الجسم والجسدية في المسرح من السيميوطيقا إلى علم الأعصاب

الجسم والجسدية في المسرح من السيميوطيقا إلى علم الأعصاب

العدد 853 صدر بتاريخ 1يناير2024

أود أن أبدأ من النتائج التي قدمها جان ماري برادير في المقال الذي نشره أخيرا: 
(1) لا يمكن قبول أي نظرية عامة للمسرح اليوم، كما أنه لا يمكن أي تؤدي أي معلومة علمية إلى أي تعميم. 
(2) لا بد أن نقبل فكرة أننا يجب أن نتعامل مع الحاجة إلى إعادة تعريف وتوضيح مستويات التنظيم بشكل مستمر والنظر في العلاقات بينها. 
(3) نحن محكوم علينا بالتعاون، بمعنى أنه، بتواضع وطموح، يجب على كل فرد أن يعتبر نفسه نسقا مفتوحا بشكل واع. 
هذه هي المقولات التي أتفق معها بالكامل تتضمن التالي: 
( أ ) تؤكد حتمية أن تتبع دراسات المسرح هذا الدمج في النظرية والممارسة والتاريخ الذي أسميه منذ أكثر من عشرين عاما «علم المسرح الجديدNew Theatrology” 
(ب) ورغم ذلك لا يستبعدون الحاجة إلى تطوير نماذج نظرية جديدة – جزئية ومؤقتة – أو الأفضل من ذلك تطوير نماذج جديدة لدراسة التجربة المسرحية من كلا الجانبين (فيما يتعلق بكل من الممثل والمتفرج). 
(ج) هذه النماذج الجديدة من الواضح أنها يجب أن تكون متعددة المجالات أو عابرة للمجالات، وربما أيضا غير منضبطة قليلا (كما تريد دراسات الأداء الأمريكية الشمالية أن تبالغ أحيانا قليلا في رأيي). وبالتأكيد يمكن أن تولد هذه النماذج من “التحيز الجديد” بين ما نطلق عليه اليوم العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية أو علوم الحياة، وهو تمييز عفا عليه الزمن إلى حد ما. 
( د ) في نفس الوقت يمكن أن نحتاج، ما دام هذا ممكنا، أن نتجنب توليد وحوش تأديبية جديدة، مثل علم الأحياء العصبية للمسرح. 
وبهذا المعنى أود أن أقترح قائمة مصطلحات متعددة المجالات أو عابرة للمجالات، والتي ربما تؤكد فائدتها في تطوير نماذج جديدة في التجربة المسرحية. 
ويضع معجم المفردات المختصر هذا علامة تحت كلمة «الجسم Body” و”الجسدية Corporeity”، ولكن الموضوع المعقد الذي يحاول أن يشمله أو يحدده هو تجربة المتفرج التي عرفها جابريل صوفيا، على نحو مناسب، بأنها «تجربة أدائية Performative Experience” 
 وبالتالي دعوني أبدأ من «العلاقة المسرحية the theatrical relationship” (أي علاقة الممثل – المتفرج)، وهي الموضوع المركزي، وإن لم يكن بشكل حصري، لعلم المسرح. والتأكيد في الوقت الحاضر على أن العلاقة المسرحية التي تشرك الجسم علاوة على العقل والعضلات، والفكر والحواس والأعصاب، بقدر التأكيد على الخيال والعاطفة – لكل من المتفرج والممثل أو المؤدي – ربما تبدو بالفعل علاقة مبتذلة. ويعلم هذا كل صناع المسرح تماما، ولكن الفكرة هي أن نظرية المسرح العلماء لا يعرفون ذلك. 
 الحقيقة هي أنه خلال القرن العشرين بدأ قبول البعد الجسدي في التجربة المسرحية من الجانبين (جانب الممثل وجانب المتلقي)، بشكل كامل ضمن نظرية المسرح. وبالتالي بدأت الدراسات المسرحية تتجاوز النماذج غير التجسيدية والتمركز حول العقل والدراسات الثقافية التي ظلت حبيسة منذ أرسطو. 
 في نهاية المطاف، فإن التأخير الذي تعرضت له الدراسات المسرحية في قبول الجسم والجسدية في خطابها النظري يجب أن يكون مرتبطا بالتأخير والصعوبات التي عانت منها العلوم الإنسانية لفترة طويلة، ومن ضمنها، السيميوطيقا واللسانيات والأنثروبولوجيا. 
 وبالكلام عن التأخير والصعوبات لا أشير حقا إلى الجسم كموضوع للدراسة، ولكنني أفكر في الجسم أولا باعتباره «مريضا فاعلا» (كما يقول جريماس) والأفضل من ذلك أنه «البعد التأسيسي” لكل ظاهرة ثقافية واجتماعية، ولاسيما في كل تجربة جمالية على حدة. 
 وقد تغير الموقف اليوم بشكل عميق؛ لدرجة أن لدينا انطباعا بأنه يتم التركيز بشكل مفرط على قضايا الجسم بدءا من السياسة الحيوية إلى الجماليات العصبية. وعلى أني حال، فإن مفاهيم مثل «المعرفة المتجسدة»، و»المجتمعات الجسدية» وما إليها، توضح كيف أصبح الجسم بطلا حقيقيا (إن لم يكن البطل) في الخطاب النظري للعلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية. 
 وهناك شيء واحد مهم بشكل خاص: أن ندرك حقيقة أن المتفرج، مثل الممثل، مزود بجسم وعقل وكفاءة موسوعية تناصية. فالمتفرج بجسمه وفي جسمه يمارس المتفرج الأداء، وهذه هي الكيفية التي يفهم بها الأداء ويعيشه ويفهمه ويستجيب له. (وربما يمكننا التحدث عن تقنيات الجسم كما يفهمها مارسيل ماوس، في ضوء العمل الذي يقوم به المتفرج فعلا في المسرح). 
 وبالرغم من ذلك، فإننا نتعامل مع حقيقة كانت معروفة دائما لصناع المسرح، ولكن العلم تأخر في إدراك ذلك. وقد جاء الإدراك في المقام الأول من تجارب المسرح الجديد (المسرح الحي، وجروتوفسكي، وبيتر بروك، ومسرح أودين، والمسرح المفتوح.. الخ)، وأيضا من استحواذ كل من العلوم الإنسانية (ومن بينها السيميوطيقا) وعلم الحياة. 
 وتطور اللقاء بين المسرح وعلوم الحياة أثناء العقود الثلاثة الأخيرة بفضل سلسلة من المبادرات الدولية المهمة والتي غالبا ما كان يدفعها صناع المسرح. وقد ساهمت هذه المبادرات في نمو النقاش والبحث المرتبط بالأسس البيولوجية لفنون الأداء، خارج الأكليشهات ونسبية المعتقدات الثقافية. وسوف أقتبس ثلاثة أمثلة: المدرسة الدولية للمسرح والأنثروبولوجيا التي أسسها يوجينو باربا 1979، وفرقة  التشكيك في الإبداع البشري مثل التمثيل  Questioning Human Creativity as Acting، والتي تطورت في مالطة عام 1995 التي أسسها المخرج المسرجي والعالم والتربوي جون شوارنز، بالتعاون مع انجمار ليند (الذي وافته المنية عام 1997) وعلماء الإدراك من ريتشارد موسكات من جامعة مالطة وجلين جودال من جامعة بوردو، وفرقة السينولوجيا العرقية Ethnoscenology، والتي انطلقت في باريس عام 1995 بمبادرة من جان ماري برادير. 
 ومرة أخرى، هدفي في هذا المقال هو صياغة قائمة لمفاهيم جديدة فيما يتعلق بالجسم والجسدية في العلاقة المسرحية كما تم اقتراحهم في مختلف المجالات بين العلوم الإنسانية وعلوم الحياة أثناء القرن العشرين. 
الجسم / البدن 
 لقد أثر التمييز الذي اقترحته الفينومينولوجيا على الممارسات الفنية للجسم وكل محاولة تالية لوضع نظرية حول نفس الفكرة. وقد جاء أولا تمييز إدموند هوسرل بين «البدن Korper” باعتباره امتدادا، وشيء، وجسم، والجسم كما هو معاش ومتجسد، ووحدة الإدراك والحركة المعاشين. وقد تناول هذا التمييز وتطوره ميرلوبونتي، الذي فصل مفهوم الجسم عن مفهوم البدن، وهو أول من ينسب قيمة فلسفية لهذا المفهوم. وهو مفهوم ينظر إلى الجسم الذي يشكل مفهوما مشتركا بين الجميع وخط الاتصال مع الخارج. 
 وفي فن الأداء ولاسيما فن الجسم، نشاهد محاولات الفنانين لإعادة اكتشاف أجسامهم باعتباره جسدا leib أو بدنا chair. بمعنى آخر، يسعى فنان الجسم جاهدا من خلال أفعال متطرفة وعنيفة إلى إعادة ضبط جسده وحقيقته الأصيلة خلف كل اغتراب – تشيّؤ بما يتجاوز أي اختزال للجسم إلى موضوع استهلاكي، وإلى مجرد سلعة.  
 المثير فيما يتعلق بفن الجسم والتجارب المتطرفة حول خشبة المسرح المعاصرة (مثل مسرح القسوة عند أرتو) هي أن المرور من الجسم إلى البدن (أي من الجسم كموضوع خاص بنا، وجسد معاش) وغالبا يتم تمثيله كأنه لحم مذبوح (أي قطعة لحم). بمعنى آخر، من أجل تأقلم الذات مع جسدها من جديد، وتخليصها من الاغتراب، يبدو أنه لا غنى عن التحفيز إلى أقصى الحدود، وما وراء ذلك، لإخضاع الجسم لاختبارات شديدة، وحتى لانتهاكه، وبالطبع الحط من قيمته إلى مجرد قطعة من اللحم. وفي هذا الصدد تؤسس لوحات فرانسيس بيكون المثال الأبرز في الفنون البصرية. 

الجسدية 
 ربما من المفيد أن نربط فكرة الجسم الظاهري والمعاش بمفهوم الجسدية أو نمزجها به. وطبقا لإنريكو بتوسي، فإن هذا يشير إلى التعبير الفردي والخاص عن الجسم الظاهري، مثل الجسم الذي يمكن أن يوجد على خشبة المسرح في عروض جان فابر، وروميو كاستيلتوتشي، وجان لوارز، وفيورا ديل بوس، ولكنه ينعكس أيضا في كل من فن الجسم (بداية من جينا بان إلى مارينا أبراموفيتش) والرقص الحديث (بينا بوش، وويليام فورسيث، وسابورو تيشيجاوارا). 
 وفيما يتعلق بالمسرح المعاصر، يعتقد بتوسي أنه من المفيد أن نميز بين الجسم كتصنيف عام وجسدية التجربة المنفردة. بمعنى آخر، تكمن ميزة تبني مفهوم الجسدية في ذلك، بفضل التناول الفينومينولوجي تجاه الجسم، إذ من شأنه أن يتيح إعادة صياغة أفضل للحداثة الحقيقية الموجودة في أبحاث الأساتذة القرن العشرين، وهم الآباء المؤسسون للمسرح الحديث. وليس من قبيل المصادفة، أن أربط قبل سنوات هذه الحداثة بإعادة اكتشاف الجسم. لقد كان بالفعل اكتشافا للجسم الحساس (أي الجسم الملموس، الذي لم يعد يُنظر إليه من الخارج، ولكن عن طريق بحث عميق لدينامياته الداخلية). جسد تحرر، من ناحية، من مجال الرموز، ومن جهة أخرى، من مجال الأشكال، وإعادته إلى ماديته. ومن وجهة النظر هذه، فإن المسألة فعلا ليست دراسة الجسم في الحركة بل الحركة في الجسم.   

الحركية 
فيما يتعلق بالعلاقات بين الخارجي والداخلي، وبين الحركة والشعور، والتعبير والعاطفة في الإنسان، فمن المثير أن نلاحظ نموذج «التحريض البدني للعاطفة physical induction of emotion” أو “الحركية kinaesthesia”، التي أكدت نفسها في أعمال أساتذة المسرح في القرن العشرين والمخرجين التربويين. وقد منح مثل هذا النموذج الموجود بشكل جنيني عند ليسينج في القرن الثامن عشر، وطوره فرانسوا ديلسارت في القرن التاسع عشر، حلا لمشكلة تجاوز التطابق Identification  في مقابل عدم التطابق non-identification، فيما يتعلق بعلاقة الممثل – الشخصية.
ووضحت ممارسة المخرجين التربويين أن الممثل الذي يسعى إلى شعور مرضي على خشبة المسرح، بالنسبة لهدف الدور/السجل، أو أدائه، لا يجب أن يبدأ من المشاعر، بل من الجسم، أي من الحركة والإيماءة والفعل البدني. ويمكن أن تحفز هذه الحركات والإيماءات والأفعال البدنية عندئذ الموقف. إن ما يشترك فيه ستانسلافسكي (منهج الأفعال الجسدية) ومايرهولد (الآلية الحيوية) وأرتو (النزعة الرياضية العاطفية) – على سبيل المثال وليس الحصر لأنهم أبرز ثلاثة – هو تبني هذا النموذج. 
ورغم ذلك، كان الرقص الحديث في نهاية المطاف (وهو مجال أكثر حرية عموما من الانقباضات النفسية ومن مطالب التمثيل فيما يتعلق بالمسرح) هو الذي طور العمل في مشاعر النزعة الحركية – أو الشعور الذي يحسه الراقص في الحركة – التي يمكن أن يعمل عليها الراقص بشكل واع في مرحلة تالية. 
ومن المثير أنه، على مدار القرن العشرين، يمكن أن يعمل نفس النموذج على ما يبدو أيضا في علاقة الممثل – المتفرج المسرحية. وفي هذه الحالة تنظر الحركية إلى الأحاسيس/ المشاعر التي تستحثها/ تثيرها في المتفرج. (أتحدث عن الحركات، ولكن اتضح أن نفس الظاهرة تحدث مع الصوت من الإلقاء إلى الأغنية).
وقد كان أول من نظّر لآلية الحث/ التحفيز في حدود علمي سيرجي إيزنشتاين في تصريحه عام 1923 الذي حمل عنوان «الحركة التعبيرية Expressive Movement”. ورغم ذلك، كانت هذه الفكرة حاضرة في نفس الوقت في عمل مايرهولد حول «الآلية الحركية»، ومن الممكن أنها أسست موضوع نظريات أرتو المثيرة في الثلاثينيات. 
وعند هذه النقطة ينشأ السؤال التالي: كيف نشرح هذه الآلية؟ بمعنى آخر، أين تكمن قوة الإيماءة في حث/ تحفيز الإحساس/ الشعور عند من يحملها، وربما نفس الأحاسيس/ المشاعر لمن ينفذ تلك الإيماءة؟. 
من الواضح، كما أشار أرسطو فعلا، أن كل هذا يرتبط فعلا بالاستعداد الفطري للإنسان تجاه المحاكاة والتطابق. ورغم ذلك، على مدار القرن العشرين، تمثل التقدم الذي حققته مختلف المجالات في المحاكاة والتطابق اللذين لم يعودا يشملان العقل وعلم النفس والعواطف فحسب، بل تعلق الأمر أيضا بالجسم في المقام الأول (أي المخ والجهاز العصبي، وأعضاء الحواس، والعضلات، والجلد). ونسمع على سبيل المثال عن «التعاطف العضلي muscular empathy ، وهو شيء مارسناه جميعا لا أكثر ولا أقل كمتفرجين عاديين. وبهذا المعنى، رغم ذلك، يمكن أن نحتاج أن نذكر كل منظري «التعاطف Einfuhlung”، ومن ضمنهم فيشر، وليبز، وفولكيت، فورينجر. واليوم، يبدو أن مرايا الأعصاب Mirror neurons تؤكد أن الإيماءات البسيطة ليست كافية لتحفيز استجابة لمن ينظر، ولكننا نحتاج حركات قصدية، وامتلاك هدف، وباعث. بمعنى آخر، نحتاج أفعالا، طبقا للمصطلحات التي تبناها أساتذة المسرح المعاصر، بداية من ستانسلافسكي حتى جروتوفسكي. 
 وبهذا المعنى، فإن مفاهيم التشابه وتكرار التنفيذ طورها اليسوعي مارسيل جوسيه في دراساته الأصلية الشاذة حول أنثروبولوجيا الايماءة والكلمة، وهي لا تزال مفيدة وكاشفة. 
.............................................................................
ماركو دو مارينيس يعمل أستاذا للمسرح في جامعة بولونا في إيطاليا. 
هذه المقالة هي الفصل الرابع من كتاب «المسرح وعلم الأعصاب الإدراكي» (من ص 62-74.).. تحرير ساليتا فليتي - جابريل سوفيا – فيكتور ياكونو  - صادر عن دار نشر Methuen 2016. 


ترجمة أحمد عبد الفتاح