الوردة والتاج تأرجح بين شرقي وغربي يفسد للود قضية

الوردة والتاج  تأرجح بين شرقي وغربي يفسد للود قضية

العدد 846 صدر بتاريخ 13نوفمبر2023

هي الجملة الملخصة والموضِحة لسبب تسمية الكاتب البريطاني ج. ب. بريستلي (1895-1985) للبار الذي في نصفه المسرحي بـ»الوردة والتاج»، بهذا الاسم، ليأخذ المخرج محمد أشرف النص ويقدم عرضه بالاسم نفسه خارجا من نادي مسرح قصر ثقافة الأنفوشي بالإسكندرية إلى المهرجان الختامي لنوادي المسرح في دورته الثلاثين، دورة الكاتب أبو العلا السلاموني، وتقام العروض على خشبة قصر ثقافة روض الفرج.
ما شاهدناه على خشبة المسرح هو إعداد (عبدالسلام السويفي) للنص، وتكون البداية عبارة عن فويس أوفر، وهو صوت شخصية نوح تحكي لنا جزءا من المشهد الأساسي قبل دخول ملاك الموت، حين يقول نوح إن هذا هو يوم ميلاده، ويتمنى أن يعيش مئة عام، فنرى اشتباك العجوز دميان معه متسائلا عن سبب هذه الرغبة في الحياة. ومن الفويس أوفر وهذه الأوفرتيرة المبروزة لأهم مشهد، سوف يتم تكراره بتقنية الفلاش باك، كانت هي أول ما رأيناه في العرض مع وقت كافٍ قبل البدء تحفظ فيه أعيننا المنظر المسرحي؛ حيث ديكور اعتمد على وجود مشرب البار في منتصف الخشبة، وأمامه كرسيان خشبيان، وعلى يسار المشرب موجود شماعة لتعليق معاطف الشخصيات، وجهاز راديو، في حين أن الشخصيات كانت تدخل من اليمين وتعلق معطفها مرتين على شماعة مرسومة على البانر ليست حقيقية، وهي لعبة الوهم والحقيقي الذي ليته أكد عليها في عناصر أخرى، أما على يمين ويسار خشبة المسرح فنجد في كل منهما طاولة صغيرة بكرسيين، أما حوائط البار فكانت عبارة عن بانرات بيضاء ومرسوم عليها بالأسود القاتم رسومات تعبيرية، لكي يتماشى اللونان الأبيض والأسود مع الحالة القاتمة والكئيبة التي تسود البار بسبب أفراده الشكائين من قسوة الحياة وتمنيهم الموت. على إحدى البانرات موجودة كلمة «مطلوب» مقلوبة كما لو كانت معكوسة، وبجانب الكلمة وجه شبحي الملامح، وعلى بانر آخر في الصدارة عبارة «اختلاف الرأي يحسمه قتال نزيه». ذاك الديكور الذي صممته هبة الله جمال ونفذه باسم رزق، كان ينم عن ذكاء وموهبة، فهو ديكور يأخذ العين لدرجة أن يعجبك كؤوس النبيذ البلاستيكية السوداء التي تشرب فيها الشخصيات، فهي مكملة لسيميترية الأبيض والأسود التي بدأت كتعبير عن الحياة والموت.

فانتازيا فلسفية
دراما النص الذي كتبه بريستلي عام (1946) كانت خاصة بمشاعر الناس فيما بعد الحرب العالمية الثانية، تحديدا بلدة (بريطانيا)، وقدم هذا من خلال وجود ست شخصيات مختلفة أعمارهم معا في بار يُدعى «الوردة والتاج»، واصفا المكان بالاهتراء والفقر والبؤس، وصاحب البار شخصية يمكن جعلها شبحية -وفق رؤية المخرج- فهو جعل الشخصيات تتحدث معه وتنظر له كما لو كان موجودا، وتتوافد الشخصيات على البار شخصية تلو الأخرى، وهم: (مستر ستون، مسز ريد، برسي راندل، إيفي راندل، مي بيك، هارلي تيولي، الغريب/ ملاك الموت)، ويتحدثون معا عن حياتهم البائسة ومعاناتهم في الحياة، لدرجة أنها لا تستحق العيش والموت أرحم.
ذلك البناء الأعم للنص احتفظ به محمد أشرف المخرج، مغيرا أسماء الشخصيات حيث العجوز (مستر ستون) أصبح دميان العجوز، والثنائي (برسي وإيفي راندل)  إلى (داود وحوا)، و(مسز ريد) أصبحت (ساندرا)، ولكن اسمها الـ(ريد) أوred  أصبح جليّا عبر ملابسها الحمراء مثل نوع من السخرية والفكاهة، أما الشاب المقبل على الحياة وهو من سيتم التضحية به، تحول اسمه من (هارلي) إلى (نوح)، تغيير الأسماء يُسهّل على المتلقي الاندماج معها والتقرب منها، على عكس الأسماء الإنجليزية التي تشعرك بغربة، وهو تغيير يتسق مع استخدام اللغة العامية بدلا من الفصحى في حين أن ملاك الموت يتحدث بالفصحى أحيانا كما لو كانت العامية لا تعبر عن الموت كفاية. وعلى صعيد آخر، ملابس الشخصيات التي صممها (رامي عادل) كانت تشعرك بأن هذه الشخصيات ليست فقط أجنبية، بل أيضا آتية من زمن آخر وهو زمن ماضٍ سحيق، بل ملابس فانتازية على شاكلة فكرة النص/ العرض. أضف للملابس واللغة المستخدمة للحوار بين الشخصيات، عنصر الموسيقى التي كانت تصدر عن جهاز الراديو، أحيانا كانت أغاني شرقية بامتياز لدرجة سماع صوت أغاني الشيخ إمام، وبعدها في المشهد نفسه نجد الموسيقى غربية، كلها عناصر لم تفيدنا بشيء سوى إيصال حالة تذبذب وتردد عاشها المخرج، يتأرجح بين الشمال والجنوب وشرقا وغربا، إلى أن وصل لفكرة إمسكاك العصا من منتصفها، ألم يكن من الأفضل لعرضه أن يتحدث عن هوية محددة، ويأخذ التجربة للنهاية دون تأرجح وتردد؛ مما كان سيتيح له التغلغل في تفاصيل أخرى تعطي عمقا للحبكة والشخصيات.
هذه التفاصيل التي أتحدث عنها تتمثل في تحديد زمن ومكان الحدث، أو حتى إن لم يحدد، فعلى الأقل يعطينا معلومات كافية عن الحرب التي أحدثت خللا، وأفسدت نفسية داود للدرجة التي تجعله غير سعيد في حياته الزوجية رغم عشق زوجته الواضح له ورغم غيرته الواضحة عليها. أو كمثال آخر رغبنا بأن نعرف من هم أقارب العجوز (مي بيك) الذين دفنوا جميعا، فتشعر بالوحدة لدرجة أن تقول يا ليتني دُفنت معهم، أو حتى تفاصيل عن حياة (ساندرا) التي تشعر بالوحدة هي الأخرى، بل وبألم المعدة أيضا، تفاصيل كانت ستجعلنا نتعاطف مع الشخصيات حتى وإن كانت أسماؤهم أجنبية؛ لأن هنا الموقف والشعور الإنساني هو ما يتحدث وليس اللغة.

ثنائية الحياة والموت
إذا كان الغرض فلسفيا، ألم يكن الأولى التحرر من الهوية والعرق؟ أعتقد أن محمد أشرف في دمجه لعناصر تجمع بين شرقي وغربي -كما ذكرت في الفقرة السابقة- كان يعتقد أن هذا هو التحرر من حدود الحديث عن هوية وشعب بعينه، عند الحديث عن المواجهة مع الموت، ولكن مع الأسف بدلا من التحرر أصبحنا نتأرجح.
أحيانا كثيرة تكون المسميات لها دلائل، وقبل قراءة النص، وقبل نهاية العرض بالجملة التي بدأت بها المقال، كنت أفكر في دلائل (الوردة والتاج)؛ لذا إذا تم ترك النهاية دون التفسير لكان ألطف للآفاق المشاهدة بدلا من الاستسهال، وكنا سنصل للمعنى نفسه، فملاك الموت واضح، ولا غبار على أن هذا الدخيل على الست شخصيات ببدلته السوداء ونبرة صوته المتسلطة عليهم، هو ملاك موت، ثم إنه شرح لهم أنه أتى في مهمة محددة، وهي أن يأخذ واحدا منهم، ولكنه قرر أن يعطيهم حرية اختيار التضحية بمن، وهنا تظهر غريزة البقاء وكل منهم يحاول دفع الآخر، ويشاهدهم نوح في صمت مندهشا من رد فعلهم، فالعجوز التي تعاني من الوحدة وكررت أكثر من مرة (يا ليتني دُفنت معهم)، قررت التمسك بالحياة متحججة بأن هناك دَينا عليها يجب سداده، والزوجان على الرغم من شقائهما ومعاناة الزوج من اكتئاب واضطراب ما بعد الحرب، فإنهما رفضا الموت، وكذلك ساندرا ودميان، إثر الرفض والجدال يشتبكان، فيضطر ملاك الموت إعادة الزمن للوراء (عبر تقنية فلاش باك) لنرى المشهد الذي بدأ العرض به كأوفرتيرة، والذي هو المشهد نفسه قبيل دخول ملاك الموت، يتكرر للمرة الثالثة، كما لو أن سماعهم لعباراتهم سيغير من النتيجة الحتمية شيئا، فالقربان كان واضحا منذ البداية أنه هو نوح ذاك الشاب المفعم بالحياة ويرغب في عيش مئة عام، فهو الوحيد حين أعطاه ملاك الموت (الوردة/ الحياة) تأقلم معها وقلبها في يديه مثل لعبة، في حين أن البقية جميعا وخزتهم شوكة (الوردة) تعبيرا عن عدم تأقلمهم مع مآسي ومطبات الحياة.
وربما الإطالة في فكرة الفلاش باك أكثر من مرة، كان من الممكن أن نستفيد بها في شيء آخر، فمثلا المشهد الذي تم فيه سرد تعريف وحكي قصة عبارة (الحب أعمى) كان مميزا؛ لأنها قصة غير متداولة ولم تُسمع كثيرا.


سارة أشرف