زيارة إلى كوكب صغير.. أسئلة يجب طرحها عن المسرحية

زيارة إلى كوكب صغير.. أسئلة يجب طرحها عن المسرحية

العدد 630 صدر بتاريخ 23سبتمبر2019

 منذ نشأته كأداة دراسية، اكتسب مقال (إلينور فوكس Elinor Fuchs) متابعة متخصصة، مع نسخ مصورة منه يتم توزيعها في الدوائر الأدبية والأقسام الجامعية. وفي الآونة الأخيرة، ألهمت المناقشات في غرف الدردشة علي الانترنت وتصدرت الاقتباسات في المجلات العلمية، علي الرغم من أنها ما تزال غير متاحة للقراءة علي نطاق واسع. وقد حان الوقت لنشر المقالة التي توسع إدراكنا للعوالم الدرامية. ومثل المسرحيات الجيدة يتزايد معناها مع كل قراءة.

 الجولة التالية في البناء الدرامي هي أداة تعليمية . فمنذ عدة سنوات ماضية تعودت في “ مدرسة يول للدراما Yale School of Drama” كمدخل لقراءة المسرح، علي تقديم دورة في الكتابة النقدية للطلاب .
 وقد تم إعداد الأسئلة التالية جزئيا لمنع القفز الفوري إلى الشخصية وعلم النفس المعياري الذي يوجه الكثير من النقد الدرامي . وبغض النظر عن هذا التحيز التصحيحي، فإن المنهج المقدم هنا ليس نسقا يقصد به إزاحة المناهج الأخرى في تحليل المسرحية، فأنا أستخدمه غالبا مع رؤى أرسطو التي لا مثيل لها في بناء الحبكة. وبدلا من ذلك. يمكن تأملها باعتبارها قالب للتصور النقدي.
 في مقال جيد عن مسرحية (هيدا جابلر) وصف (فيليب لارسون Philip E. Larson) طبيعة النقد الحقيقي للأداء المسرحي . فإذا كان النقد لا يريد تهدئة التقييم الزائل، فلابد أن يحاول وصف شيء محتمل، شيء لن يراه الكاتب الدرامي أو الناقد أو القارئ. وهذه الأسئلة معنية بتنوير المادة المظلمة في العالم الدرامي، لتوضيح الاحتمالات إلي يشير إليها ( لارسون) . وبغض النظر عن الإجابة التي ترد، فان عملية الاستفسار ذاتها تساهم أساسا في عملية النقد .
 يجب أن نفترض أنه لا توجد مصادفات في عالم المسرحية. إذ لاشيء يحدث بالصدفة. وفي هذه الحالة، لاشيء في المسرحية دون مغزى. وفي المقابل، تطلب منا المسرحية أن نركز عليها بوعي تام، وأن نستحضر انتباهنا وفضولنا بدون رقابة التفسير الانتقائي، أو الذوق الجيد، أو الشكل السليم. إذ يجب علينا قبل إصدار الأحكام أن نطرح أسئلة. وهذا هو أعمق معنى للفكرة التي تتكرر كثيرا ولا تفهم جيدا، وهي أن دراسة الفن توضح لنا كيف نعيش .
أولا – عالم المسرحية : الأشياء المهمة أولا
 المسرحية ليست من أعمال الأدب السطحي، وليست وصفا لعالم آخر في قصيدة، ولكنها في ذاتها عالم آخر يمر أمامك في زمان ومكان. واللغة أحد أجزاء هذا العالم. وأولئك الذين يفكرون في اللغة حصريا يجدون صعوبة في قراءة المسرحيات. وعندما ترى هذا العالم الآخر، وعندما تعايش فعاليات مكانه وزمانه، وبناءه، عندئذ يمكنك معرفة دور اللغة فيه.
 وإذا كان التركيز الشديد علي اللغة يجعل قراءة المسرحيات صعبة، فإن التركيز الشديد علي الشخصية يخلق عكس المشكلة : يجعل القراءة سهلة جدا . والنظر إلي البناء الدرامي بشكل ضيق في إطار الشخصيات يؤدي إلى انهيار هذا العالم الغريب وتحوله إلي عالمنا. فعالم خشبة المسرح لا يطيع القواعد المتبعة في عالمنا، لأن في عالمها، لاشيء آخر محتمل غير الموجود فيها، فلا يوجد فيها أحد آخر، لا جغرافيا أخرى متاحة، ولا أفعال بديلة يمكن اتخاذها.
 ولكي ترى هذا العالم، افعل ذلك صراحة: اقلب المسرحية في كرة متوسطة الحجم، وضعها أمامك علي مسافة متوسطة، وافتح عينيك. اجعل الكرة صغيرة بالقدر الذي يجعلك ترى الكوكب كاملا، بحيث لا تكون صغ
يرة جدا حتى لا تفقد التفاصيل، ولا كبيرة جدا حتى لا تطغي التفاصيل علي الكل.
 أمامك الآن عالم المسرحية . اسأل عن المكان وأنت تحدق. ما هو شكل المكان علي هذا الكوكب؟ مكان داخلي أم خارجي، ومبني أم طبيعي؟ هل المكان هنا مغلق أم مفتوح؟ هل ترى مقطع طويل بعدة وقفات؟ وهل ترى مناظر طبيعية أو وديان أو جبال؟ وبر وبحر؟ وهل نحن في جزيرة؟ في كهف؟ في صحراء أو غابة؟ علي طريق زراعي؟.
 والآن اسأل عن الزمن. ما هو سلوك الزمن علي هذا الكوكب؟ هل الزمن متوقف؟ هل الزمن متقطع ومحموم علي هذا الكوكب؟ هل هو زمن بطيء، أم يمر بسهولة؟ كيف يمكن تحديد الزمن علي هذا الكوكب؟ باستخدام الساعة؟ باستخدام الشمس، باستخدام صوت وقع الأقدام؟ وما نوع الزمن الذي نحن فيه؟ هل هو زمن دائري؟ هل هو زمن سرمدي؟ متتابع؟ وما نوع التتابع؟ باليوم؟ بالعمر؟.
 اسأل عن المناخ علي هذا الكوكب؟ هل لدينا عواصف؟ كسوف للشمس والقمر؟ هل لدينا حرارة شديدة؟ هل لدينا برد يصيب بالشلل؟ هل البيئة علي هذا الكوكب خصبة وغنية، ذابلة ومنكرة للحياة، خانقة وبلا هواء؟ ما هو الإحساس الموسمي لهذا العالم؟ هل هو خريفي؟  أم شتوي؟.
 ما هي الحالة المزاجية علي هذا الكوكب؟ مرحة؟ جادة؟ حزينة؟ ساخرة؟ كئيبة؟ الحالة المزاجية ليست مجرد سؤال عن الحبكة ( فالكوميديات سعيدة ..الخ)، فالنغمة تساهم في الحالة المزاجية أيضا . ما هي نغمة هذا الكوكب؟ رقيقة أم خشنة؟ عقلانية أم عاطفية؟ مقيدة أم عنيفة؟ كيف يتم ابتكار الحالة المزاجية النغمة علي هذا الكوكب؟ من خلال الموسيقي ، الضوء، الصوت، اللون، الشكل؟ وما هي الأشكال؟ منحنيات؟ زوايا؟.
 تذكر أنك لن تستطيع أن تقرر أن الكوكب شتوي أو مظلم لأنك تعتقد أنه يمكن أن يكون أكثر اثارة بالثلوج والضباب، لم يحن الوقت بعد علي الأقل . تأكد أنك منتبه لما هو موجود، فلا بد أن هناك دليل فعلي علي الكوكب لما تقوله عنه.
 لم ينته الأمر عند هذا الحد. ففي أغلب العوالم الدرامية هناك أماكن خفية، أو علي الأقل غير مرئية . اطرح الأسئلة عنها أيضا . ماهي سمات المكان والزمان والنغمة والحالة المزاجية؟ وكيف ترتبط بالعالم المقدم، العالم الذي تستطيع أن تراه؟.
 في النهاية، بينما تنظر الي هذا الكوكب، أصغ إلي موسيقاه. فكل عالم درامي سوف يكون له أصوات مميزة، وربما يقترحها – أصوات الحداد والاحتفال، ونمط الأطفال، والتعويذة. وسوف تستبدل أصوات الإنسان والمناظر الطبيعية، أو الصوت والسكون . أصغ لنمط الصوت.

ثانيا – العالم الاجتماعي للشخصية: نظرة فاحصة
  مازلت لست مستعدا لبحث الكائنات التي تسكن هذا العالم . قبل أن تتساءل عن ملامحهم الشخصية ودوافعهم، فهناك أشياء أخرى تحتاج أن تعرفها.
 حافظ علي التحديق في هذا الكوكب. هل هو عالم عام، أم خاص؟ ما هي قواعد طبقته؟ ارستقراطية؟ شعبية؟ مختلطة؟.
 وفقا لأي نمط يمكن للنماذج الدرامية أن تنظم نفسها في هذا الكوكب؟ هل ترى مجموعات في حالة تفاعل، أم أفراد منفصلين، أم كليهما؟ هل هناك شخصية رئيسية، شخصية محاطة بمجموعة؟ هل النماذج متصارعة في ثنائيات؟ هل ترى توتر المثلثات المتشابكة؟
 كيف تظهر النماذج الدرامية علي هذا الكوكب؟ هل هم أحادي الأبعاد أم ثنائي الأبعاد؟ بارعين؟ مبالغ فيهم؟ هل هم مثل الدمى؟ البهلوانات؟ يشبهونك؟ (هل أنت متأكد؟ ).
 كيف ترتدي النماذج الدرامية الملابس علي هذا الكوكب؟  العباءات، قواطع من الورق المقوى؟  مثلنا؟ ( هل أنت متأكد).
 كيف تتفاعل النماذج الدرامية؟ بالقتال؟ بالنقاش المنطقي؟. ومن لديه السلطة علي هذا الكوكب؟. وكيف تتحقق؟ وعلي من تطبق؟ وتطبق لأي غاية؟.
 ما هي عادات اللغة علي هذا الكوكب؟ شعر أم نثر، حوار أم صوت أحادي، بالتأكيد. ولكن أيضا، ما هو نوع اللغة السائدة – والأفكار والمشاعر؟. وما هو نوع المشاعر؟ هل اللغة نابضة بالحيوية أم مسطحة، أم مختزلة، أم متدفقة، أم مجازية، أم منطقية؟ . مرحة أم جافة؟ وماذا عن الصمت؟

ثالثا – ما هي التغيرات؟
 أصبح لديك شعور بهذا العالم . والآن أنظر اليه بشكل فعال، لأنه يتحرك في الزمن، داخل قواعد إجراءاته، ولاشيء يبقي كما هو. ما الذي يغير هذا العالم؟
 أنظر الي أول صورة . وانظر الي الأخيرة . ثم حدد صورة ملفتة للنظر عند منتصف المسرحية (الصندوق الفارغ لدي كيد في مسرحية “ تراجيديا أسبانية “ مثال جيد). لإعطاء قيمة للمصير علي هذا الكوكب رتب هذه المحددات الثلاثة. لماذا كان من الجوهري أن تمر من بوابة الصورة الرئيسية لكي تصل من أول صورة الي آخر صورة؟
 ما هي التغيرات في المشهد الطبيعي لهذا العالم؟ هل يتحرك من الداخل الي الخارج؟ من الوديان الي الجبال؟ من المدينة الي البرية؟
ما هي التغيرات في الزمن؟ هل يتحرك الزمن من الغسق الي الليل؟ من الليل الي الفجر؟ من الصباح إلي منتصف الليل؟ خلال فصول السنة الأربعة؟ خلال مراحل حياة إنسان؟ أم مراحل الحياة الداخلية، من بدء الخليقة حتى يوم القيامة؟
 ما هي التغيرات في اللغة والنغمة والحالة المزاجية والملابس؟ بالطبع سوف تساهم كل التغيرات التي اكتشفتها في الشخصية وتأملها، ولكن يجب رؤية كل مسار كنسق دلالي في ذاته .
 ما هي التغيرات في الحدث؟ هل انتقلنا من الاضطراب إلى الزفاف (وهو الحبكة الأساسية في الكوميديا الرومانتيكية) ومن التهديد إلى الاحتفال السلمي (وهو الحبكة الأساسية في مسرحية تراجيكوميدية)؟ ومن التهديد إلي الكارثة (وهو الحبكة الأساسية في التراجيديا)؟ ومن المعاناة إلي البعث (وهي حبكة المسرحية العاطفية)؟ ومن التهديد إلي النتيجة المزدوجة، والمعانة من الأشرار والدفاع عن الخير (الحبكة الأساسية في الميلودراما)؟
 ما الذي لم يتغير؟ هل هناك نقطة ثابتة في هذا العالم؟ حقيقة مطلقة؟ اله؟ مقبرة؟
 انظر لمرة أخيرة. إجمع الزمان والمكان والعالم الطبيعي والعالم الاجتماعي، والعناصر التي تتغير وتلك التي لا تغير،  انك تكتشف الأسطورة. المسرحيات مليئة بالأماكن ذات الطراز القديم – القلاع والحدائق والغابات والطرق والجزر وعوالم النبات وعوالم الأحلام، والعواصف ... إلخ. فإذا بدأت المسرحية في قصر، وتستمر إلي ضوء القمر في غابة، ثم تعود الي القصر في اليوم التالي أو في الليل (والذي هو ليل أو نهار)، ما الذي يخبرك به هذا التطور؟ وكيف أن مشهد القصر الأخير مشروطا بالرحلة الليلية الى الغابة؟ هل تحول عالم المسرحية في نهايتها هو عالم متحول؟ أم أن نفس العالم عاد إلى طبيعته مع تعديلات طفيفة؟ العوالم تقوم وتسقط وفقا لإجابتك.

رابعا – لا تنسى نفسك:
 في بحثك عن التغيرات لا تنسى أن تسأل ما هي التغيرات بداخلك، يا من تتخيل هذه العوالم . ما الذي تطلبه هذا العالم مني؟ هل يطلب مني الخوف والشفقة؟ هل يطلب مني أن أفكر؟ هل يطلب مني أن أشارك ماديا في الحدث علي خشبة المسرح؟ هل يطلب مني أن أتفاعل مع المتلقين الآخرين؟ هل يطلب مني أن أترك المسرح وأتخذ موقفا سياسيا؟ هل يطلب مني أن أبحث عن وجودي الأخلاقي؟ ربما يعني هذا العالم أن يسليني؟ ولم لا؟  ولكن كيف يحقق هذا القصد؟

خامسا – المرايا المسرحية
 المهم في هذه الأنساق أن العوالم الدرامية لا تتحدث لنفسها وداخل نفسها، فهي أيضا تتحدث لكل منها الأخرى. كم عدد العروض التي تشير إليك من الداخل في هذا العالم؟ وكم عدد أصداء العوالم الدرامية الأخرى التي تقترحها؟ كيف تعلق هذه الطبقات المسرحية الإضافية علي ما اكتشفته فعلا؟

سادسا – الشخصية تلاءم النمط
 أنت الآن مستعد لفحص النماذج الدرامية التي تسكن هذا العالم. كل افتراض تقدمها عن الشخصية يجب أن تعكس شروط عالمها، بما في ذلك الطريقة التي يوظف بها علم النفس في ذلك العالم. ويمكنك أن تصل الى أكثر الصيغ اثارة من أي سؤال عن الشخصية باكتشاف ملامح عالمها المسرحي . الشخصيات تعني فقط أنها تسكن وتجسد وتشارك في سلسلة متتالية من المواقع والأفعال والأشياء في ظل مجموعة شروط محددة. فهم مقومات نموذج فني مركب. اكتشف النموذج أولا .
 تحذير: لا تسمح لنفسك أن تبني نموذج يحذف مفرداته، والأحداث الغامضة، والأشياء، والنماذج، والمشاهد غير الملائمة . وتذكر أن لاشيء في عالم المسرحية موجود بالصدفة . فالألغاز لها مفاتيح . افترض أن العالم الدرامي هو عالم واع، محدد، ومحدود. قدم تعليلا لذلك العالم يحاول أن يتأمل دور كل عنصر فيه – عنصر بصري، شفوي، زماني، نغمي، تصويري . كن فضوليا بينما يتجلى كل عنصر مثل الممثل في المسرحية، كن الشخص الذي يثيره المعنى.
 يمكنك بالطبع أن تبني المعنى في هذا العالم بعدة طرق مختلفة. ابني ذلك العالم بأقصى طريقة حصرية ممكنة. وسوف يكون هناك المزيد لتشاهده .
 --------------------------------------------------------------
• إلينور فوش تعمل أستاذا للدراماتورجيا والنقد الدرامي بجامعة يول بالولايات المتحدة . ومن أهم كتبها : “ موت الشخصية : تأملات في مسرح ما بعد الحداثة”


ترجمة أحمد عبد الفتاح