مسرحية علشان بوسة !!

مسرحية علشان بوسة !!

العدد 857 صدر بتاريخ 29يناير2024

بدأ الريحاني موسمه الجديد بمسرحية «يوم القيامة» في أواخر أكتوبر 1927 من تأليف «أمين صدقي»، ومثّل فيها الريحاني دور «كشكش بك» مع مجموعة من الراقصات، وكان يدير مسرحه عبد اللطيف جمجوم. وهذه المسرحية – كما جاء في إعلاناتها – من نوع الفرانكو آراب، أي إنها امتداد للمسرحيات الثلاث السابقة «ليلة جنان، ومملكة الحب، والحظوظ»، وهذا يعني أنها بلا موضوع ولا مضمون ولا مغزى، وكل عمادها رقص الراقصات الأجنبيات، مع مواقف هزلية من مواقف كشكش بك المعروفة!! وهذا يفسر لنا عدم وجود أية مقالة نقدية مكتوبة أو منشورة عنها، وفقاً لما بين يدي من وثائق ومقالات، وكأن النقاد ملّوا الكتابة المتكررة عن هذا النوع من قبل الريحاني، لدرجة أنني ظننت بأنها لم تُمثل مطلقاً، لولا وجود إشارات في مقالات لاحقة تؤكد تمثيلها!!
عروض الريحاني هذه جعلته مادة لسخرية الكُتّاب الهزليين ممن كانوا يكتبون الموضوعات الساخرة، مثل الفنان «أحمد عسكر» - الذي مثل في فرق كثيرة ومنها فرقة الريحاني، وكان مشهوراً بإلقاء المونولوجات – وكانت له صفحة خاصة بمجلة «الستار» عنوانها «الإعلانات على طريقة أحمد عسكر» وهي إعلانات ساخرة غير حقيقية، كان ينشرها أحمد عسكر منتقداً فيها الحالة المسرحية في مصر، ومن أمثلة إعلاناته الخاصة بالريحاني – في هذه الفترة – هذا الإعلان: “«تياترو الريحاني» إدارة المدموازيل «كلير» المالية الشهيرة، ابتداء من بكرة يعرض رواية «المرة اللي كلت دراع جوزها»، أوبرا تهيصية حلنبوحية نجيب ريحانية!! تأليف وبقلم ومن عنديات ومن تفكير النابغة الكبير والبهي الأمير سِيد شارع عماد الدين «سي أمين»!! 42 امرأة وشاب على المسرح، راقصات وارد مخازن باريس، يمثل الدور الأول، ويرقص رقص الشارلستون الفني الجميل «محمد مصطفى» الشهير بجودلف جالنطينو الصعيد .. يالله قبل ما يرقص!!”.
وبعد أيام نشر أحمد عسكر إعلاناً ساخراً آخر تقول كلماته: “تياترو الريحاني، هذا المساء رواية «جهنم» استجلبت مناظرها ومعداتها من مخازن «مالك حارس الجحيم» .. راقصات من لهب، ممثلات من نار، ممثلون من ثلج! يظهر نجيب الريحاني لابساً بدلة ضد الحريق وبيده خرطوم يلوح به في وجه أمين صدقي ليطفئ اللهب الخارج من عينيه، وقررت الإدارة صرف طاسات من النحاس للمتفرجين.. يا حفيظ يا رب!”. وآخر إعلان ساخر نشره أحمد عسكر جاء فيه الآتي: “تياترو الريحاني الشهير سابقاً ولاحقاً ولحدّ ما ربنا يحنن عليه بولد تاني!! أبو الكشاكش يقدم لأول مرة باستعداد على قد حاله رواية «أروح في طوكر»! تأليف روميو مصر حسين المليجي، وهي معارضة لرواية «علشان بوسة»، التي ستخرجها الفرقة قريباً، وقد ألفتها قبل سفرها إلى سورية جوليت حارة اليهود «أديل ليفي»! الرواية استعراض كبير في الخناق والتشليق على قارعة الطريق، وضرب الصُرم والعُلق الخفافي. وتشاجر المؤلفة وتحاول قتلها بالطوب والشوم الممثلة «كيكي» خريجة بارات الطليان والروم، وتعزف الموسيقى لحن «على تُقل دمه ياما .. على تقل دمه»”.
وبالفعل عرض الريحاني مسرحيته الجديدة «علشان بوسة» في ديسمبر 1927 - والتي أصرّت إعلانات جريدة «الأهرام» كتابتها باسم «من أجل قبلة»!! – وهي مسرحية مثل العروض السابقة مع تغيير إيجابي ملموس، وقام فيها الريحاني بدور كشكش بك كالعادة، وكان الموسيقار محمد عبد الوهاب يغني بين فصولها!! وكتب ناقد مجلة «المصور» كلمة قصيرة عنها، أهم ما جاء فيها أن تماثيل لكشكش بك كانت تُباع في الشوارع ويقتنيها الناس قبل عام 1927!! وهذه مفاجأة لأنها تؤكد أن شخصية كشكش بك صُنعت في شكل تماثيل أو لعب حجرية أو خشبية تُباع وتُقتنى، بعد أن كُنّا نظن أن «محمود شكوكو» هو أول فنان تُباع تماثيله في الشوارع في تاريخ الفنون المصرية بعد ثورة 1952 أو بعد العدوان الثلاثي 1956 أو بعد نكسة 1967!! 
عموماً قال الناقد: «رواية علشان بوسة» اسم غريب ومغرٍ، عميق في معناه ومشوق! والقصة تدور حول كشكش بك الذي قبّل سيدة في مصعد أحد المحال التجارية، فيطارده البوليس، لذلك قام بالاختفاء في صندوق بضائع مُرسل إلى إحدى أميرات الهند. وعندما وصل هناك ذاق المر ألواناً وحدثت له من المفاجآت العجيبة أموراً روّعته، وهذه كانت مثار ضحك مشاهديه كثيراً. وليس في الرواية حكمة بليغة أو فكرة سامية أو تحليل خلقي يجتني منه نفع ما. ولكن إذا تساهل النقد إلى حد المجاملة، فيمكن أن يقال إن فيها عبرة لهؤلاء النفر الذين جعلوا مضايقة السيدات والتحرش بهن صناعة، كما أنه لا يؤخذ على المؤلف بديع شيء البتة، إذ قد وفى ما يطلب من مؤلفي هذا النوع من حسن السبك وملاحة النكتة، اللهم إلا بعض ألفاظ يمكن تلافيها في المستقبل لثقلها على السمع مثل: «دكر، نتاية، عكك»!! أما التمثيل، فقام به بطل هذه الرواية وهو الأستاذ نجيب الريحاني «كشكش بك» وهي شخصية العمدة المستهتر، وهو الذي خلقها لنفسه من سنين، وأصبحت له علماً، ولا يمكن لممثل أن يجاريه فيها وهو لا يغيرها في كل رواياته، وقد صنعت لها التماثيل الصغيرة، وصارت تُباع في البلد! ويقتنى بها في المنازل. وكفى بذلك شهادة على نبوغ هذا الممثل. ومدام «رينيه» الأميرة الهندية كانت آية في الإبداع وإنّا نخص بالتهنئة الأفندية جبران والقصري والتوني.
ونشرت مجلة «الناقد» كلمة عن المسرحية، جاء فيها: أخرج مسرح الريحاني في الأسبوع الماضي روايته الثانية لهذا الموسم «علشان بوسة»، ومع احترامنا الكلي لصحيفة الأهرام الغراء التي لم تشأ إلا أن تتحمشن وتسميها «من أجل قبلة» لا نستطيع أن نكون ملكيين أكثر من الملك، فهي «علشان بوسة» سواء أرادت شيخة الصحافة أو لم ترد! وقد اشترك في وضع الرواية أو اقتباسها نجيب أفندي الريحاني وبديع خيري فجاءت قطعة فكهة لا بأس بها من النوع الريفيو «الاستعراض». وقد كانت مناظرها فخمة جميلة وإن كان المسرح في ضيقه لا يتسع إلا للقليل. ومما لوحظ في إخراج هذه الرواية التباعد بقدر الإمكان عما كان في «يوم القيامة» من استعراض الراقصات في ثياب لا تكاد تخفي من الجسم بقدر ما تظهر من تقاطيعه وجمال تنسيقه! وهذه مأثرة مشكورة ومع ذلك يا حبذا ويا ألف يا حبذا لو أطالوا أيضاً أردية الراقصات ولو خشية عليهن من البرد!! ومما أعجب الكل به في الرواية «رقصة الجند» فقد كانت غاية في الجمال وأعيدت مراراً. وما أظن القارئ في حاجة إلى أن أحدثه عن نجيب الريحاني في كشكش بك الشخصية التاريخية على المسرح المصري. على أنه في هذه الرواية على الخصوص كان منطلقاً بكامل حريته وقوته لا يتكلف ولا يبدو عليه أثر المغالاة فنال نصيبه من إعجاب الجمهور وتصفيقه. وقد اشترك معه في تمثيل الرواية كل أفراد الفرقة. ويعجبني التخصيص في خلق شخصيات الرواية، فمثلاً محمد كمال المصري «شرفنطح» أسندوا إليه دور «عسكري»، فكان فيه بديعاً جداً. كما أن «عبد الفتاح القصري» قام بدور «الرجل البلدي» بكل مهارة، كما كان خفيف الظل في دور «الأمير الأبلة»، وكذلك أبدى جبران نعوم ومحمد التوني وحسين إبراهيم ومحمد مصطفى كفاءة كبيرة في إخراج أدوارهم.
أما «جمال الدين حافظ عوض» - أحد أهم نقاد المسرح في هذه الفترة وصاحب مجلة «الستار» - فكتب مقالة نقدية، تُعدّ الأهم حول هذه المسرحية، كونها أول مقالة يكتبها الناقد بعد عودته من بعثة تعليمية في فرنسا! قال فيها: إن العام الذي قضيته متنقلاً بين مسارح باريس الكثيرة، والروايات الخالدة التي يمثلها زعماء التمثيل هناك.. كل هذا كان له أثر في نفسي فجعل مني هنا في مصر مخلوقاً غريباً شاذاً، يصعب جداً إرضاؤه، وتحريك إعجابه. كنت أتنقل بين المسارح المختلفة، ولم أدع رواية تمر إلا وشاهدت تمثيلها مرة وثانية وثالثة، لكنني كنت كديوجنوس أبحث عن الرجل الحقيقي بمصباح فلا أجده. مغالاة ولا شك أن أقول إنني لم أشهد رواية أثارت إعجابي، ولكنها الحقيقة المُرّة التي أشعر بها. واليوم، تتحرك أكفي بالتصفيق، وترتسم ابتسامة على شفتي، تتعداها إلى ضحك متواصل، ويخرج من فمي هتاف عال بحياة ممثل مصري أمكنه أن يقدم لي جديداً ينتزع مني الإعجاب. وكما هتفت في المسرح، أهتف على صفحات مجلتي: “برافو نجيب الريحاني”.. أنا لا أحب المديح، وآخذ على أصدقائي الإفراط فيه، وإلقائه جزافاً لكل دمية و«أراجوز» يتحرك على خشبة المسرح. ولكن أمام ما رأيت لن أستطيع إلا أن أهنئ نجيب الريحاني، وأمنحه لقب «أمير الكوميدي وزعيم الفودفيل في مصر»!
بعد هذه المقدمة التي تتأرجح بين الإسهاب والإطناب بدأ الناقد كلامه حول المسرحية، فقال: رواية «علشان بوسة» رواية استعراضية من نوع «الريفيو» كما يسمونها – ولكن «الريفيو» في عرف المسرحيين الأوربيين يختلف اختلافاً تاماً عما يفهمه المؤلفون هنا في مصر. فالريفيو في جميع المسارح الأوروبية من فرنسية وإنجليزية وأمريكية وألمانية، كما شاهدناه في أكبر المسارح التي تقدمه مثل المولان روج، والفولي بوجيير، والكازينو دي باري، والبالاس وغيرها، عبارة عن عدة مناظر مختلفة، كثيراً ما تبلغ الخمسة وأربعين منظراً لا ترتبط ببعضها بموضوع أو مغزى خاص، وهذا ما يفهم تماماً من كلمة استعراض «Revue» الفرنسية. والمتبع دائماً أن المؤلف للريفيو يضع قصصاً ونوادر مختلفة يعهد بتلحينها إلى موسيقار معروف، ثم يبني المنظر على موضوع هذه القصة أو النادرة. ولو أراد القارئ لذكرت له مثلاً من بروجرام استعراض «هذه هي باريس» التي نالت إعجاب الباريسيين في العام الماضي. في المنظر الأول مثلاً، تجد نفسك في باريس في مطعم معروف، حيث تقدم الخادمات الطعام لرواد المطعم ويرقصن رقصة جديدة. وفي المنظر الثاني أنت في الصين مثلاً، حيث يعرضون أمامك الحانات الصينية التي تقوم بتقديم الأفيون لروادها، وفي المنظر الثالث ترى نفسك في حديقة عمومية في لندن.. وهكذا دون أن يكون هناك ارتباط بين هذه المناظر المختلفة. ويؤخذ اسم الريفيو من منظر واحد من المناظر الكثيرة التي تستعرض أمامك. هذا هو الريفيو كما نفهمه نحن وكما نعرف أن الأستاذ نجيب الريحاني يفهمه أيضاً. إذن فالقول إن رواية «علشان بوسة» من نوع الريفيو خطـأ كبير، وهي في الواقع أوبريت. على أن هناك بعض العذر في تسميتها بالريفيو لما يتخللها من دخول الراقصات بمناسبة وبغير مناسبة مما يجعلنا نتجاوز عن الخطأ في هذه التسمية. اشترك في تأليف هذه الرواية الأستاذان نجيب الريحاني وبديع خيري، فكان من الطبيعي أن تنجح وقد اجتمع في كتابتها مؤلف معروف بحلاوة أسلوبه وشاعرية أزجاله، وممثل مسرحي، خفيف الروح على المسرح، خفيف الظل خارجه. وما نعيبه عليهما «كلفة» الفصل الثالث على هذه الصورة، بحيث يحس المتفرج بالفرق الكبير بين ضعف هذا الفصل وقوة الفصل الأول مثلاً ونصيحتنا لمن يتعرضون للتأليف، أن يفكروا في ختام رواياتهم، قبل أن يبدأوا في كتابة أول كلمة في الفصل الأول، لأن جمهورنا ما زال في بدء عهده بالمسرح، وهو يتطلب دائماً أن تختم الروايات في حركة وعنف يحركان إعجابه، ويثيران تصفيقه.
ثم انتقل الناقد بعد إلى التمثيل، فقال: يستطيع الأستاذ نجيب الريحاني أن يفتخر بأن لديه مجموعة قوية من الممثلين المعروفين بإجادتهم في إخراج الأدوار الكوميدية الشاذة. ويستطيع هؤلاء الممثلون أن يفخروا بانضمامهم إلى فرقة يعمل على رأسها ملك الفودفيل نجيب الريحاني. والذين يعرفون نجيب ويقدرونه قدره، يعلمون في الوقت نفسه أن نجيب لا يمكنه الوصول إلى ما يريده من إجادة وإبداع في التمثيل إلا إذا توفر له الشرط الأساسي الذي يقوم عليه نجاحه، وهو عمله إلى جانب ممثلين مجيدين يدفعون به، ويحركونه فيحس بالقوة إلى جانبه، فيزداد إتقانه. ولسنا في حاجة إلى إقامة الدليل والبرهان، فالذين شاهدوا نجيب يمثل إلى جانب الممثلة المبدعة السيدة بديعة مصابني يدركون تماماً صحة نظريتنا. ولو كان لنجيب ممثلة مصرية مجيدة تعمل معه في روايته الأخيرة لرأينا إعجازاً يفوق الوصف، ومع ذلك كان نجيب عماد الرواية وموضوع حلاوتها وجمالها، وكانت حركاته وكلماته كلها دليلاً قاطعاً على أنه يستحق بجدارة ما وصل إليه من مكانة في قلوب عشاق مسرحه وفنه. أما محمد مصطفى «جالنطينو» فقد وفيّ الدور عظمته «الكدابة» وذكّرنا بدور «مسرور» الخالد. كذلك أجاد عبد النبي في شخصية الأستاذ المتحفلط. وجبران نعوم في دور الجنرال، وقد أعجبني ماكياجه، ولا غرابة فهو أستاذ ماهر في هذا الفن. أما عبد الفتاح القصري فكان موضع ضحك الجمهور وتسليته. وجاء نجاحه في هذا الدور بعد نجاحه في رواية «يوم القيامة» دليلاً على أنه ممثل مجتهد نابغ، له مواقف معروفة في التمثيل الكوميدي. أما المدموازيل «كيكي» فقد ذكرتنا بمواقف بديعة مصابني التمثيلية. وحبذا لو عني الأستاذ نجيب بتدريبها وتعليمها فتصل إلى المركز الذي تستحقه في التمثيل. وأخيراً كلمة إعجاب عن الرقص والفرقة الباريسية التي يديرها المسيو درسيه بمهارة فائقة. أما الآنسة ميمي مارتيز فهي درة المسرح وكوكبه اللامع وراقصته الأولى فلها كل إعجابنا وثنائنا وحبذا لو عهد إليها بأكثر من رقصة واحدة مرة ثانية.


سيد علي إسماعيل