النقطة العميا لعبة تعرية الإنسان أمام نفسه

النقطة العميا لعبة تعرية الإنسان أمام نفسه

العدد 859 صدر بتاريخ 12فبراير2024

أحيانا يصير الإنسان قاضيا على نفسه، وأحيانا يكون مدافعا عن نفسه ليبرر لها كل أفعالها المنبوذة، وأحيانا أخرى يصبح هاربا من نفسه مكذبا لها ولأفعاله حتى يصدق كذبته. حينها تختفي من أمام عينيه كل سلبياته بعد أن منع نفسه من رؤية أي شيء ينقده أو يرفض تصرفاته. فهو هنا قد صنع لنفسه «نقطة عمياء»، وهو مصطلح يطلق غالبا على  قائدي السيارات لا سيما سيارات النقل الثقيل حيث تكون لديه في المرآة مساحة ما لا يراها تسمى النقطة العمياء، فهي التي لا يستطيع الوصول ليها بنظره وبالتالي قد تسبب له حادثا أو كارثة ما.
في مسرح الغد التابع للبيت الفني للمسرح يقدم المخرج/ أحمد مراد مسرحية «النقطة العميا»، التي أعدها عن قصة قصيرة للكاتب السويسري العالمي/ فريدريش دورينمات، بعنوان “العطل”.
يدور العرض من خلال رجل أعمال يدعى «آدم السمري» تعطلت به السيارة في منطقة منعزلة، في ليلة عاصفة ممطرة، مما يضطر للمبيت في أقرب منزل بعد أن أخبره الميكانيكي بأن العطل لن يعالج قبل الصباح. في هذا المنزل يلتقي بعدة شخصيات يربط بينها رابط واحد وهو أنهم كلهم خبراء في القانون بحكم أعمالهم في الهيئات القضائية؛ “عادل الريدي” دكتور علم النفس الجنائي، «كمال الدميري» دكتور القانون الجنائي”، وصاحب المنزل الدكتور “حكيم” الأستاذ في تاريخ القانون. وقد اعتادوا أثناء السهر معا ممارسة لعبة (المحكمة) حيث يتم توزيع الأدوار بينهم، فمنهم القاضي “حكيم”، وآخر وكيل النيابة “عادل”، والثالث المحامي “كمال”، أما المتهم فهو غالبا ما يكون الزائر الذي تقوده الأقدار إليهم. فتبدأ اللعبة بأنه ليست هناك جريمة لكن وكيل النيابة الذي يتقمص دوره “عادل” يبدأ في استجواب المتهم كي يستنبط الجريمة موضوع اللعبة بتوجيه عدة أسئلة إليه عن حياته وعن أي معلومات خاصة به، حتى يكتشف أن هناك سرا ما في حياته يخفيه عن الناس، فيعمل على الضغط على المتهم حتى ينال اعترافه بما اقترفه من جرائم أو سيئات يخفيها عمن حوله، اعتمادا على أنه لا يوجد إنسان بلا خطيئة. وعند بداية اللعبة مع «آدم» رجل الأعمال يكون رافضا لها في البداية مستهزئا بها وبهم مؤكدا أنه يرى أنه ليس لديه أي شيء سلبي في حياته يخفيه، لكن مع تطور الأحداث يتم اكتشاف أنه قد ارتكب جريمة قتل بشكل غير مباشر، حتى يعترف بذلك مع زيادة الضغط عليه وتصل به النهاية إلى الحكم النهائي الذي ينفذه لنفسه وهو الإعدام شنقا.
يغوص عرض «النقطة العميا» في أعماق النفس البشرية، مستكشفا الصراع الدائم في كل إنسان بين الأنا والهو والضمير. فالبطل هنا “آدم «كان يخفي عن نفسه حقيقتها قبل التقائه بهؤلاء الأصدقاء في هذا المكان، لم تكن لديه الجرأة على التفكير في ما ارتكبه في حق الغير وفي حق رئيسه في العمل بأنه خانه مع زوجته وخطط لموته بالضغط النفسي عليه وهو مريض. فيقول عن نفسه في نهاية العرض وبعد الاعتراف (أنا كنت أجبن من إني أكون إنسان شريف.. بس دلوقتي بقي عندي الجرأة دي) فقد أتاح له هذا التحقيق أو النقاش معه كشف نفسه على حقيقتها وكأنه يتعرف على نفسه لأول مرة كما قال، وقد واتته الشجاعة أخيرا أن يواجه نفسه وأفعاله غير السوية والتي كان يقنع نفسه بها من قبل أنها أفعال طبيعية مبررا لنفسه وخالقا الحجج التي تقتل ضميره أمام نفسه، مع تشبعه بجنون العالم كما وصفه د. «كمال» حيث أحكم “آدم” شباكه وضغطه على شخص (رئيسه في العمل) دون رحمة أو أي اعتبارات أخلاقية أو دينية وإنسانية كي يحتل مكانه، حيث يصف د. «كمال» ذلك موجها له الاتهام بقوله (العالم اللي بتدوس فيه كل يوم علي ناس بعربيتك من غير ما حد يحاسبك أو يعاقبك على جريمتك) حتى تتحقق العدالة لتجلو له نفسه على حقيقتها بعد أن أوقعته الصدفة في طريق هؤلاء الرجال القانونيين في لعبتهم الغريبة.
يبدأ العرض بإضاءة خافتة أثناء دخول الجمهور مع مؤثرات صوتية وضوئية موحية بعاصفة جوية شديدة. وقد ارتكز على ديكور ثابت طوال العرض، صممه “أحمد أمين”، مكونا من مستويين؛ الأسفل عبارة عن مدخل المنزل به صالة استقبال اتسمت بالواقعية معبرا عن طبيعة شخصيات العمل، حيث توجد مكتبة للكتب في عمق المنتصف حيث أن صاحب المنزل د. حكيم هو مستشار سابق لكنه قارئ جيد جدا ومثقف ويتباهى طوال العرض باستعراض معلوماته عن كل ما يعرفه. مع وجود مقاعد متعددة على الجانبين توجد رقعة شطرنج بين الشخوص لدور يتم لعبه لكنه يظل دون حراك معبرا عن تلك اللعبة التي لا تنتهي أبدا، وقد قبع جهاز جرامافون قديم لبث الموسيقى في ركن بجوار المكتبة. كل هذا يعطى إحساسا بعبق المكان والشخصيات وطبيعتها الكلاسيكية المحافظة نتيجة عملهم بالقانون. وفي مقدمة المسرح بين الجمهور وحيز التمثيل سور خشبي صغير مستوحى من شكل قفص المتهمين في قسم الشرطة يتم توظيفه في بعض مناطق التمثيل. وفي الخلفية درج عالٍ يصل إلى مستوى الطابق الثاني الذي يتسم بالرمزية، فهو الطابق الذي تتم فيه عملية تنفيذ الأحكام على المتهم في اللعبة فيبدو منه غرفة خاصة بالفتاة «داليا» مساعدة الدكتور “حكيم”  حيث تهوى الرسم فتظهر أمامنا بعض لوحاتها التي تعبر عن الصراع النفسي والتمزق الإنساني. ويتدلى من أعلى السقف حبل على شكل مشنقة لتنفيذ حكم الإعدام وهو ما يتم مع السيد “آدم” في نهاية العرض. لم يلجأ المخرج إلى عناصر إبهار أو عناصر مكملة سواء استعراض أو أغاني ولكن اعتمد على عنصر التمثيل مع دلالات الحركة التي رسمها بدقة واتسمت بالحيوية وطرح مبرراتها بذكاء رغم محدودية المكان ومواضع الجلوس الكثيرة للممثلين في أغلب الأوقات، مما ساعد الممثلين على التجويد في الأداء والتمكن من طرح أبعاد الشخصيات. كما اعتمد على عنصر الإضاءة التي صممها «أبو بكر الشريف» التي كانت معبرة عن الطرح النفسي للشخصيات وللجو المحيط لاسيما في لحظات الإضاءة الخاصة بالاعتماد على الألوان الباردة والظلال الخفيفة، والتقابل بين الظل والنور مما أضاف رؤية دلالية خاصة مؤثرة على المتلقي. كما وظف المخرج في لحظات قليلة المؤثرات الصوتية والموسيقى (من تصميم محمود أبو زيد) لدمج المتلقي في الجو المحيط بالمكان وبيئة العرض. أما الملابس التي صممتها “نور سمير” فكانت واقعية وكلاسيكية ومناسبة لكل شخصية دون تكلف. وقد أجاد المخرج توظيف الممثلين كل في دوره حيث أجاد الفنان «محمد نور» في دور “آدم السمري”، رجل الأعمال (المتهم) فهو يبدو ظاهريا في البداية كشخص متزن ذي مكانة اجتماعية عالية، هادئ الطباع، قوي الشخصية، ذكي، لماح، يجيد التعامل مع المواقف ومع الآخرين بلباقة من واقع حياته وعمله ويتسم بمسحة من الغرور الذاتي أو التعالي لمكانته المكتسبة. مع تقدم الأحداث بالتدريج نكتشف بداية أنه رجل شهواني من مداعبته للفتاة المساعدة عند اختلائه بها، ومع تطور تحقيق الأصدقاء شركاء اللعبة معه يتضح أنه شخصية متعقدة ومتناقضة. يعاني من توتر داخلي وصراعات نفسية، ويظهر ذلك من خلال تصرفاته المتقلبة وتحولاته بعد الضغط عليه نفسيا للحصول على اعترافه بارتكاب جريمة قتل بشكل غير مباشر حيث كان يظن أنه في مأمن من ضميره الغائب. وحيث يمكن رؤية تأثيرات الضغوط النفسية والماضي الصعب على حياته وتفكيره أثناء التحقيق. فتمثل شخصيته مجموعة متنوعة متراكمة من الصفات والسمات النفسية مثل التطلع، الغضب، الشك، والتوتر حيث يتم استكشاف دوافعه وأفعاله في سياق حياته التي رواها بنفسه للمحقق دون أن يشعر، مما سلط الضوء على تعقيداته النفسية وتأثيرها على حياته وأدت به في النهاية للتخلص من رئيسه في العمل لاعتلاء مكانه. على جانب آخر نجد في مواجهته شخصية د. “كمال” التي أداها ببراعة الفنان «أحمد عثمان»، فهو ذلك المحقق الخبير في علم النفس الجنائي، الماكر الذي يدرك كيف يستدرج المتهم ليستنبط منه ما خفي في سريرته ويخفيه هو نفسه عن ضميره، حتى أوقعه في شرك أفعاله. كما اجتذب الفنان “أحمد السلكاوي» ضحكات الجمهور بخفة ظله وأدائه السلس في دور د.”كمال” الذي يتقمص شخصية المحامي في اللعبة، وأجاد بالتنوع في الأداء وملاحقة وكيله بالحركة والكلمة كي لا يقع في شراك المحقق. ويظل حتى بعد اعتراف المتهم مقتنعا ببراءته وأنه رجل أعمال محترم لديه فخر شديد بنفسه حتى عندما تنسب له جريمة قتل كاملة فإنه يعترف بها وهو سعيد بها لأنه فخور بذكائه وعقليته الجبارة التي دبرت تلك الفكرة. ويرى د. «كمال» أن لديه جانبا مضيئا وأنه رجل جاد ومجتهد ويسعي لتأمين مستقبل أفضل لأطفاله، وأنه لا يصلح لارتكاب الجريمة ولا يصلح للقتل العمد. أما الفنان “حسام فياض» فقد تميز في دور رئيس المحكمة وأداه بثقة وهدوء وخبرة، مستعرضا معلوماته أمام أصدقائه في كل مناحي الحياة كلما واتته الفرصة للحديث، وهو القاضي المحايد وهو أشبه بالمعلق أو المحاور التليفزيوني الذي يقود الجلسة بتوازن وعقلانية حتى ينال كل طرف حقه. كما كانت الفنانة “هايدي بركات” متألقة في دور المساعدة “داليا” ومناسبة لطبيعة الدور تلك الفنانة التشكيلية التي تعمل على وضع اللمسات الفنية الجانبية المكملة للعبة وللموضوع، بتجهيز الضحية وتهيئته هو وباقي اللاعبين من حيث تجهيز الطعام وترتيب الغرف والملابس، والأهم وضع اللمسات الجمالية لكشف النفس البشرية في لوحاتها المرسومة بعناية في غرفة تنفيذ الأحكام بالأعلى. أما دور الميكانيكي فقد أداه “عمر صلاح الدين” ببساطة وخفة ظل في حدود دوره لكنه ينم عن موهبة جيدة تستحق مساحة أكبر في أعمال أخرى.
عرض “النقطة العميا” عرض جيد ومنضبط، نجح في جذب انتباه الجمهور وحبس أنفاسه من بدياته ولآخر لحظة، مختلفا في تعاطفه مع أو ضد المتهم، مثيرا جدلا نفسيا حقيقيا بين المتلقين الذين وضع المخرج بدهاء كلا منهم أمام نفسه ليحاسبها أو يكشف نفسه لنفسه بعد خروجه من قاعة العرض.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏