمر نجاحها أو سقوطها متوقف على مناظرها ومواقفها المضحكة. ونستطيع أن نؤكد أن المناظر كانت غاية في الإتقان، وأن المواقف المثيرة للضحك كانت تتتابع أمامنا فتفقد المرء حواسه ويستغرق في قهقهة مستمرة. كذلك رأينا محفوظ في مضاربة عائلية وقد أمسكت زوجته بتلابيبه وطفق مبروك يضربه بمظلته وخادمه بالوسادة حتى أشبعوه ضرباً، وهو بينهم يتلوى بحركات فنية ظريفة كانت مثار سرور لا حد له، ولو أردنا سرد كل شيء لاستغرق الأمر نقل الرواية بحذافيرها. على أن ذلك لا يمنع من توجيه النظر إلى أن ختام الفصل الثاني لم يكن في محله فقد شاهدنا مضاربة الزوجين وعقب ذلك مباشرة خرج الزوج وبقيت هي مع فتاتين أخريين يغنين أنشودة الختام. ثم «حملوظ» هذا!! لقد رأيناه كملح الطعام يتدخل في كل شيء ودون أية مناسبة، ففي بيت الزوجين كان «صاحب مطرح»! مع أنه لا علاقة تربطه بالرجل بتاتاً. وقد كان نجيب الريحاني في دور «محفوظ بك» كعهده من النجاح الذي أصبح من تحصيل الحاصل أن يصفه الكاتب!! كما كانت السيدة بديعة رشيقة في دورها وغنائها. وحسبك منها أن الرواية كانت في مبدئها فاترة حتى إذا دخلت بديعة بثت فيها روح النشاط والحياة. وقد أعجبني حسين إبراهيم في دور «الوالدة» إذ كان مقلداً للمرأة كل التقليد. كما كان سيد سليمان وزميله حسين في أنشودة لاعبي الكرة مبدعين حقاً. وحبذا لو استبدلا «ببنطلونيهما» رداءً قصيراً من أردية كرة القدم. أما عبد النبي الذي قام بدور «مبرو» فقد كان ظريفاً في دوره محافظاً في المواقف على شيخوخته، وبذلك نجح في إظهار الشخصية المسندة إليه.
ويشاء القدر أن ينشر «فؤاد مشنوق» أول مقالة نقدية له في جريدة «السفير»، وكانت عن مسرحية «أنا وأنت»، وتم نشرها في اليوم نفسه الذي نشر فيه «سهيل» مقالته في مجلة «المصور» عن المسرحية نفسها!! وهذا يعني أن أحدهما لم يطلع ولم يقرأ مقالة الآخر، وبالتالي لم يتأثر بها!! أقول هذا لأن «فؤاد مشنوق» كتب مقالة مختلفة عن مقالة نظيره في مضمونها وهدفها، بل وفي تفاصيل موضوعها، وفيها يقول تحت عنوان «ما رأيت وما سمعت في ملاهي العاصمة ومسارحها»: اعتمدتني جريدة السفير مندوباً لها في الدوائر المسرحية والتمثيلية وإني لشاكر لها هذه الثقة فموافيها بأولى رسائلي!! «أنا وأنت» هي ثاني الروايات التي شهدتها على مسرح الريحاني، وإذا كانت حديثة العهد لم تمض على مباشرة تمثيلها أسبوع واحد فقد يكون واجباً أن أتحدث لقرائي عنها فأقرر صراحة أنها رواية مفككة العرى غير مرتبطة الحوادث وهي من نوع الفودفيل الذي عودتنا فرقة الريحاني أن تبدع في إخراجه وتفوق حد الإتقان في تمثيله، غير أنني أقرر آسفاً أن البون شاسع بين ما تعودناه من هذه الفرقة المحبوبة وهذا الذي شهدناه من الرواية الجديدة على وجه الإجمال.
ثم قام «فؤاد مشنوق» بذكر ملخص للمسرحية - به تفاصيل جديدة عما أورده الناقد «سهيل» في مجلة «المصور» - قال فيه: أما موضوع الرواية فهو يرمي إلى فكرة اجتماعية كبيرة، ولو أن التآلف وسبك الموضوع كانا محكمين، ولو كان الإخراج منظماً .. لاستطاعت أن تستفيد منه! «روزينا» فتاة من عائلة متوسطة الحال تعلمت تعليماً راقياً وهي ما دامت متعلمة إلى هذا الحد وجب أن تأخذ بكل أسباب الترف وكل وسائل التهتك ومطلق أنواع الحريات!! فهي تسوق سيارتها .. وهي لا تنقطع عن صالات الرقص ليلة واحدة .. وهي لا تنفر من معاشرة الرجال والاحتكاك بأوساطهم ومجتمعاتهم .. ولا تريد أن تسكن إلا بالقصور الفخيمة .. ولا ترضى بأن تكون مؤتمرة بأمر كبير البيت أو كبيرته .. ولا يروقها إلا غشيان الأوساط الارستقراطية والتعرف إلى الكبراء والعظماء. وهناك الفلاح الثري «محفوظ بك» يطلب الزواج من فتاة من بنات المدن فيذهب إلى صديق له قديم يدعى «مبروك أفندي» فيفاتحه برغبته ويطلب إليه التوسط في الأمر. ولمبروك أفندي صلة قرابة بفتاتنا المتعلمة الراقية، فيذهب إلى والدتها مع محفوظ بك لطلب يد الفتاة فتقبل هذه لا لأنها وجدت في الطالب – وهو رجل جاوز الأربعين – الشخصية التي ترغب فيها فتاتها أو التي توافق روح فتاة عصرية ناهضة، إنما طمعاً بماله ورغبة في أن تقنع ابنتها بما ترغب فيه من المادة ومستلزمات التمدن الزائف! لكنها ما جاءت تعرض الأمر على الفتاة وتطلعها على صورة الطالب حتى رفضت هذه ومزقت الصورة إرباً إرباً معلنة أنها لا تقبل إلا الزوج الذي تختاره هي، والذي ترى فيه ما يشبع عاطفتها. وبينما تحاول والدتها إقناعها يدخل عليهما مبروك أفندي ومعه محفوظ بك فيتناقش الجميع في الموضوع وتقوم بين العريس والعروس مناقشة حادة تشترط فيها كل ما تريد من شروط الحياة الماجنة التي يرفضها محفوظ بك بشدة ويظهر رغبته في أن تعيش معه الحياة التي شب عليها، والتي اعتادها آباؤه وآباؤها من قبلهما. إلى هنا ينتهي الفصل الأول من موضوع الرواية بعد أن يتخلله بعض الحوادث وأهمها رؤية شاب من شباب اليوم لفتاتنا وحبه لها وهيامه بها وسعيه في سبيل الوصول إليها! وما ترفع الستار عن الفصل الثاني حتى يكون الزواج قد تم وانتهى أمره بإلحاح الوسيط وإقناع الفتاة به في سبيل أن ترضى حتى لا تفوتها ثروة هذا العريس والتمتع بطائل أمواله. وما أن أسدل الستار على هذا الفصل إلا والفوضى ضاربة أطنابها في منزل الزوجية، ونار المخاصمات بين الزوج والزوجة دائمة السعير! أما الفصل الثالث والأخير فكل ما فيه أن زوجة أحد عشاق فتاتنا العصرية تأتي لمنزل الفتاة وتبحث عن زوجها فتجده في زيارة صاحبة المنزل وحينما تحرجه في أسئلتها يدعي أن هذا المنزل عيادة لطبيب! ويحدث أن يأتي «محفوظ بك» في تلك اللحظة فيرحبان به كونه الطبيب، ويشعر بموقفه الحرج، فيأخذ في معالجة المريض معالجة مضحكة يغضب لها «العاشق المريض» ويكثر من الصياح والاستنجاد فيأتي الجميع من داخل المنزل وأخيراً تنتهي الرواية في رضوخ فتاتنا لإرادة زوجها وإعلانها استعدادها لأن تعيش معه حيث يعيش وكيف يعيش.
بعد هذا الملخص التفصيلي، أدلى الناقد ببعض الملاحظات، قائلاً: قام الريحاني بدور «محفوظ بك» فأبدع ما شاء له الإبداع، وقامت بدور «الفتاة العصرية» السيدة بديعة مصابني، ولنستميحها عذراً إذ نقرر أنها في دورها هذا ليست تلك الممثلة الرشيقة التي عرفناها وعرفها رواد المسارح في «الليالي الملاح والشاطر حسن» بل وفي «ياسمينة»! ولعل هذا الوجوم الذي شاهدناه ما كان إلا من تأثير النكبة التي حلت بها بفقد قرطها الثمين فيزول عقب أن تزف لنا بشرى العثور عليه! ولعل الأستاذ نجيب الريحاني يلاحظ بعناية أدق ما يحدث من السرعة الزائدة جداً في دخول صاحب دور من الأدوار عقب خروج آخر لا علاقة له بالأول أمام النظارة. وأيضاً الراقصات فكثيراً ما تدخل الراقصة لترقص عقب محادثة حادة عنيفة. وكم يكون جميلاً لو مُنع الرقص أثناء الفصول التمثيلية وتحدد مواعيده بين الفصول وفي ساعة الاستراحة التي كثيراً ما تكون طويلة مملة. أما عروس المسارح السيدة بديعة مصابني فإن لنا في أذنها همسة هي أنه ليس من اللائق ولا من مكانتها التمثيلية في شيء أن تظهر والسيدة «بهية أمير» في موقف واحد فتكون هذه بمثابة الممثلة الثانية للفرقة!!
استمر العرض حوالي أسبوعين، وفجأة وجدنا بعض الصحف – مثل «الأهرام» و«المقطم» - يعلنون عن استمرار العرض مع وجود غناء!! فالأهرام أعلنت قائلة: مسرح الريحاني يقدم رواية «أنا وأنت» بطولة نجيب الريحاني وبديعة مصابني، وغناء «محمد عبد الوهاب»!! أما جريدة المقطم فقالت في إعلانها: مسرح الريحاني أمس «أنا وأنت»، واليوم ماتنيه وسواريه رواية «علشان بوسة» بطولة نجيب الريحاني وبديعة مصابني مع طرب من «فاطمة سري» و«محمد عبد الوهاب». وفي ظني أن هذا الغناء لم يكن داخل العرض، بقدر ما كان بين الفصول والاستراحات!!
بعد أسبوعين من عرض «أنا وأنت»، أعلن الريحاني عن عرضه الجديد «علشان سواد عينيها» الذي عُرض في أوائل فبراير 1929 من تأليف الريحاني وبديع خيري، وتلحين إبراهيم فوزي، وبطولة بديعة مصابني مع بقية أفراد الفرقة. وقام ناقد مجلة المصور «سهيل» بتلخيص موضوعها قائلاً: هي صورة من صور الحياة التي تمر أمام أعيننا كل يوم فلا مبالغة ولا خروج عن الواقع الملموس. «فزعير» شاب نشأ بعيداً عن الترف الكاذب والرياء، ساقته ظروف الحياة للعمل في مكتب شقيقين يضاربان في بورصة البضائع، فهما يجعلان الكذب رأس مالهما، بينما تأبى سجية الأجير أن يسير وإياهما في ذلك الطريق الوعر. وبينما هما يحاولان التأثير عليه وإفهامه أن المرء لا يعيش بغير الكذب، إذ يعرضان عليه أن يعقدا وإياه «رهاناً» بخمسمائة جنيه على أن يحافظ على الصدق في كل ما يتفوه به مدى اثنتي عشرة ساعة، يستمران في أثنائها يمطرانه بالأسئلة المحرجة عن داخلياته، وهو يجيب بصراحة وصدق ويتخلص من موقف حرج إلى أعقد منه. كل ذلك وسط عواصف من الضحك المتوالي والسرور المستمر.
ويُكمل الناقد موضوعه قائلاً: إن الرواية قد لمست كثيراً من النقاط الاجتماعية المحمودة والأدوار التي تنتاب جسم المجتمع والعادات التي كادت تصبح دستوراً في أيامنا هذه. فقد أظهر لنا الريحاني في تلك الرواية مثالاً من أولئك الشبان الذين يجرون وراء المال مهما انحطت إليه السبل وتدنست المسالك! فوجيه بك شاب غني لا يعوزه المال ولكنه قد رأى فتاة تركية بشعة الملامح مشوهة الخلقة معكوسة المنظر ارتمى في أحضان والدها طالباً يدها طمعاً فيما تمتلكه من عقار وأموال، وهذا أشنع ما يرتكبه شبان هذا الجيل. فإن الزواج إذا لم يبن على أساس متين من الحب المتبادل فعلى الحياة الزوجية السلام. كذلك عرض نجيب في روايته إلى أولئك البخلاء الذين يكنزون الذهب والفضة ولا يتورعون في سبيل الوصول إليهما عن ارتكاب أحط الموبقات وأخس المنكرات. فجلدة بك رجل قضى الشطر الأكبر من عمره في جمع المال من كل السبل فإذا ما دخلت عليه ابنته تستجديه قليلاً منه لتدعو بعض قريباتها إلى مأدبة غذاء أبى عليها ذلك وأقنعها أن خير ما يقدم للضيوف في مثل هذه الأحوال هو «الفول السوداني والحمص»! ثم هو لا يكتفي بما أصبح لديه من طائل الأموال بل يكد في جمع غيرها فيحرم نفسه في سبيل ذلك من ركوب عربة توصله إلى محل عمله فيتقي بها الأوحال والأقذار في يوم عاصف مطير. أمثال هذا الشيخ في مصر كثيرون، فهم يجرون وراء الدرهم أنى يكون وإذا ما دعاهم داعي البر إلى نجدة الفقير ومعونة الضعيف أصاب آذانهم وقر، وأعينهم غشاوة فهم صم لا يسمعون، عمي لا ينظرون.
ويقول الناقد «سهيل» أيضاً: ما سرني وأمتعني هو خلو الرواية من أية إشارة أو كلمة بذيئة، فجميع نكاتها بريئة وكل هزلها في حدود الأدب الجم والمتعة الخالية من كل ما لا يلائم الذوق السليم. وأستطيع أن أقول إن نجيباً لم يبلغ في رواية من روايات هذا الموسم ما بلغه في قصته هذه من سمو وارتفاع. أما المناظر فكانت آية في الإبداع ولاسيما منظر الفصل الثاني. كذلك كانت ألحان الرواية تصل إلى الآذان بلا استئذان فتشهد لملحنها الموسيقي الشاب «إبراهيم فوزي» بمنزلته التي بلغها في فنه ولا يزال في مقتبل العمر وربيع الحياة. أما التمثيل فقد كان نجيب مبدعاً في دور «زعير» لا سيما وقد ظهر فيه بطبيعته للمرة الأولى. وهي تجربة دلت على نجاح بعيد. وكانت السيدة «بديعة مصابني» رشيقة في دور الخادمة ولو أنها لم تجد أمامها متسعاً لإظهار كفايتها. وقد بدا عبد الفتاح القصري في دور «دياب الجزار» أحد أبناء البلد «العترة» فكان موفقاً كل التوفيق. كما استطاع عبد النبي أن يظهر شخصية «جلدة بك» بمظهرها الحقيقي وبنجاح تام يهنأ عليه. كذلك أعجبني محمد مصطفى في «مكياج عم شنودة» وكان يكفي أن ينظر إليه المرء فيغرق في الضحك. وبالجملة فلست أستطيع أن أفضل ممثلاً على آخر، فقد نجح الجميع في أدوارهم. بل أكرر التهنئة للتوني، وحسين إبراهيم، والسيد سليمان، والفريد حداد، وأحمد نجيب، كما أهنئ مديرهم الريحاني بمجموعته التي يندر وجود مثلها على مسرح واحد.


سيد علي إسماعيل