المهرجانات وسينوغرافيا غزة

المهرجانات وسينوغرافيا غزة

العدد 856 صدر بتاريخ 22يناير2024

 تشتعل المنطقة بالأحداث التاريخية المصيرية التي شدت انتباه العالم نحو غزة. الزاوية المنسية على الخارطة، النقطة الصغيرة الضيقة اتسعت لتسحب حدودها على مساحة العالم. أزاحت غزة الستارة عن لوحتها البطولية: أبناؤها الملثمون بزغوا على مناطيدهم من خلف الغيوم في سماء صافية وشكلوا مشهدا بديعا للمقاومة. الأطفال يستقبلون موتهم في أحضان أمهاتهم على خلفية الدمار. تحتار السينوغرافيا هنا بسرياليتها الظاهرة على خشبة الحدث الواقعي في مشهد يبدو لا واقعي. غاص هذا المشهد في عمق اللوحة ورسم حدودا جديدة للواقع.طفل غزة لم يبك كثيرا، فقد انشغل بترتيب مشهد موته على شكل استشهاد تراجيدي، لكنه استطاع تسليط كشاف الإضاءة، من زاوية مناسبة، وكشف وجه القاتل: وحش بربطة عنق، وبنطال جينز بماركة عالمية، وطاقية دائرية تتدلى منها خصلتان ذات التواءات متهدلة.
 المشهد ساطع الوضوح.. اللوحة تظهر  بكافة دلالاتها المحرجة للمتفرج. إنه مسرح الواقع يفرض نفسه في الفعل الدرامي الواقعي، ولكن رجل المسرح يشيح بنظره، ويختبئ في قاعة الندوات خلف عناوين النظرية الخالية من وجهة نظر، لأنه باع الواقع بثلاثين ذهبية أو فضية.
 كيف يمكن ألا يلطم خيالك الرتيب حدث غزة وخط فعلها المتواصل، ولا تتوقف عن فعل ما كنت تفعله قبل ذلك؟؟؟
 كيف يستطيع الفنان أن يواصل حياكة قطعة بالية من خياله ليصنع قبعة مثقف يكرس فيها زهوه بذاته، وينسى أن طفل غزة يحتاج منديلا يحاك عليه اسمه لأنه ذاهب إلى الحياة في موت محتم.
 تطالعنا عناوين الجدال البيزنطي في مهرجان نظم لتدجين المسرحيين، يتفرس المحاضر في القاعة، ويتلو بمتعة عنوان الندوة المحاك بإبداع قل نظيره: “الذهاب إلى ما بعد الدراما دون العبور بالدراما.. الممكن والمستحيل”
 .. لا يا شيخ..!!
 ثم ينفعل ليعلن بثقة: “أن ما بعد مسرح ما بعد الدراما ستتلوه مرحلة مسرح ما بعد بعد الدراما!!”
 الله أكبر!!
 ثم يستدرك المحاضر، ويخلص إلى تبرير أن المسرح عاجز عن محاكاة ما يجري من أحداث، فاتجه إلى الرقص.. إلى فيزياء الجسد.. هكذا إذن! أي أن الاتجاه إلى أشكال فنية تستثني الدراما ما هو إلا تعبير عن عجز ولكنه عجز المسرحيين وليس عجز المسرح عموما!
 وهناك طبعا نقاشات تزف لنا بفرح بالغ خبر موت المؤلف (مقتولا ربما، بقصد المزاودة على رولان بارت) وموت النص والمخرج والمسرح والجمهور، مجزرة هائلة من الموتى، لكن الأمل لم يمت بعد، لأن  المحاضر، لحسن حظنا، ما زال حيا.
 صدقوني لا أمزح ولا أبالغ. هذه هي الحال التي تسود في مهرجان مسرحي تمت إقامته في وقت تشتعل فيه المنطقة بأحداث تاريخية مصيرية. وقت يقدم فيه الشهداء أرواحهم فرادى وجماعات، بفعل القصف الهمجي لعدو يقتل الـطفال قبل غيرهم. وقت تطير فيه الصواريخ بفعل شباب يسعون لتحرير وطنهم بتضحياتهم البطولية.
يعرف هؤلاء السادة في المهرجانات إياها، إنهم خارج الزمن، خارج الفعل، وإنهم قد تم تدجينهم في مهرجانات تعمل على إفراغ المسرح من محتواه ومن بنيته، والمسرحي من موقفه، ومن مقولته ومن حكايته التي من المفترض أن يحكيها للجمهور في لقاء تتفاعل فيه الصور والمشاعر والأفكار والمواقف.
لست ضد التنظير لو كان في سياق نقد فني حقيقي للعروض المسرحية، وخاصة إذا كانت هذه العروض قد قدمت لجمهور، ولكنني أتهكم على جدال في فراغ عن البيضة والدجاجة، وليس ثمة لا بيضة ولا دجاجة في ظل غياب فعل مسرحي حقيقي موجه للجمهور.      
هناك ثمة “ياغو” معروف بإدارته للمهرجانات من تحت الطاولة، ياغو الخبيث، بعينيين جاحظتين وابتسامة مرسومة ثابتة، كما لو تمت استعارته من “عطيل”، ولكنه هنا يتآمر على المسرحيين من أجل أن يخنقوا “ديدمونة” المسرح.. لصالح من؟ هذا سؤال تعرفون جوابه.. فقد تعرضت الدراما السورية والمصرية للمؤامرة نفسها، بعدما كان التنافس الإبداعي الجميل في ديناميكية تطور رائعة، وتعرض الأدب للمؤامرة ذاتها، وتم ترويضه بالأساليب ذاتها.. والآن جاء دور المسرح الذي يتعرض منذ سنوات لتفريغه من محتواه الإبداعي والفكري وشحطه وحشره في قوالب غريبة تنتمي إلى مجتمعات تختلف ثقافتها عن ثقافتنا وواقعها عن واقعنا، ولكنها تفرض نفسها علينا بحكم عامل تاريخي يتعلق بعقدة التبعية عندنا لأنظمتها الكولينيالية الجديدة، فتطير إلينا على بساط العولمة و”نظام التفاهة” الذي عمم ما هو سخيف وسطحي وضرب الهويات الثقافية لشعوب العالم.
ظهرت تيارات مسرح ما بعد الدراما في الغرب بالتوازي مع تطور السياقات الاقتصادية والسياسية النيوليبرالية، التي تنظر بفوقية للآخر غير الغربي. وزير خارحية الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل اختزل هذه الرؤية بتصريح ينضح بالعنصرية، إذ وصف أوروبا والغرب بالحديقة المزدهرة أما العالم خارج هذه الحديقة فهو غابة متوحشة. وانسجاماً مع هذه الرؤية فقد ظهرت نظريات ما بعد الدراما لتعلن عن انتهاء الصراع في المسرح، أو اللعب بمفهومه. الصراع الذي يُعدّ دينامو الفعل المسرحي.
لكن وإذا صدقنا مقولة أن الغرب “حديقة مزدهرة” يعيش أصحابها بمحبة وسلام، فمن أين للفن أن يستقي مادته الخام؟ إذا كانوا يؤمنون بأنهم يعيشون في مجتمع ما “بعد الصراع” وليكن! هذا شأنهم وتلك هي أوهامهم لأن الواقع هو واقع بما هو عليه ولا يكون حسب تصوراتنا عنه. الصراع الآخر الذي يغيب عن هذا المشهد هو صراع الغرب الدراماتيكي مع العالم الذي يسمونه متوحشاً. وتحديداً عالمنا المُستَعمر من قبل أوروبا، كالسيد الذي لا يرى الصراع مع العبد. فالعبد يجب أن يقبل رؤية السيد.
 يتخثر هذا الصراع أيضاً في الرؤية التي تطرحها نظريات ما بعد الدراما، لكن ماذا بشأننا نحن - المسرحيين العرب الذين نحيا الصراعات في واقع مأساوي؟ إنه لمن الغريب أن يتبنى البعض نظريات تلغي الصراع والحكاية - ويا لمرارة حكايتنا وطولها! - وبالنتيجة فهي تقصي المسرح عن الجمهور. لأنها تخلو من خصوصيته الثقافية الاجتماعية، ولأنها لا تلجأ إلى وسائل تعبيره.
أنا على قناعة بأن الحكاية، والصراع الذي يشكلها هما شرطان أساسيان في بناء العرض المسرحي في عملية التفاعل والتأثير المتبادلة مع الجمهور. إن هذا الإصرار على تبني هكذا نظريات لا ينم إلا عن جهل تام، وتبعية عمياء لكل ما ينتجه الغرب من نظريات في الفن.
 وأعود للمهرجان ذاته، لأهمس للزملاء في العرض الوحيد عن فلسطين: يا زملائي المحترمون، أيمكن أن نظل نتمسك بالخطاب الإنسانوي حتى بعد أو أثناء أحداث غزة؟ ألا ترون بأن غزة طرحت سؤالها: أن نكون أو لا نكون.. هذه هي المسألة..؟؟
لماذا يحلم بطل العرض المسرحي الفلسطيني الذي تمت دعوته للمشاركة في افتتاح المهرجان، يحلم بأن يلتقي القاتل الذي أطلق الرصاصة، وهو الجندي الصهيوني في جيش الاحتلال، ليشرب معه كأسا، ويسأله عن رأيه.. بالرصاصة التي أطلقها طبعاً.. أو أن يقول البطل: لو أن الرصاصة ارتدت إلى جهة أخرى أو لو أنها بثت موسيقى للقاتل، ربما ليستمع إليها فيهدأ ويتراجع، أو أن يتمنى البطل لو أن القاتل لم يطلق الرصاصة!! وهكذا..
 معقول هذا الخطاب الآن في زمن المسألة أصبحت فيه: أن تكون أنت، هو ألا يكون هو؟؟ وهل المترو في فرضية العرض بديل عن النفق؟؟؟ إنها مسألة حساسة جداً، لأنها قد تعني الحق في الحياة على حساب الحق في الأرض، والحق في المقاومة، فغزة الآن أيها السادة تحتاج للنفق تحديداً لأنه عنوان المقاومة.. ألا تعرفون؟
 قد أجد العذر لأن المخرج في العرض الفلسطيني هو مخرج فرنسي، وربما بدا له أن الخطاب الإنسانوي قد يؤثر بالعدوّ الغاصب أو حلفائه فيتوقفوا عن الإبادة الجماعية آسفين!
 وقد أجد العذر لأن منظمي المهرجان هم هكذا، وهذا دورهم.
 تشتعل المنطقة بأحداث تاريخية مصيرية، وفي هذه الظروف بالذات يشدنا الحنين إلى معين بسيسو وتوفيق زياد وغسان كنفاني ومحمود درويش وغيرهم. الذين تفننوا بالكلمة الشعرية، فحشدوا شعبهم والشعوب العربية وهاجموا المحتل.. محمود درويش الذي لم يتوقف عن تذكير المحتل بأن وجوده مؤقت وبحتمية أن ينصرف:
 أيها العابرون بين الكلمات العابرة
 آن أن تنصرفوا
 وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
 آن أن تنصرفوا
 ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
 فلنا في أرضنا ما نعمل
 ولنا الماضي هنا
 ولنا صوت الحياة الأول
 ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل
 ولنا الدنيا هنا... والآخرة
 اخرجوا من أرضنا
 من برنا.. من بحرنا
 من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا
 من كل شيء، واخرجوا
 من مفردات الذاكرة.


عبد السلام قبيلات – الأردن