مسرحية ياسمينة!!

مسرحية ياسمينة!!

العدد 862 صدر بتاريخ 4مارس2024

بدأ الريحاني موسمه الجديد يوم الخميس الثامن من نوفمبر 1928 بعرض مسرحية «ياسمينة» التي اقتبسها – بالاشتراك مع بديع خيري – من حكايات «ألف ليلة وليلة»، وتحديداً من حكاية «النائم واليقظان»، وهي الحكاية المشهورة التي اقتبسها أغلب كُتّاب المسرح العربي وعلى رأسهم الرائد الأول «مارون النقاش» في مسرحيته «أبو الحسن المغفل»!! وقامت «بديعة مصابني» بدور البطولة مع بقية أفراد الفرقة ومنهم: حسين إبراهيم، ومحمد كمال المصري «شرفنطح»، وعبد الفتاح القصري، وجبران نعوم. وكانت التذاكر تُباع في محل «محمود علي» و«صديق أحمد» بعابدين!! وتناول النقاد هذا العرض باهتمام كبير، كونه العرض الجامع بين نجيب وبديعة بعد عودتهما إلى الحياة الزوجية مرة أخرى!! ومن المقالات المميزة لهذا العرض، مقالة ناقد مجلة «الجديد»، الذي ذكر ملخص العرض قائلاً:
يُرفع الستار عن قهوة ينشد فيها الشاعر على ربابته، وعلى مقربة من القهوة حلاق يحلق لأحد الزبائن فإذا استخفه النغم أجرى موساه في عنق الزبون ووجهه بما يسيل منه الدم. فإذا كف الشاعر عن الإنشاد كف الحلاق عن حلاقة لحية زبونه وتركه بفردة واحدة!! وهناك فكهاني يدعى حسن كان موضع حقد ثلاثة أشخاص: حماته والحلاق وصاحب القهوة ..  أما حماته فتريه الغُلب كل يوم وتُعيّره وتكاد تزهق أنفاسه بما تسوقه من أكاذيب الفشر عن خيرات زوجها المرحوم.. أما الحلاق فقد أراد أن يدبر مكيدة لحسن الفكهاني فاتفق مع القهوجي على أن يلقيا في دكانه فروة لجدي سُرق من قاضي بغداد فإذا عثر عليه الشرطة زُج حسن في السجن! وكانت المكيدة محكمة فقبض على حسن وساروا به في شوارع المدينة على ظهر حمار بالمقلوب وصاح حسن غاضباً:  ليتي  كنت الخليفة الآن لأدبر شئون هذا البلد. وكان الخليفة متنكراً على عادته فسمع عبارة حسن وكان قد شاهد تدبير المكيدة من مبدئها فأمر بأن يجعل حسن الفكهاني خليفة لمدة أربع وعشرين ساعة.  ولما أفاق حسن من إغمائه داخله الشك وكاد يجن، ولكنه آمن أخيراً بأنه الخليفة وبأن حياته الماضية لم تكن سوى كابوس يغشاه في بعض الأحيان.  وبدأ حسن يصدر الأوامر فكان أول ما فعله أن انتقم من جميع الذين اشتركوا في تدبير المكيدة ضده فجلد الحلاق والعسكري الذي تغطرس عليه وأيضاً انتقم من حماته .... إلخ. وكادت أمور الدولة أن تُفسد على يديه وكاد أن يضيع هيبة الخلافة ومقامها، وانقضت الأربع والعشرون ساعة بعد أن أصدر من الأوامر ما أضحك الخليفة هارون، واستفاق حسن من نومه فإذا هو عند باب دكانه، فحسب أن الكابوس قد تولاه ولكنه أدرك بعد قليل أنه يقظان فكاد يجن حزناً على أبهة الخلافة وتعجب كيف تتطور الأمور بهذه السرعة الغريبة! وظهر له الخليفة الحقيقي وأطلعه على ما وقع وكيف أنه سمع أمنيته فأراد أن يحققها له ليرى كيف يصنع في شئون الملك ثم أمر بإنعام كبير يعيش منه سائر أيامه وتنتهي المسرحية.
ويستكمل الناقد مقالته قائلاً: من خلال ملخص الموضوع نجد أن رواية ياسمينة مقتبسة عن قصص ألف ليلة وليلة، وقد سبق في إحدى مقالاتنا عن الريحاني أن أخذنا عليه اقتباسه روايتين عن ألف ليلة وليلة، وقد رددنا السبب في نقدنا ذاك إلى أن هذا النوع من القصص يعتمد غالباً على أمرين «الخرافة والفخامة» وكلاهما لا يلائم الروايات التي اعتاد الريحاني إخراجها. والروح الشرقية المنبثة في ألف ليلة وليلة لا تكاد تروق إلا الإفرنج ولكنها لا تجذب الشرقيين. ولكن ياسمينة في الواقع اختيار موفق فهي إن كانت من ألف ليلة وليلة حقاً فهي ليست منها بروحها وأسلوبها والتغيير الذي أدخله المقتبس عليها! فلو أنك أبدلت أسماء أبطالها العربية بأسماء عصرية ولو أنك رسمت منازلها على الطراز العصري لأنكرت منها أن تكون إحدى قصص ألف ليلة وليلة. ولولا الخرافة الأولى التي ترتكز عليها حوادث القصة. وتمتاز قصص الريحاني من حيث التكوين المسرحي بسوء التفاهم، ووجود المرأة البلدية، ومظاهر النقد الاجتماعي .. إلخ. كل هذه العوامل المألوفة عند الريحاني كانت ملحوظة في رواية ياسمينة على التفاوت الطبيعي في أسلوب الكاتب، ولكننا ما زلنا على رأينا السابق من أن الموضوعات المصرية أصلح لجو الريحاني من أي شيء آخر، وأن شخصية كشكش بك تجد في الرواية المصرية المجال للظهور والتفوق. ويزداد إيماننا بهذا الرأي أن الحركة المسرحية يمكن إدخالها في الرواية المصرية على عكس الروايات المأخوذة عن ألف ليلة وليلة. ونعني الحركة السريعة، مثل المناظر التي يشترك فيها أفراد الفرقة جميعاً وهذه المناظر تبعث الحماس والتنبيه في نفوس المتفرجين لا سيما إذا اقترنت بموسيقى ذات توقيعات واضحة مقسمة. ولقد حاول المؤلف أن يدخل على رواية ياسمينة بعض المناظر ذات الحركة السريعة ولكنه لم يستطع أن يحشر فيها أكثر من منظرين أو ثلاثة وكان يبدو عليها الإعياء والانفصال عما حولها، فلم يوفر على نفسه هذه المشقة بكتابة رواية مصرية يمكن أن يكتب لها التفوق من أية ناحية نُظرت إليها.
واستمر الناقد في تحليل العرض قائلاً: إن الفكاهة في «ياسمينة» قوية مقبولة فضلاً عما فيها من نواحي النقد الاجتماعي الظريف فهناك تهكم لاذع على «الفشر والفشارين» وأمثلة مضحكة لا تخلو من طبائع الحياة الحقيقية. ثم هناك شيء مما يقع في الطبقات الفقيرة مما لا يلحظه الأغنياء أو عظماء الدولة فإذا قيل للخليفة العدل شامل والآداب سائدة ..إلخ، انبرى حسن الفكهاني يفند هذه الأقوال المتداولة ضارباً الأمثلة مما يقع في الزوايا المظلمة، وقد يكون في هذه الفكاهة على ضآلتها شيء من الروح الاشتراكية! ثم انظر كيف تتناول الرواية الحكمة القديمة التي تقول: «اذكروا محاسن موتاكم»، فيتم صياغتها في أسلوب عصري فكه حين تعذب الحماة زوج ابنتها وتذكر فضله وخيره فإذا خيل لها أنه على قيد الحياة انبرت تقول: «هو المنيل لسه عايش»، فهل المنيل صفة من صفات المدح والثناء؟ وقد قام الممثلون بأدوارهم ببراعة، نذكر بالثناء ويؤسفنا مرة أخرى أن نقول إن إغفال الريحاني ذكر أسمائهم في البرواجرام مقرونة إلى الشخصيات التي يؤدونها يجعلنا لا نستطيع أن نثني عليهم واحداً واحداً بأسمائهم، ولكن لا يفوتنا أن نذكر المدموازيل «كيكي» فهي بعد الريحاني الوحيدة التي تنشر اسمها في الإعلانات فقد أبدت هذه الفتاة من البراعة في ملء أدوارها. ومن الرشاقة التي تدعو إليها شخصياتها ما يحملنا على الثناء عليها. ويظهر أنه لا مفر لنا من أن ننبه الريحاني مرة أخرى إلى الضعف الملوس في فرقة الرقص الموجودة في مسرحه، فقد مضى أكثر من عام ونحن لا نشهد منها إلا رقصات واحدة وعلى أسلوب واحد! حقيقة أن راقصات الريحاني على حظ كبير من الجمال والرشاقة ولكن قد يأتي يوم لا تجدي فيه هذه العوامل إذا سارت الراقصات على وتيرة واحدة يسأمها الجمهور. أما الراقصة «أفرانز» فقد تكون جديرة بالثناء ولكننا لا نميل إلى تشجيع هذا النوع من الرقص الخليع، وبوسعنا أن ينظر الريحاني إلى جمهوره في كل حفلة ليدرك أنه يصفق لفرقة الراقصات أضعاف ما يصفق لأفرانز!!
وكتب «سهيل» - ناقد مجلة «المصور» - مقالة مختلفة بعض الشيء عن المقالة السابقة حول مسرحية «ياسمينة» – في نهاية نوفمبر 1928، قال فيها: كان مسرح الريحاني آخر المسارح التي افتتحت أبوابها في الموسم الحالي. وقد بدأ نجيب الريحاني برواية «ياسمينة» التي اشترك في تأليفها مع الروائي المعروف بديع خيري وقام بتلحينها الأستاذ زكريا أحمد. وليست الرواية بالجديدة على المسرح المصري اللهم إلا في وفرة العدة وكثرة البذخ ومضاعفة الجهد في الإخراج. ذلك لأننا نذكر أن مثل هذا الموضوع قد ظهر على مسرح الكسار منذ سنوات باسم آخر هو على ما تتسع له ذاكرتي «إمبراطور زفتى»، وقد كان نجاحها في ذلك العهد حديث رواد المسارح الفكاهية غير أن ذلك لم يثن من عزم نجيب بل سار في إخراج الرواية معتمداً على مكانته في قلوب جمهوره، ومرتكناً على قدرته الفنية التي لا ينكرها أحد. كانت بغداد مسرحاً لوقائع تلك القصة إذ عاش فيها بائع فاكهة يقال له حسن، وكان لخلقه نصيب من اسمه غير أن جيرته كانت عليه وبالاً كبيراً وشراً مستطيراً. فقد رزئ بمجاورة حلاق «سمج» وصاحب مشرب عربيد، ظلا يكيدان له حتى أوقعاه في شرك نصباه له، وقضى على المسكين أن يلاقي هول العقاب. ولكن إذا نامت عين الظالم فإن عين الله لم تنم، فقد أرسلت العناية الإلهية أمير المؤمنين ووزيره جعفر يجولان في المدينة متنكرين وقد شاهدا بأعينهما ما حلّ بهذا البريء المتهم، وسمعاه يتمنى لو يصبح أميراً ليجزي الظالمين بما جنت أيديهم، فيقسم ليهيئن للرجل أمنيته وليحقق له طلبه، وإذ ذاك يختطف حسن في حالة غيبوبة من أيدي الشرطة. فإذا كان الفصل الثاني فنحن في قصر الخليفة وقد استيقظ حسن من سباته فإذا هو في حال غير حاله وحوله خدم وحشم وجوار واقفات. والجميع يدخلون في روعه أنه الخليفة وأنه مولانا «أمير المؤمنين». ولكن كيف؟ ومتى؟ ألست أنا حسن «الفكهاني»؟ هكذا يقول!! ويتلقى الإجابة: عفواً أمير المؤمنين .. لقد مرت السنون والحقب وأنت على أريكتك متبوئاً إياها!! هذا مثال من الحوار بينه وبين رجال القصر. وظل في نهيه وأمره طيلة الفصل الثاني حتى إذا جاء الثالث فقد تبدل الحال وتغير ثم تنمر الزمان له وتنكر. وعاد سيرته الأولى فكهانياً بسيطاً بين زوجته ياسمينة وحماته فلا يدري أكان حلماً ذلك الذي رأى أم يقظة؟ وإذا كان الأول فأيهما الحلم؟ أحالته الراهنة أم الحالة التي كان عليها عند بسطة الحكم وعزة الجاه؟ وأخيراً تنتهي القصة بظهور الخليفة ونصيحته لشعبه ورجاله بمراعاة جادة الحق والعدل وينفح حسن بما يلهج لسانه بالشكر والثناء.
ويعلق الناقد على هذا الملخص قائلاً: ذلك موضوع «ياسمينة» الذي بذل نجيب في إخراجه كل مجهود مستطاع فظهرت المسرحية بالنجاح الذي كان يأمله الجميع في افتتاحية كشكش. وقد كانت المناظر رائعة جميلة وأخص بالذكر منها منظر الفصل الثاني «قصر الخليفة» فقد كان على أكبر قسط من جمال الرونق، وليس لنا من مأخذ على ترتيب المسرح اللهم إلا ملاحظة في هذا الفصل نفسه تلك هي أن الإخراج «الميزانسين» لم يكن مناسباً عند تناول الخليفة لطعامه. فقد كان في أثناء الرقص مختفياً عن الأنظار، مع أنه بطل القصة، ومع ضرورة إظهار حركاته وسكناته للنظارة!! وكان الأجدر أن يكون جلوسه في إحدى ناحيتي المسرح، أو على مكان مرتفع قليلاً عن المستوى الذي كانت فيه الراقصات. أما ما عدا ذلك فإتقان وإبداع يشهدان لنجيب وبديعة بما يستحقانه من فخر. وقد كان التلحين بالغاً منتهى الإعجاب وخصوصاً «الديالوجات» التي تبودلت بين نجيب والسيدة بديعة. وإني وإن لم أكن من رجال الموسيقى، إلا أن الأذن لها حكم قد لا يختلف عن حكم الفن. لهذا أشهد بأن الرواية قد لحنت على أكمل وجه. أما التمثيل فليس من الضروري أن نتوسع في التحدث عنه إذ ماذا يجب أن نقول عن نجيب الريحاني وبديعة مصابني؟ ولكن يكفي أن نقول إنهما بلغا قمة النجاح وأوج الفوز. وقد استطاع الريحاني أن يجمع حوله نخبة طيبة من ممثلين نابهين في نوع الكوميدي أسندت إليهم أدوار هامة فكانوا عند حسن الظن بهم وقاموا بها على أحسن وجه فاستحقوا كل ما تتوق إليه نفوسهم من ثناء وشكر.
كانت هناك رؤية مضادة لهذه الكتابات المادحة، تبناها ناقد مجلة «الحركة»، ونشرها في نهاية نوفمبر 1928، قائلاً: قدّر لي أن أشهد رواية ياسمينة على مسرح الريحاني بعد أن سمعت طنطنة الجرائد في التغني بها والإشادة بمحاسنها، ولكن كانت النتيجة على حد قولهم «سماعك بالمعيدي خير من أن تراه»!! ولعل أغلب ما كتبته الصحف عن هذه الرواية مجرد مجاملة أو مقابلة للجميل بمثله لدعوتهم لشهود الرواية عند تمثيلها والمبالغة في الترحيب بهم حتى لا يقال إن النقاد كعجائز الأفراح «ياكلو وينكروا»!! وكانت أغلب الجرائد مغالاة في وصف المسرحية، ومنها مجلة «المستقبل» التي تصدر للدعاية بمسرح رمسيس وينفق عليها «يوسف وهبي»! وإذا عرفنا هذا السبب سهل علينا معرفة الباعث لهذه المجلة على تشجيع مسرح الريحاني .. فقد اعتزم الريحاني منذ عامين أن يشتغل بالتمثيل الجدي وكان يضع نفسه من صاحب رمسيس موضع الخصم المنافس ولكنه أخفق وعاد إلى التمثيل الهزلي. وها هو الآن يبالغ في تشجيعه والإشادة بمدح رواياته حتى لا يطيش سهمه في هذا الميدان مرة أخرى فيعود إلى منافسة خصمه في التمثيل الجدي ويكون له منه بعد الأستاذة فاطمة رشدي عدو ثالث!!


سيد علي إسماعيل