الدراماتورجيا في عصر ما بعد الدراما (1)

الدراماتورجيا في عصر ما بعد الدراما (1)

العدد 861 صدر بتاريخ 26فبراير2024

 إن التغير يحدث – التحول المتطرف للمسرح وعلاقتنا بخشبة المسرح؛ وهو ظاهرة لا تقل أهمية عن ظهور المخرج في نهاية القرن التاسع عشر. وقد سمى هانز ثيز ليمان هذه الظاهرة «المسرح بعد الدرامي postdramatic theater”، على الرغم من أن التعبير نفسه قابل للمناقشة، نظرا لأن الأشكال المسرحية الجديدة التي نراها لا تستغني بالضرورة عن النزعة الدرامية، بل على العكس من ذلك، فإنها تولد أشكالا جديدة من الدراما التي تحتاج إلى تعريف وتسمية جديدين.
   فما هي طبيعة هذا التحول المتطرف؟. لقد حدث انفجار في المسرح ومن المؤكد فعلا أن هذا الانفجار قد أحدث قطيعة مع الدراما. وفي الوقت الحاصر، لا يعتمد عدد لا بأس به من العروض على عمل درامي موجود مسبقا وبالتالي لا يتطلب الأمر وجود المخرج لعرض المسرحية. فهناك تفضيل واسع النطاق للنصوص غير الدرامية (نصوص النثر، وأنواع مختلفة من من المواد التي تتراوح بين المقالات الفلسفية أو العلمية إلىالبطاقات البريدية، من القصائد إلى المقالات الصحفية أو الوثائق التاريخية) لأن الكتابة التي تطورت من خشبة المسرح (سواء كانت تأليف شخص واحد أو تأليف جماعي)، من أجل تعدد المجالات، والجمع بين لغات مختلفة – الفيديو والرقص والموسيقى الحية والسيرك... - مما يحول النص إلى عنصر واحد فقط بين عناصر أخرى، ولم يعد أصلا أشبه بالرحم للعرض بأكمله (وأعني بذلك قدرته على أن يوجد كمصدر، ولكن أيضا لتوليد عدد غير محدود من إعداد المشاهد المحتمل). والأهم من ذلك أن طبيعة التمثيل نفسها تغيرت. وقد أدى تأثير فن الأداء، بوجه خاص، إلى زعزعة المحاكاة والتي هي حجر الأساس في المسرح منذ أرسطو حتى الآن.
   وتقول مارينا ابراموفيتش “المسرح مزيف. فهناك صندوق أسود، وتدفع ثمن التذكرة، وتجلس في الظلام وتشاهد شخصا ما يغرض حياة شخص آخر. فالسكين ليس حقيقيا، والدم ليس حقيقيا، والعواطف ليست حقيقية. أما الأداء فهو العكس تماما: السكين حقيقي، والدم حقيقي والعواطف حقيقية. إنه مفهوم مختلف تماما. إنه يتعلق الواقع الحقيقي. ومع ذلك، تحرك خشبة المسرح المعاصرة هذا التعارض باستمرار ولا يبحث عن تأثير الحقيقي (أي الإيهام)، بل يبحث عن ما يمكن أن أسميه “التأثير الحقيقي”. ولذلك، بالتعارض مع التمثيل، نشير إلى التقديم، “إعطاء الوزن والقيمة الكاملين لزمن الحاضر، والحضور. وهذا يعني: المشهد المسرحي الذي يوجد في حد ذاته، هنا والآن بالنسبة للتمثيل (أو تقديم الذات) بدون السعي إلى استحضار مكان آخر (مكان وزمان آخرين). والممثل أيضا أمامنا بذاته: المؤدي الذي يمحو بشكل متزايد مفهوم الشخصية.
  «هذه المنصات لا تمثل العالم. إنها جزء من العالم. هذه المنصات موجودة من أجلنا لنقف عليها... ولا يوجد سراب / فخشبة المسرح هذه لا تمثل شيئا... إنك لا تعيش هنا زمنا يتظاهر بأنه زمن آخر». المسرح غير الإيهامي، المسرح بدون تمثيل، هو المسرح الذي يبدو أن النهج الإبداعي للمسرح المعاصر يتجه إليه اليوم، منذ ظهور مسرحية بيتر هاندكه «إهانة المشاهدين» (1966)، حيث بدلا من الشخصيات، يتقاسم أربعة ممثلين سطور النص غير المنسوبة إلى شخصيات معينة.
   وفي أحد مشاهد عرض روميو كاستيلوتشي “الجحيم Inferno” أجد المثال الملائم. أناس ليسوا شخصيات بالتأكيد ويمكن تسميتهم ممثلين بالكاد (راقصين وأطفال ومزيج مختلط من الإضافيين مع فريق عمل صغير من المحترفين)، يسيرون الواحد تلو الآخر نحو المشاهدين لكي يقدموا لهم وجوههم وأجسامهم. مسرح محض من التقديم والحضور، حيث لا يتم تمثيل شيء، لا شيء سوى شعاع الإنسانية هذا يقدم نفسه على خشبة المسرح – وبالكناية، إن شئت، يقدمون الإنسانية. لأن هذه الأشكال المسرحية لا تستبعد الرمز والاستعارة فقط، لكن الأمر كما لو أن هذه الأشياء تأتي فيما بعد، مثل المحصول الثاني الذي يحصده المتفرجون، الذين تأسرهم قوة اللحظة الحاضرة. إنه ليس رمزا متعمدا، ويعارض أن يكون رمزا “يمكن أن يتشكل دون علم الشاعر (أو المؤلف)... يمكن أن يمتد دائما تقريبا وراء حدود فكره”. ولا أصدق، أن يستمر قائلا” فالعمل الفني القابل للحياة لا يمكن أن يولد من الرمز، ولكن الرمز يولد دائما من العمل الفني، إذا كان الأخير قابلا للحياة.
   وفي نفس العرض يمكن رؤية الأطفال يلعبون في مكعب زجاج كبير، وكأنهم في حضانة لا يعون بالمشاهدين الذين يشاهدونهم، وهذا مثل قطعة مرفوعة من العالم، وفي غياب أي علامة وسيطة، توضع على خشبة المسرح مثلما كانت، كما في فن الكولاج.
   قوة اللحظة. وقوة الواقع الخام، وقوة الحي، وقوة الممثل الذي لا يكرر نفس الإيماءات مرتين. وهذه بالتحديد يوتوبيا أرتو، التي يبدو أنها تسعى للتجسيد الآن، في بداية القرن الحادي والعشرين، في مثل هذه العروض.
   تذيب هذه الأشكال المسرحية دور المتفرج. ففي علاقته (البنيوية والمتضاربة أيضا) مع المؤلف (أو الكاتب المسرحي)، وقف المخرج كحجر الزاوية في الفن المسرحي في القرن العشرين، والتي اعتمدت علي هذه الثنائية أو هذا الاقتران: المؤلف يكتب المسرحية، والمخرج يمسكها ويضعها. وكان هذا نموذج المسرح كفن في خطوتين. وقد دعا كريج وأرتو، هذان المجددان للمسرح، منذ العقود الأولى من القرن العشرين، إلى شكل آخر، كان في ذلك الوقت لا يزال شكلا يوتيوبيا، نموذج المبدع الفرد كما يسميه أرتو، لدمج الثنائية. إنه هذا الشكل الذي تم تضمينه اليوم، في صورة المبدع الشامل (كاستلوتشي صاحب الفضل في عرض “الجحيم” من أجل الميزانسين والسينوغرافيا والإضاءة والأزياء، وتصميم الرقصات مع سيندي فان آكر) أو الفرق المتناغمة (فرق مثل بالفعل D›ores et déjà، وكلاب نافار Chiens de Navarre في فرنسا).
   وقد تأثرت الدراماتورجيا حتما. ومن الواضح بالمعنى الأصيل للكلمة، فسوف تكون هناك حاجة إلى استبدال عبارة “فن بناء المسرحية” بعبارة “فن بناء العرض المسرحي”. ويمكن أن يتحلل المعنى بسهولة إلى التعريف الأخير، نظرا لأنه لم يعد سؤالا لهذا النوع من التحويل إلى عرض المسرحية التي كانت مكتوبة مقدما.
  التغير، في الواقع أكثر جوهرية. فقد وفرت الدراماتورجيا إطارا يمكن من خلاله تنفيذ معنى المسرحية. فلم يكن الفن المسرحي في القرن العشرين مبنيا فقط من خلال ثنائية المؤلف – المخرج، أو بشكل أقل ذاتية، من خلال العلاقة بين المسرحية وإعداد مشاهدها، ولكن من خلال ثلاثية المسرحية وإعداد المشاهد والدراماتورجيا. ويتعلق الانهيار بالتحلل المتساوي والمتبادل لكل عناصر هذه الثلاثية. وكيف يمكن أن تكون بخلاف ذلك؟. إذ لا يمكن فصل الدراماتورجيا عن كتابة المسرحية أو إعداد المشاهد، لأنها العملية التي تعبر بين أحدهما والآخر، وتربط كلاهما معا.
 وفي إطار تنظيم الحدث الدرامي ارتبطت الدراماتورجيا بالقصة، التي رأى في القرن العشرين أنها تنهار تدريجيا، إلى حدث درامي في بعده التمثيلي. وكان هذا أساس الدراماتورجيا. وقد بلغ هذا ذروته مع بريخت، الذي كان مسرحة الملحمي، بعيدا عن تأسيس المضاد للدرامي، هو منتهى إنجازه. وفي السبعينيات، ومع ظهور اللسانيات والعلوم الإنسانية على قمتها، وصلنا إلى المعيار الكامل للبعد السيميولوجي. فكل شيء كان علامة ونسق من العلامات: المسرحية نفسها والميزانسين. وأصبحت الدراماتورجيا وسيط هذا النسق. فكل شيء يجب أن يعني شيئا. وكان المتفرج هو الذي يفك شفرات العلامات. وربما كان هذا أكثر التغيرات تطرفا. إذ لم يعد المتلقي هو الشخص الذي يسعى إلى فهم العمل عن طريق التأمل الفعال. وبعيدا عن عالم المعنى (الذي يمكن ألا يكون مستقرا)، فإن المتفرج مدعو إلى ترك تجربة.
   ولا تختلف العلاقة التي يشارك من خلالها المتفرج في الأداء المسرحي بشكل أساسي عن كيفية معايشته للأحداث الأخرى في حياته. أليست هذه هي الطريقة التي نفهم بها افتتاحية عرض “الجحيم”المذكور آنفا؟. أن نفهمه كنوع من المواجهة، بكل ما في الكلمة من معنى، بين خشبة المسرح والمشاهدين. فالمواجهة كحدث، تم ترميزها فيما بعد في العرض من خلال القبة التي تم نزعها عن خشبة المسرح وتم نشرها فوق رؤوس جميع المشاهدين. فالعرض في مجمله مسار خلال التجربة. إذ كلما استطاع الأداء المسرحي أن ينشئ علاقة قوية مع المتفرجين، زادت فرصة أن يكون للأداء معنى بالنسبة له، ولكن فيما بعد في حياته. من خلال أعمال ذاكرته الواعية وغير الواعية، وكأن الحدث الذي عاشه من خلال إرادته سوف يأخذ مكانه في النهاية في سلسلة المغزى المشحون بالمعنى – غير المستقر والمتغير على مدار السنين.” في منتصف حياتنا الفانية هذه / أراني تائه في غابة ضبابية” تلك هي أول الكلمات في “الكوميديا الإلهية”. فالفن يتناول الحياة.
   هذا هو وصفي للمشهد المسرحي، بخطوط عريضة. كأرخبيل من الأشكال المتغيرة دوما، تقاطع تيارات متعددة، ينبثق منها سؤالان: ماذا يحدث للدراماتورجيا الآن، فيما يتعلق بعرض النصوص الدرامية الموجودة مسبقا؟ وما الذي يحدث للكتابة الدرامية؟. نفترض أنه لا يمكن لتحولات المشهد المسرحي في كلتا الحالتين أن يترك الممارسة بلا تأثير.
   فعلى الرغم من اختلاف الممارسات، فإنها تتعايش معا في هذا المشهد لأنها من نفس العصر. والحدود بينهم نفاذة بالضرورة. وفي الإطار العملي، لا يمكن عرض المسرحية الكلاسيكية أو المعاصرة خارج السياق الذي وصفته. وهذا له إيحاءات بالنسبة للميزانسين. وسوف تكون له إيحاءات أيضا بالنسبة للدراماتورجيا، نظرا لأنه بدونها سوف ترسخ أشكال المسرح الجديد الأكثر سطحية، والممارسات العمياء وغير المنضبطة كما قال برنارد دور.
   لم يكن يجب أن توفر الدراماتورجيا قراءة للمسرحية، كما هو متوقع في السبعينيات. إذ يمكن أن يكون هذا التفسير حتما مختزلا نظرا لكل الاحتمالات الكامنة في الأداء المسرحي كتجربة معاشة. فمجرد توصيف الأحداث لنا، لا يمكن أن يوجد احتمال آخر للتجربة الشخصية. ولكن يجب أن تكون هناك مساحة في مكان ما بين تحول نص المسرحية إلى مادة خام – ويطرح جانبا أي دراماتورجيا داخلية يمكنها أن تضعه في سياقه التاريخي – وتوفر إطارا للتفسير، من أجل دراماتورجيا مفتوحة وحساسة، تحدد القوى الفاعلة في العمل وتخلق شروطا للتجربة.
   الطريق وعر. ما الذي ينبغي عمله مع الشخصيات عندما لا نعتقد في الشخصية بعد الآن ونريد أن نرى المؤدي ينجز سلسلة من الأفعال تشير فقط إلى نفسها، بدون تمثيل؟ وما الذي يجب أن نفعله بالسرد عندما لا تكون القصة هي الأولوية للمؤدي على خشبة المسرح، والذي يبدو أنه يرتجل؟ عندئذ نوقف عرض “أندروماخى أو “روميو وجولييت” أو حتى “طائر البحر” إذا كنا لا نزال نريد أن نقدمهم – أقل ما يمكننا هو أن نسأل أنفسنا لماذا - فلا بد أن نجد في المسرحيات ذلك الذي يكون له صدى في لغة خشبة المسرح المعاصرة، ويمكننا أن نأخذ مكاننا هناك. إن تعرية الشخصية لتوضيح الممثل كإنسان، متهدم في عريه الوجودي. فلا تبحث لكي تخلق عالما آخر، ولكن ثق في هذا العالم، ثق في الحضور المادي لخشبة المسرح. هذه بالطبع أسئلة للمخرج تتعلق بالميزانسين والتمثيل، ولكنها أيضا للدراماتورجيا لكي تنشئ ما هو على المحك في التجربة، أولا بالنسبة للممثلين الذين يجب أن يعيشوا على خشبة المسرح، لكي يحصل الآخرون على الفرصة في أن يعيشوا نفس التجربة في القاعة. وقد كانت هذه هي الكيفية التي تناولت بها العمل الدراماتورجي حول مسرحية “عندما نصحو نحن الموتي” تأليف هنريك ابسن عام 2004، والتي عرضها آلان بيزو. وإليك ما كتبته عنها آنذاك، في بعض الملحوظات الدراماتورجية، المخصصة للمخرج.
 يجب أن نخلق صيغة للفكر. وهذه الصيغة تتضمن المتفرج.
وبمواجهة الصندوق التجريبي، يجب أن يقرر كل متفـرج غير المحسوم، مثل التجريب مع قطة شرودنجر - وسواء كانت القطة ميتة أو حية فان هذا لا علاقة له ب «عندما نصحو نحن الموتى». فهذا متعمد، إنها مسرحية تدخل مباشرة إلى قلب ما يهمنا: الحياة والموت – هل نحن موتى أم أحياء؟.
............................................................................
 نشرت هذه الدراسة في «New Dramaturgies: International Perspectives”الصادر عن Bloomsbury Methuen 2014.


ترجمة أحمد عبد الفتاح