تجليات الواقع في مسرحية «جونو»

تجليات الواقع    في مسرحية «جونو»

العدد 848 صدر بتاريخ 27نوفمبر2023

يدخل الكاتب المسرحي الإماراتي محسن سليمان في عمق الواقعية بقوة بمسرحيته «جونو» التي صدرت عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، جسّد من خلالها واقعًا صنعته قوى الطبيعة فدفع بشخصياته لتدخل صراعًا محمومًا معها، كاشفا التحولات النفسية لها، استطاع أن يقدم لنا مسرحية متكاملة البنى الفنية أدخل فيها كل التكنيكات التي ساهمت في خلق الجو الدرامي، وتمكن من صناعة بطل من الواقع الإماراتي يمكنه أن يقف في مواجهة القوى العاتية التي خلقت إعصارًا اسمه جونو الذي تسبب في دمار هائل لسواحل عمان والإمارات عام 2007. خلق محسن سليمان شخصياته من المجتمع الإماراتي التي تعيش على الساحل والتي تكون عرضة لاجتياح تلك الأعاصير، يفكك الواقع ويعيد بناءه. جاءت الحبكة لتصنع الحدث الذي يتصاعد تدريجيا، بينما استخدم اللهجة الإماراتية التي كانت بمثابة الثوب المناسب للحبكة والشخصيات وتليق بالواقعية وتدفع بها نحو الذروة.
تمثل الأشكال الأدبية هاجسًا للكاتب إذ يظل في بحث دائم عن شكل مناسب لفكرة تطرأ على ذهنه، قد تلبس الفكرة الشكل المناسب بطريقة سريعة وقد تمثل كابوسًا فظيعا له في نومه وفي استيقاظه، ولا يهدأ له بال حتى يقذفها في رحم أدبي ملائم. جاءت فكرة «جونو» لمحسن سليمان وظنها مناسبة لكتابة قصة قصيرة لكنه اكتشف أن ذلك الشكل غير ملائم لها، وظلت تؤرقه حتى جاءت في ثوب مسرحية؛ لنكتشف أن المسرح هو الوعاء المناسب للفكرة نظرا للحدث والحركة والتأثيرات واللغة والحوار الذي ما كان ليكون ممكنًا في قصة قصيرة.   
جاء «إبسن» ليضيء شعلة الواقعية الإبسنية في الموضوع والأسلوب والتكنيك، فهجر الموضوعات القديمة التي كانت تناسب العصر الفيكتوري بقيمتها الزائفة ونهاياتها السعيدة، فجعل مسرحياته مرآة للعصر والمجتمع، تمتزج بالمشكلات الاجتماعية وصنع منها مرآة لمأساة الإنسان الروحية وصراعه مع القوى الطبيعية والاجتماعية وأشباح الماضي والعادات والتقاليد السائدة. إن الدراما الحديثة ارتبطت بـ»هنريك إبسن»، فأصبحت الإبسنية علامة الثورة الدرامية في المادة والتكنيك، بمعنى أنها تناولت بالتحديد كلاً من الموضوع والأسلوب والتكنيك، لكن يجب أن نسلم بأن شهرة «إبسن» قد ارتبطت بإدخاله الواقعية في المسرح.   
كذلك أفاد محسن سليمان من الواقعية وتجلت في مسرحية «جونو» ووضع شخصياته في صراع مع الطبيعة وأهوالها. يفتتح مسرحيته بتحديد عنصري الزمان والمكان؛ أثناء اجتياح إعصار جونو والمكان في منزل هادئ بمنطقة إماراتية ساحلية في إمارة «الفجيرة» أو «خور فكان» أو «كلباء»، ثم حدد المكان بغرفة نوم آمنة لتصوير الجو الهادئ الذي تعيش فيه تلك الأسرة. لكن حينما يفتح الستار نسمع صوت الرياح وتلاطم الأمواج للتمهيد للجو العام. نرى آمنة وهي تستيقظ من النوم إثر كابوس اقتحم نومها فتنادي على عبيد وتحاول الاتصال به لكن هاتفه مغلق.
تؤكد الأخبار في مسرحية «جونو» من خلال المذياع على شراسة الإعصار الذي ما زال يضرب المناطق الساحلية في عمان ويتجه نحو الإمارات، وبعد أن يتم الإظلام بانتهاء المشهد القصير يقوم سليمان بعمل استرجاع من خلال السلويت يبدو فيه عبيد وآمنة وهما يمضيان فترة شهر العسل في إندونيسيا باستمتاع، لكن أثناء الرحلة يعثر عبيد على محارة من مخلفات تسونامي الذي يرمز بشراسته إلى إعصار جونو، أو أن تلك المحارة تعتبر الهدوء الذي يسبق العاصفة. تستمر آمنة في النداء على عبيد وصوتها يتردد ثم ينتقل السلويت الذي ينقل الحدث من إندونيسيا إلى الإمارات فيتنامى الحدث بمركب تتلاطم في الأمواج وتصارع الرياح.
في بداية نشوء الحدث الدرامي يأتي عبد الله شقيق آمنة الذي يبدو أنه كان يبحث عنه، ليأخذها وتستشعر في كلامه بالخطر.
آمنة: شقايل تاخدني وعبيد..؟
عبد الله: (يقاطعها) عبيد ياي في الطريج.. اطمني روحج.
إن المسرح الواقعي مستمد من الواقع بعيد عن الخيال والتاريخ، وإن وجد في النص المسرحي الواقعي خيالًا أو أحداثًا تاريخية فهذا ضمن الإطار الخارجي للمسرحية، بمعنى أنه يصب في خدمة موضوع المسرحية التي تعبر عن واقع مؤلفها ومجتمعه. احتك الكاتب المسرحي محسن سليمان بالواقع الذي يعيش فيه وفهم آلياته فخلق من طينته مسرحًا يشبهه. مسرحا ذا بناء درامي لا ينسخ الواقع بل يفككه ويعيد بناءه بشكل فني متماسك.
البناء الدرامي في مسرحية «جونو» يعتمد على المشاهد القصيرة نسبيًا والتي كان يعول عليها نمو الحدث الدرامي من خلال الحبكة الرئيسية ولكن كانت تقطعها المشاهد المتخيلة والتي شيدها سليمان من خلال السلويت حتى لا يقطع تطور الحدث، جاء السلويت بشكل فني معبر يؤدي دوره بأن يساهم في البناء الدرامي وفي نفس الوقت يضفي عليه الشكل الجمالي، كما يساهم في بناء الشخصيات والتخفيف من حدة التوتر الناجم عن شدة الخط الرئيسي للأحداث، كما برع سليمان في وضع بورتريهات راقصة وأغنيات لإكساب الحدث الواقعي قوة والمزيد من رسم الجو الدرامي.
في مسرحية «جونو» نجد أن الحدث بسيط «إعصار تسبب في اختفاء البطل» هو الذي تتجمع من خلاله خيوط درامية تؤدي إلى لحظة محددة من قبل ولم تحد عنه بل أنها كثفت من دراميته وجعلته يتوهج تماما. نكتشف أثناء نمو الحدث المسرحي أن آمنة كانت آخر من تم إخلاؤهم من منازلهم بسبب إعصار جونو الذي يضرب دون هوادة فيحاول عبد الله أن يأخذها وفي نفس الوقت يقوم بطمأنتها على عبيد الذي لا يزال مفقودا. 
عبد الله: (في هدوء) كلنا ندور عليه.. هدي نفسج (يمد يده لها) يلا نروح.   
لكن آمنة تظل تنادي عليه وهي في طريقها للخروج ويتردد صدى صوتها للتأكيد على حبها الذي لم يفارق قلبها. وفي المشهد التالي يؤكد محسن سليمان على وجود أغنية تحتوي كلماتها على مضمون غياب عبيد واشتياق آمنة له نظرا لغيابه الذي طال ويحدد زمنها بدقيقتين ودخلت الحكاية في التراث الغنائي، كما يؤكد على وجود استعراض فنون شعبية خاص بالبحر تؤديه فرقة ترتدي ملابس البحار لإضفاء الواقعية على الجو الدرامي ويحدد زمنه بخمس دقائق.
حينما ينتهي الاستعراض يتحول الراقصون في الاستعراض إلى بحارة يقومون بإنقاذ الأهالي المنكوبين إثر اجتياح الإعصار وتمتزج الموسيقى بصرخات والنداء والاستغاثة لتكوين الجو الملحمي الذي يصور الواقع الفادح.
صوت 1: الحقونا.
صوت 3: (يبكي) بيتنا غرق بالكامل.
إن الواقعية لا تبشر بشيء ولا تدعو إلى سلوك خاص في الحياة وإنما كل همهما هو فهم واقع الحياة وتفسيره على النحو الذي تراه. جاءت الشخصيات في مسرحية «جونو» متسقة تماما مع الحدث وتساهم في البناء الدرامي إذ أنها دينامية وجاءت من نسيج المجتمع وعبرت عنه بشكل حقيقي. استطاع محسن سليمان أن يمنح شخصياته القدرة على الفعل الدرامي دون خطابية أو افتعال غير مبرر، كما منحها العمق من خلال اللهجة المحلية التي تنطق بها.
آمنة: متى راح عمان كان وياي الصبح وقالي ديري بالج على اللى في بطنج.
بحار 3: لا لا كان في الفجيرة من بداية الإعصار.
بحار 4: غرق هناك.
بحار 5: شفته في كلباء.
بحار 6: شفته على شارع الإمارات رايح بو ظبي. 
جاءت اللغة في مسرحية «جونو» في ثوب العامية الإماراتية تناسب المكان والحدث وتكرس للواقعية، وتحمل في طياتها دلالات متعددة كما أنها تناسب كل شخصية من الشخصيات، وكان لها العامل الأهم في نمو الحدث المسرحي. بالإضافة إلى ذلك تمثل اللغة الضلع الأساسي في تطور الحدث الدرامي إذ أنها حققت هدفها في رسم الشخصيات وحشدتها لإضفاء حالة من الواقعية على الحدث المسرحي. تلك اللغة التي على الرغم من بساطتها تمثل السهل الممتنع لأنها جاءت بصورة تناسب كل لسان ينطق بها دون زيادة أو نقصان وكأنها وُضعت بقطارة. صاغ محسن سليمان الحوار بطريقة تجعله ينسجم مع الموقف وتكثيف العبارة. 
تصل الأحداث في مسرحية «جونو» إلى الذروة إذ تتداخل الأصوات فيما بينها فيؤكد كل منها أنه رآه؛ فمنهم من يقول إنه غرق وآخر يقول إنه نجا هو وامرأته بعد أن غرق بيته، وآخر يقول إنه مات، وغيره يقول إنه لم يمت. تصاب آمنة بالذهول إثر كل ما قيل عن زوجها والذين رأوه في نفس الوقت في عدة أماكن فتقول:
آمنة: خذوك مني وغرقوك.. خلوك بطل ومن بعدها موتوك. أنا ما أبغيك بطل أنا أبغيك تكون وياي.
 يبتكر سليمان مشهدًا خياليًا باستخدام السلويت يتجسد فيه عبد الله وآمنة وهما يتحدثان ويطمئنها على نفسه، ويطلب منها أن تنتبه لجنينها لكنها تأتيه بجاكيت ليدفئه في فصل الصيف كنوع من الحماية التي توفرها له. في المشهد التالي نجد مركبا في طريقها للإبحار ويقف شقيقها وحمدان ابن عم عبد الله ويؤكدون له أن اسمه قد سجل في سجل المفقودين فتفجر قضية اجتماعية بين عبد الله وابن عمه.
آمنة: حمدان يفاول على عبيد بالموت عشان الورث عشان سالفة الأرض اللي بتخلص.
حمدان: انتي شو تقولين يا آمنة عبيد ولد عمي.
نحن أمام بطل إماراتي جاء من نسيج المجتمع يصارع في مجتمع ساحلي يواجه إعصارًا لا يلين، ويحاول أن يصارع هذه القوى التي تسبب شقاءه وشقاء الآخرين، وإذا مات البطل فإن موته يعني خلاصًا له، حتى لا يعيش وهو لم يحقق رغبته، بينما ساهم اختفاؤه في نمو الحدث بشكل بسيط. هذه البطولة بالقياس إلى القدماء هي تأكيد لقدرته وفرديته.
 تقوم الفرقة الاستعراضية بأداء لوحة لمدة خمس دقائق، بعدها تسلط الإضاءة على آمنة بعد يوم من الإعصار، والمذياع يؤكد على الدمار الذي خلفه الإعصار في عمان. يدخل عبد الله بعد أن استبد به اليأس من العثور على عبيد، ويبدو في ثنايا كلام عبد الله موت عبيد، وحينما يدخل البحارة تسألهم آمنة عنه وكل واحد يجيب بمكان يختلف عن الآخر. تتجلى بطولته أيضا بتواجده في كل الأماكن.
رجل: لا في دبي.
رجل: لا في الشارجه.
رجل: في الفجيرة.
وحينما يدق الباب تهرع آمنة ويتحول صوتها إلى صدى ويتردد صوت ينادي باسم آمنة وعبيد وكأن الحكاية تتحول إلى أسطورة إذ لم يظهر عبيد عند إسدال الستار، لتظل حكاية عبيد البطل الذي تناقلت سيرته كل الألسنة وحددت مكانه في كل مكان. خرج عبيد من صميم الواقع في ظل إعصار جونو الذي لا يرحم ليتحول بعدها إلى بطل أسطوري تتناقل سيرته لكنه يترك زوجته تعاني مرارة الفقد في ظل واقع معاش لا يمكن أن يتغير إذ أنه ملتصق بمكان جغرافي يمكن أن يجود ببطل إماراتي آخر ربما يكتب عنه الكاتب المسرحي محسن سليمان مسرحية أخرى.   


ترجمة عبد السلام إبراهيم