«تشارلي شابلن» تقنيات الزمن والمسرح الموسيقي

«تشارلي شابلن»     تقنيات الزمن والمسرح الموسيقي

العدد 860 صدر بتاريخ 19فبراير2024

الماضي زمن يستحيل عودته من جديد، وفكرة الاستحالة تولد في النفس القلق فما الذى يفعله الإنسان تجاه ما كا؟.
 الإجابة المنطقية لهذا السؤال أنه لا يمكن للإنسان فعل شيء سوى الذكرى والتي تتحدى بشكل واضح النسيان فما تذكره على الدوام لا يمكن نسيانه والذكرى ذاتها تدعم حالة التكرار باستمرار التذكر فثمة بدائل دائما وصور تحل فجأة لتذكرنا بأجزاء فقدناها من ذواتنا، أو أرواح آخرين نفكر فيهم دائما، ونحاول استعادتهم من خلال الذاكرة أو الأحلام، حيث تظهر صور موضع الفقد بوصفه حالة مستمرة تتعلق بالغياب في عالم الظلمة والعدم والفراغ بالمعنى السلبي المحض، والتكرار في هذه الحالة يعد آلية زمنية من خلالها تكون محاولات الاستعادة للحبيب المفقود أو الأمل الغائب أو حتى الزمن الذي كان، كلها محاولات استعادة تحدث تكرارا على المستوى النفسي والشعوري والزمني، لكن التكرار لا يمكن أن يكون تكرارا حرفيا فالتكرار الكامل يعني الموت، والتكرار في ذاته يعد أحد أهم أسباب الشعور بالغرابة ففي التكرار تشابه واختلاف وهو أيضا قد يتضمن نوعا من الهدم والبناء، فمع التكرار يكون ثمة اختلاف بين الأصل والصورة التي تكرره، وفي الموسيقى التكرار يشعر المتلقي باستمرار تدفق الزمن ودائريته، والفنون بشكل عام تتخذ من آلية التكرار وسيلة يمكن الاعتماد عليها، وفي المسرح على وجه الخصوص يعبر التكرار عن الزمن، وفي المسرح الموسيقي يكون الزمن وآلياته نقطة ارتكاز يبني على أساسها المسرح الموسيقي.
 ولأن الموسيقى فن زمني فإن المسرح الموسيقي قوامه الزمن بالأساس، ومن العروض المسرحية التي اعتمدت بشكل واضح على تقنيات الزمن والمسرح الموسيقى عرض «تشارلي شابلن» من إخراج أحمد البوهي، وتأليف د. مدحت العدل، وسنتخذ من هذا العرض نموذجا تطبيقيا لاستخدام تقنيات الزمن في المسرح الموسيقي، حيث يبدأ عرض تشارلي شابلن من لحظة زمنية فارقة على خشبة مسرح فندق موفنبيك مدينة الإنتاج الإعلامي، ويختار المخرج والمؤلف أن يبدأنا العرض من لحظة حصول «تشارلي شابلن» على جائزة الأوسكار عن أعماله ومشواره الفني، وهنا يتم التركيز بشكل أساسي على التقنيات الزمنية سواء كانت على مستوى الحوار المسرحي وتقنيات بناء النص أو على مستوى الموسيقى.
ومن الضروري التأكيد على أن الزمن يعد من المفاهيم الأكثر تعقيداً، وقد حاولت العديد من الدراسات تفسيره سواء على المستوى الفلسفي أو النفسي أو الأدبي، فهو الذى يفضي إلى شقاء الإنسان نتيجة لنقصان تحقق الفعل فيه، كما أن حركته المراوغة هي مصدر وجود وفناء الإنسان، لأن الزمن هو الذى ينبئ الإنسان بموته وزواله، وهو الذي يحمل أمل الإنسان ويأسه.
  وعرض تشارلي شابلن يبدأ من لحظة زمنية مراوغة وفي إطار دائري زمني فما يبدأ به ينتهي به حيث لحظة حصول تشابلن على جائزة الأوسكار فيدور العرض في خضم حلقة زمنية كبيرة، ويعتمد المخرج على بعض التقنيات السردية ليقدم عرضه المسرحي المعتمد في جوهره على الفعل، هنا يكون السارد ذاته هو الفاعل وهو نفسه تشارلي شابلن.. فقد يتوقف الراوي عن الحكي حيث استنفد المتن حضوره وتوصل الحكي إلى غايته فلا سبيل في هذه الحالة سوى ممارسة الفعل التمثيلي فيغزل نسيج العرض، ويتنقل تشابلن بين الأدوار والأزمان فتارة يكون هو الراوي المراوغ وتارة أخرى يكون الشاب الفقير المكافح، وتارة في طفولته وعلاقته بأمه وتلك المرحلة هي التي كونت شخصيته وكيانه، وهي مرحلة تركت لديه الكثير من الالتباس فالحيرة والقلق يصيبان الوعي إزاء صور المرض الملغزة - حيث كانت أمه مريضة في فترة من حياتها - وهذا التفكير القلق غير المنتهي في المرض والموت وسؤالهم الملح على الذهن وماذا بعد؟ يربك الإنسان دائما، ومن خلال العرض نعرف علاقة تشارلي بوالدته وهي علاقة فريدة وكانت بابه الأول الذي حببه في الفن وقد أثر حبه لوالدته عليه بشكل كبير.                                                                                       من خلال الاعتماد على تقنيات الزمن لا يكتفي المخرج بإلقاء الضوء على مراحل تشارلي الطفولية وما كان بها من فقر وقسوة من العالم وإنما يذهب إلى مراحل الشباب وكيف سعى تشارلي لتحقيق حلمه وكيف كان الفن بالنسبة إليه حياة، ولم يكن عمله في السينما بالأمر الهين أو اليسير وتوجهه للإنتاج كان شيئاً كبيراً جداً وثقيلا في ذات الوقت.. ومحاربة النظم له كانت بضراوة وشراسة.. لم يغفل المخرج والمؤلف هذه الأجزاء من حياة تشارلي ..وقدما نموذجا لهذه الحرب متمثلا في دور “أيمن الشيوي” وهو يؤدي دور أحد الضباط الكبار كنموذج لتعسف السلطة مع الفنان آنذاك والترصد به، يكثف الممثل د. أيمن الشيوي حضوره من خلال أداء شخصية الضابط عبر استخدام العديد من الإيماءات والدلالات المعبرة عن طبيعة ذلك النموذج القاسي من بني البشر فالنموذج هنا ليس لمهنة الضابط وإنما نموذج لتعسف السلطة آنذاك..
  يختار المخرج «المسرح الموسيقي» ليعتمد على تقنياته في صياغة عرضه المسرحي وتكون آلية التكرار هي الجوهر الأساسي، حيث يبدأ العرض بدلالة سمعية موسيقية وهي التيمة الموسيقية الأساسية للعرض نفسه، وهي الدالة على شخصية تشارلي شابلن وتتكون من سؤال وجواب، ويتنوع استخدامها موسيقيا على مدار العرض فهي تعد الأيقونة الأساسية لمسرحية تشارلي شابلن ويمكن عزفها بإصدار لحن حزين للدلالة على لحظة بها قدر من الأسى فتؤثر على المتلقي بشكل تجعله يتعاطف ويشفق على البطل.. ويظهر ذلك أثناء رحلة الصعود وطفولته البائسة.. أو قسوة الساسة عليه والترصد به.. وتعزف التيمة الموسيقية بتكرار واضح يدل على الفرح حال فوزه بالأوسكار أو تحقيق أي إنجاز على مستوى الفن.. وتستخدم هذه التيمة في ذاتها على أنها وسيلة الآلية الموسيقية الزمنية “التكرار”  فحين يعاد تكرارها في العرض يدرك المتلقي أن زمن ما قد عاد سواء كان هذا الزمن نفسيا شعوريا أو كان واقعيا يعبر عن زمن ماضٍ، ولارتباط هذه التيمة الموسيقية بشخصية شارلي فإن جميع الأزمان التي تستحضرها التيمة الموسيقية هي بالضرورة وثيقة الصلة بشخصية تشارلي، ويتجلى هذا التكرار الذي تستعيده الموسيقى في إحدى صورتين للمشاعر داخل العرض:-
الصورة الأولى لما تستعيده الموسيقى عبر التكرار: مشاعر الخوف والتي شعر بها تشارلي حين فقد عزيزا “والدته” فالفقد هنا ليس فقدا للطريق وإنما هو فقد لمركز ثابت لشخص كان يعتمد عليه، شخص يشعره بالألفة فقد مر بظروف صعبة وبُعد عن الأم وعاش حياة فقر وجوع وسكن ملجأ أشعره بالوحدة والوحشة والخوف والذعر والفزع، فقد كان ذا خمس سنوات آنذاك وقد استردته أمه من جديد حين استطاعت أن تعيله، تلك المدة الزمنية التي استغرقها زمن الواقع مدة ترك الأم ابنها تشارلي شابلن ثم عودتها من جديد يكثفها المخرج في لحظات زمنية قصيرة وتتدخل الموسيقى لتساعد في تسريع وتيرة الزمن ويضيف المخرج بعداً جمالياً فيعتمد على الاستعراض، وعلى مستوى الدراما ولأن الفن محاكاة للواقع وليس نسخا لها فإن هذا الجزء قدمه المؤلف والمخرج بقدر من الجمالية والذكاء فقد آثرا أن يقدما الأم تبحث عنه بعد أن تاه منها ابناها الاثنان “تشارلي وأخوه” وأنها ظلت تبحث عنهما إلى أن وجدتهما من جديد، وقد كان جزءا مؤثرا بشكل كبير ودعمت الموسيقى بشكل واضح هذه اللحظات الدرامية وكثفتها فالموسيقى تستطيع أن تختزل الزمن من خلال آلية العزف وسرعة الإيقاع، أيضا في سياق مشاعر الخوف والألم التي تدعمهم الموسيقى فإن لحظات التعسف والمطاردات السياسية لتشارلي حتى يكف عن انتقاد السلطة تتكرر فيها التيمة الموسيقية تدعيما لهذه اللحظات المقبضة على المستوى النفسي.
أما الصورة الثانية لما تستعيده الموسيقى عبر التكرار: هي مشاعر الانتصار والفرح والتي استهل بها العرض أحداثه وبدأ بلحظة فوز تشارلي بالأوسكار،                                                                                     هنا يؤسس العرض لبداية من البهجة تؤكدها الموسيقى وبالتكرار يعرف المتلقي أنه سيستمع على الدوام لتلك التيمة الموسيقية التي تخاطب وجدانه معبرة عن حالة البهجة والفرحة والفوز، ولأن الموسيقى تنشد الأثر النفسي فإن التأسيس لتيمة منذ البداية له أثر بالغ ويستدعي حالة شعورية بالغة الخصوصية لدى المتلقي، فترتبط التيمة الموسيقية بشعور معين حال تكرارها بنفس صورتها التي عرضت بها في البداية، أما حين يتم التنويع على هذه التيمة واتخاذها روح الحزن كما حدث في العرض فإنها في اللحظة التي تعزف فيها لأول مرة بشكل حزين فهي تخالف أفق التوقع لدى المتلقي الذي اعتاد عزفها بمناسبة الفوز مما يثير الأسئلة في ذهنه، ويؤكد أن هذه التيمة ستكون الأيقونة الأهم في العرض وهي تحمل عددا لا حصر له من الدلالات التي تعمد أن يقدمها صناع العرض.
  يمزج العرض بشكل واضح بين تقنيات المسرح الموسيقي الغربي وبين المسرح الغنائي المصري فتجده يقدم الغناء والموسيقى لكن في لحظات كثيرة من العرض يقدم الحوار الدرامي كطبيعة المسرح الغنائي الذي لا يتخلى عن الحوار بين الممثلين بينما في نسيج العرض ذاته تتجلى الموسيقى والاعتماد عليها وهي تكمل الحدث الدرامي في كثير من الأحيان مع الأخذ في الاعتبار أن العرض لا يخلو من الإلقاء المنغم للممثلين، والتيمة الأساسية في العرض موسيقية بالأساس وتتعامل مع خيال المتلقي بشكل واضح وتحيله دائما إلى أزمان مختلفة من رحلة تشارلي تشابلن على مدار العرض، وتمهد دائما إلى طابع مغاير للحن جديد على امتداد العرض وهو ما يصنع زخما على مستوى الموسيقى ويصنع إطارا للأحداث الدرامية.
يحقق هذا العرض أهم سمات المسرح الموسيقي الغربي وهي شعور المتلقي بأن المساحة على خشبة المسرح لا يشغلها ديكور به تفاصيل تعوق التدفق الدرامي وحركة الممثلين لكنه في الآن نفسه يعتمد على ديكورات ضخمة تشعر المتلقي أنه في عالم تشارلي شابلن سواء السينمائي أو في مجتمعه الإنجليزي، لكن ما يميز هذا الديكور ويعد إضافة شديدة الخصوصية في هذا العرض أنه رغم ضخامة الديكور الا إنه يمتاز بسهولة الحركة والاتساق مع طبيعة العرض وكونه يعتمد على السيرة الذاتية لشخصية تشارلي شابلن ولأن المتلقي يعرف الشخصية جيدا ويعرف عالمها كان الديكور أقرب لما يراه المتلقي ويعرفه عن تشارلي في شاشة التلفاز، وهنا نؤكد على أن مهندس الديكور «حازم شبل» قد أجاد بشكل واضح في جعل الديكور جزءا من الحدث الدرامي وداعما له، وكل تغيير في الديكور يتسم بالسلاسة وينقل الأحداث إلى مكان آخر وبالتالي ينقل الزمان ويظل الديكور بشكل دائم كخلفيات أو على جوانب المسرح فتشعر أن الديكور جزء من الحدث عدا بعض موتيفات تتحرك وفق المطلوب في المشهد الدرامي، واللافت للنظر في ديكور العرض أنه ليس مجرد شكل جمالي مع احتفاظه بالجماليات لكن للديكور دوره الوظيفي بدرجة كبيرة فلحظة التحقيق مع تشارلي على سبيل المثال يمكن فيها تحريك القطعة الديكورية التي يقف عليها المحققون يترأسهم «أيمن الشيوي” كنوع من تأكيد هيمنتهم على المشهد ككل.
الملابس ل”ريم العدل” اعتمدت التعبير عن الحقبة الزمنية مع احتفاظها بأن تكون سهلة الحركة والتغيير، هذا بالإضافة إلى أن ألوانها التي تناسبت مع طبيعة دراما العرض، الاستعراضات تصميم «عمرو باتريك» وهي تحاكي الاستعراضات إبان الفترة الزمنية لتشارلي شابلن لكنها احتوت على لمحة عصرية لتدعم الحالة العامة للعرض، وتضيف ثراء على مستوى المرئي وتعد الاستعراضات سمة أساسية من سمات المسرح الموسيقي، وتساعد -الاستعراضات- بشكل أساسي في الانتقال من مشهد لآخر فهي تجعل المسافة الزمنية صفرية بين الجمهور والممثلين وتحولهم من مشهد لآخر في سياق العرض المسرحي.
الإكسسوار ل”د. محمد سعد” ينبئ اختيار قطع الإكسسوار في أي عرض عن فهم عميق للعرض ودرامته أو بعد عن الفهم ينتج عنه أن ينفصل المتلقي عن العرض على المستوى النفسي والذهني وتلاحقه الأسئلة من نوعية هل هذا الإكسسوار مناسب للدور أم لا؟ وفي عرض تشارلي شابلن يمكن الإشادة باختيار الإكسسوار لكل شخصية فثمة إدراك لطبيعة الشخصية وطبيعة الدور والحالة العامة للعرض إلى جانب الحقبة الزمنية التي يحاكيها العرض.
التوزيع الموسيقى ل”نادر حمدي» اختار الموزع مجموعة من الآلات الموسيقية التي دعمت من إبراز اللحظات الدرامية المتنوعة خصوصا في التنويع على عزف التيمة الموسيقية الأساسية للعرض سواء كان العزف بطابع فرح أو بطابع حزين.
الإضاءة ل”جون هوى” لها دور هام وهو دائما الدور الذى يوكل إلى الإضاء في العروض الموسيقية العالمية بما يعني أن تكون الإضاءة مشاركة ومدعمة للموسيقى والحركة والملابس واللحظة الدرامية في العرض الموسيقى أضف إلى ذلك إضافة الجمالية على الاستعراض.
العرض منذ بدايته يتنوع فيه الاعتماد على آليات الاسترجاع والاستباق ولا يعتمد البناء التقليدي للزمن بل يتنقل برشاقة في الزمن وبالتالي يتم التنقل في المشاهد، وهو ما يتطلب قدرا كبيرا من الانتباه أثناء المتابعة، وهو ما يعد في صالح العرض.
قام بدور  تشارلي شابلن  الممثل «محمد فهيم» وهو على المستوى الجسدي مناسب بصورة كبيرة للدور، وعلى مستوى الأداء اجتهد في الدور بشكل واضح مع ملاحظة أن الدور يمر بالعديد من التحديات، وأخيرا فإن المخرج أحمد البوهي حاول تقديم المسرح الموسيقى الغربي بشكل مصري فنتج عن ذلك المزج بين المسرح الموسيقي العالمي والمسرح الغنائي المصري باستخدام آلات موسيقية غربية.


داليا همام