الجسم والجسدية في المسرح من السيميوطيقا إلى علم الأعصاب

الجسم والجسدية في المسرح من السيميوطيقا إلى علم الأعصاب

العدد 854 صدر بتاريخ 8يناير2024

المحاكاة / اللعب / تكرار اللعب 
 في كتابه «أنثروبولوجيا الإيماءةAnthropologie du geste “ الذي نشر عام 1969 بعد وفاته، يقدم جوسيه دراسة للإنسان باعتباره حيوانا مقلدا بشكل تفاعلي، تتمحور حول مفهوم المحاكاة. وطبقا لجوسيه “أننا لا نعرف الأشياء إلا بالقدر الذي تلعبه هي نفسها، وبما تومئ هي نفسها بداخلنا». 
 وبعيدا عن المحاكاة، فإن اللعب وتكرار اللعب يؤسسان مفهومين أساسيين بالنسبة إلى جوسيه. ويوضح دي روزا، وهو متخصص في هذا العالم، وبنفس مصطلحات جوسيه: 
يشير اللعب إلى الإيماء الضروري وغير الواعي الذي ينتج في الإنسان من خلال حركة الأشياء التي تكتشفها الأعضاء؛ إنه إشعاع الإيماءة المرنة والرنانة للأشياء داخل عضـلات الإنسان. ويشير اللعب إلى الكلي الذي يدخــل إلينا، رغمــا عنا، وتجبرنا أن نعبر عنها. وبالتالي فإن اللعب هو مرحلة الانطباع التي تليها مرحلة التعبير، والتي يسميها جوسيـه في الواقع «إعادة اللعب». وإعادة اللعب هذه هي نوع من إعادة الظهـور: التفاعلات الخارجيـة التي تغلغلـت داخـل الإنسان ويتردد صداها في كامل عضلاته وتجبره على تكرار إيماءات الأشياء وإعادة إنتاجها وتقليدها. 
وفي هذا الصدد يمكننا أن نتأمل إمكانية تصور معرفة الأشياء والأفعال والكلمات نفسها وفهمها، في إطار بدني وعضلي، وبالتالي، يمكننا أن نربط التفسير بالتفاعل، والمعرفة بالتذوق، والفهم بالأكل. وهذه الإمكانية توفر باعثا معينا لتأمل العلاقة المسرحية (والتجارب الجمالية عموما) في إطار عقلي لا مركزي non-logocentric.
     وبشكل مستقل عن جوسيه، فإن ما نسميه في الواقع النموذج التعليمي يبدو أنه يؤكد نفسه على مدار القرن العشرين في مجال علم الجمال وفلسفة الفن، لدرجة أن هذا النموذج يسمح لنا بتفسير أدبي، في إطار مادي جسدي، لتعبيرات مثل «المتعة الجمالية» أو اللذة (وتأمل منظرين مثل دو أندراد وكالفينو وبارث وآخرين). 
 ولكي نركز على المسرح والعلاقة المسرحية، سوف أستشهد باقتراح ريتشارد شيكنر لمصطلح «النكهة الجمالية Rasaaesthetics” التي هي من أجل المسرح التذوقي Rasic theater، الذي يستمد اسمه من نظرية حول النكهة أو المذاق الذي تم تطويره في المسرح الهندي. 

المسرح التذوقي  
 يذكرنا المنظر الأمريكي أنه بشكل متجاور وبديل للنموذج الغربي (الأفلاطوني – الأرسطي) للتجربة الجمالية، المبني على السمع والنظر وبالتالي المسافة وشعار التفسير والفهم، هناك نموذج مختلف، ظل فعالا بشكل ملحوظ عبر آلاف السنين، وهو النموذج الذي نسميه «النموذج الآسيوي”. وهذا النموذج يرتبط بالتذوق، وبالتالي الفم والجهاز الهضمي – ويتعلق بالجسم وبالتالي يقوم على المشاركة المتزامنة والحركية. وهناك بلد وثقافة اشتهر فيها هذا النموذج المثمر البديل والدقيق بشكل مثير للإعجاب، وهو على وجه التحديد المسرح الهندي الكلاسيكي. وأطروحته الشهيرة هي «فنون الأداء أو الدراماتورجيا Natya-Sastra”، وتبرز مفهومين هما «العاطفة bhava” و”التذوق rasa”، وتحدد رؤية المسرح باعتباره فنا يسمح للمشاهد بتذوق العواطف، يتذوقها مثل (أو مع) الطعام. ويطلق شيكنر على هذا المسرح اسم «المسرح التذوقيrasic theater “، ويقرر أيضا أن تجربة جماليات التذوق هي جماليات أحشائية محسوسة في القناة الهضمية. 
     وربما نميل إلى تفسير المسافة بين هذين النموذجين من التجربة الجمالية، ولاسيما في الأداء، في إطار تعارض «العقل/ الجسم» و»المخ/المعدة: وكأن المسرح التذوقي بلا عقل، وأقرب إلى مسرح تذوق الطعام الذي هاجمه بريخت في عصره. ولكن هذا كان خطأ: مثل أي نوع من التجارب الجمالية متعددة الحواس، والحركية، قد يكون هذا المسرح أحشائيا، ولكنه ليس بلا عقل بالضرورة. 
عقل ثان 
 الأحشاء فعلا لها مخ، أو بالأحرى هي مخ، وكما يؤكد علم الأعصاب اليوم، فإن الإنسان يملك عقلا في بطنه، يسمى «العقل الثاني second brain” و”عقل البطن abdominal brain” أو الجهاز العصبي الداخلي المكون من مليون خلية عصبية، أكثر من عدد الخلايا الموجودة في العمود الفقري. وتسمح هذه الملايين من الخلايا للجهاز العصبي المركزي أن يعمل بشكل مستقل عن مخ الرأس، رغم أنهم يظلون مرتبطين بهذا الأخير عن طريق العصب المبهم Vagus nerve. ويرسل معلومات أكثر مما يستقبل. 
 ونظرا لما سبق، فإن التعارض الذي يتناقض بين النموذج اليوناني (الغربي) والنموذج الآسيوي لا يعكس انقسام العقل/ الجسم، أو المخ/ الغرائز، بل يعكس التعارض بين العقل الأول/ العقل الثاني، وكما لاحظ شيكنر مرة أخرى” إن نظام الاستجابة الجذري لا يمنع العين والأذن أثناء الأداء الفعلي، ولكنه يعمل بشكل مباشر وبقوة على الجهاز العصبي الداخلي. 
 وعلى العكس من ذلك، في علم الجمال الغربي، الذي يقوم على الرؤية والسمع، يتم استبعاد الجهاز العصبي الداخلي بشكل مبرمج. وبتأمل الطريقة التي تم من خلالها حذف الجهاز العصبي الداخلي في الثقافة اليونانية (تأمل كتاب «فن الشعر» لأرسطو) ثم في الثقافة اليهودية المسيحية، نجد أن التجربة الجمالية في الغرب تقوم أساسا على العقل وعلى المسافة: إنها تجربة غير متجسدة تهتم أساسا بالفهم/ التفسير وتتميز بإزاحة الجسم والحواس الأدنى، والأعصاب والحركة والمشاركة البدنية المباشرة. 
 ما سبق يقدم دليلا وافيا على أننا، كي ندرس الجسم والجسدية بشكل واف في المسرح، لا يمكننا أن نقصر مراجعنا على العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، ولكن يجب أن ننظر أيضا إلى علوم الحياة، ولاسيما علم الأحياء وعلم الأعصاب. 
 وهذا بالضبط ما حاولت نظرية الأداء عند ريتشارد شيكنر وفيكتور تيرنر أن تفعله، ولاسيما في اقتراح تيرنر الأخير بالدعوة إلى «تركيب حيوي أنثروبولوجي bio-anthropological synthesis” في دراسات الطقس. والأفضل من ذلك هو التوجه العالمي القادر على التوفيق بين الاحتياجات الثقافية والبيولوجية والحتمية الجينية والتعلم. فـ”الجسم والمخ والثقافة” هو عنوان آخر كتابات تيرنر، والفصل الأخير من هذا الكتاب هو «أنثروبولوجيا الأداء” الذي يطرح فيه هذا العالم فرضية التكيف المشترك coadaptation في عملية الطقوس نفسها، والمعلومات الثقافية الوراثية. 
 ومثل هذه الإحالة إلى علوم الحياة هي التي حاول أن يطرحها جان ماري برادير في «السينوغرافيا العرقية Ethnoscenology” (وهو أول مخرج إيطالي يتحدث عن الحالة الجسدية التي يولدها الممثل في فعل أداء الممثلactor’s scenic bios، فمن المنظور عبر الثقافي تسعى السينوغرافيا العرقية إلى دراسة الأسس البيولوجية للممارسات الأدائية والسلوك المدهش، مع الأخذ في الاعتبار المتفرج والممثل. 
الممارسات الأدائية  
 تهدف نظرية الممارسات الأدائية البيلوجية والعلاقة المسرحية (الممثل – المتفرج) التي عمل عليها برادير طويلا إلى: 
(أ) في عالم الحيوان توجد أدائية قبل إنسانية، والتي نشأت بشكل أساسي من كائنات حية أخرى (التمويه ورقصات الزفاف.. الخ). 
(ب) تُستمد الأدائية الإنسانية من أدائية هذه الحيوانات، وأسسها البيولوجية وحتمياتها الجنينية. 
(ج) يستثمر كل من الممثلين والمتفرجين العلاقة المسرحية مع الاحتياجات البيولوجية فيما وراء احتياجاتهم الثقافية (الاجتماعية والجمالية والروحانية)، وبالتالي التعاون مع الحتمية الجينية يما لا يقل عن السلوك الواعي المتعلم الحر. 
 باختصار، علاوة على أننا كائنات بشرية مفكرة (مزودة بقشرة مخية حديثة) في المسرح (أو على الأقل يجب أن نرجع إلى كوننا حيوانات أيضا)، وكائنات حية أفضل (مزودة بمخ وجهاز عصبي داخلي، أو المخ الثاني) فيجب علينا أن نتصرف على هذا النحو. عندما نجد أنفسنا كمتفرجين، أمام كائنات حية أخرى، وردود فعل جسمية ومعرفية نموذجية، غائبة في مواقف أخرى، تتحفز داخلنا. فإن الحركية أو التقمص العضلي هي أحد ردود الفعل هذه، نظرا لأنه، كما توضح الدراسات، ينتج من مجرد حركة بيولوجية (أشار ايزنشتاين إلى أنها تسمى «تعبيرية”) يلاحظها المراقبون أيضا في غياب أي صورة مجسمة. وفيما يتعلق باستعادة الممثل للحيوانية , فهناك خط كامل في أدبيات مسرح القرن العشرين يمتد من مايرهولد وافرينوف وصولا إلى جروتوفسكي، وسوزوكي وباربا، عن طريق كوبوه وديكرو، من بين آخرين. 
 في النهاية، طبقا لبرادير، السلوك الأدائي – في كلا جانبي عقبة الممثل –المتفرج، الجديرة بالتكرار – وهو تفصيل متخصص للغاية للطاقات والاحتياجات الفطرية المحددة وراثيا على أساس التعلم الثقافي. 
 وهذا يؤدي بنا في اتجاه المصطلح الأخير في مسردنا المختصر: «المحاكاة المتجسدة embodied simulation”. 

المحاكاة المتجسدة 
 أثار اكتشاف مرآة الأعصاب بواسطة فريق من الباحثين من جامعة بارما منذ عشرين عاما، اهتماما واسعا، وكان لهذا تداعيات كبيرة على علم الجمال ولاسيما علم المسرح (أنظر على سبيل المثال الجماليات العصبية عند زكي وراما شاندران، ومحاولات جماليات المسرح العصبي عند كالفينو ميرينو وهاجيندون وجاليز). ويذهب إلى حد تقديم تأكيدات تجريبية للعديد من النظريات والفرضيات التي صيغت خلال القرن العشرين فيما يتعلق بدور الجسم (بما في ذلك المخ) في التجربة الجمالية وفهم الممارسات الأدائية. 
 في تحديد الأساس العصبي لسلوك المحاكاة عند الإنسان، يتيح اكتشاف خلايا الأعصاب المرآوية فهما أفضل للعلاقة المسرحية، وتطابق المتفرج مع الشخصية وتعاطف المتفرج – المؤدي والحركية. وبالتالي نصل إلى فهم المحتوى الحقيقي لاستعارات مثل الأكل والمتعة وعلم جمال التذوق. 
 ورغم ذلك، فإن هذا الاكتشاف له نتائج بعيدة المنال. لأن ما ظهر هو نموذج لفهم عمليات الأفعال والنوايا المختلفة تماما عن المقترح الإدراكي، والنموذج المتمركز حول العقل. وهذا النموذج المختلف نسبيا يقوم على نموذج التمثيل الحركي بدلا من التمثيل الإدراكي للأفعال والنوايا. كما يوضح فيتوريو جاليز: 
 بفضل عملية التكافؤ الحركي بين ما يتم تمثيله وما يتم فهمه، لأن كلا الموقفين يتم طرحهمـا من خـلال تفعيل نفس بديـل الركيزة العصبية – تزاحم الأعصاب المرآوية - وهو شكل من من الفهم المباشر لفعل الآخرين الذي يصبح ممكنا.  فكل من التنبؤات المتعلقة بأفعالنا وتلك المتعلقة بأفعال الآخرين هـي في الواقع عمليات نمذجة تعتمد على المحاكاة. ونفــس المنطق الذي يخضع لنمذجــة أفعالنا يخضـع أيضا لنمذجــة أفعال الآخرين. ولفهم الفعل أو القصد الذي يحدده – ويفهم معناه – يعادل محاكــاة هذا الفعــل داخليا. وهـذا يسمــح للمراقب أن يستفيد من مصادره لكي يختــرق عالم الآخــر عن طريــق عملية نمذجــة لها ملامـح الآليـة غير الواعية، والتلقائية وقبل اللغوية للمحاكاة الحركية.. توفر الأعصاب المرآوية خريطة تأسيسية للعلاقة بين الوسيط والموضوع:
مجرد مراقبة الشيء الذي هو ليس هدفا للفعل لا يستدعي أي استجابة منهم. 

نتائج مؤقتة 
 نظرا للملاحظات التي قدمناها حتى الآن، لدينا بوضوح إمكانية تأمل العلاقة المسرحية وتجربة المتفرج. وبالتالي، يجب أن نقدر على استرداد ردود الفعل قبل التفسيرية المقترحة في الثمانينيات، ولاسيما في الدوائر العلمية في أنثروبولوجيا المسرح. وكجزء من كفاءة المتفرج، يمكننا أن نضم التراث الحركي الذي يؤثر في درجة تفعيل الأعصاب المرآوية في المتفرج وهو يشاهد العروض المتخصصة (التمثيل الصامت والرقص.. الخ). بمعنى آخر، يمكننا أن نتأمل خصائص الفهم الحركي للمتفرجين في هذه العروض. 
 فمثلا، يمكننا بسهولة أن نتخيل أن رؤية راقص الباليه لعرض الرقص الكلاسيكي، بفضل التراث الحركي الصلب يمكن أن يؤدي إلى فهم أفضل للعرض أكثر من ذلك المتفرج الذي يفتقر إلى هذه المهارة الفنية. ويمكن تطبيق نفس الخطاب على حالة الراقص الحديث الذي يشاهد عرض الرقص الحديث. ورغم ذلك، هل نحن متأكدون أن الفهم الحركي الأفضل يمكن أن يضمن دائما فهما فكريا أفضل ومزيدا من رد فعل التعاطف المكثف؟. 
 لقد حان الوقت لعلماء المسرح أن يتعاملوا مع ما سماه الفيلسوف الأمريكي ديفيد شالمر مشكلة علم الأعصاب الصعبة: الوعي (مشكلة الوعي الصعبة هي مسألة الخبرة). والمشكلة التي اقترح جابريل سوفيا تجاوزها في المسرح وفي معامل علوم الأعصاب، لا يمكنها أن تستبعد الموضوع. المشكلة الفعلية هي كيف نمزجه 
.............................................................................
ماركو دو مارينيس يعمل أستاذا للمسرح في جامعة بولونا في إيطاليا. 
هذه المقالة هي الفصل الرابع من كتاب «المسرح وعلم الأعصاب الإدراكي» (من ص 62-74.).. تحرير ساليتا فليتي - جابريل سوفيا – فيكتور ياكونو  - صادر عن دار نشر Methuen 2016. 


ترجمة أحمد عبد الفتاح