«الوحوش الزجاجية» وديستوبيا المهمشين

«الوحوش الزجاجية» وديستوبيا المهمشين

العدد 839 صدر بتاريخ 25سبتمبر2023

عرضت مسرحية تنيسي ويليامز (تماثيل الوحوش الزجاجية) لأول مرة عام 1944 لتعبر عبر فكر فلسفي عميق عن تلك الديستوبيا التي يعاني منها الكثيرون في عالم متقلب ومتنمر وقاس، ليكشف بذلك من خلالها زيف هذا العالم ومدى هشاشة أفراده وانعزالهم داخل بوتقة الخوف الملازم لهم بعد أن عانوا من إحباطات متوالية صرعت أحلامهم ودفعتهم من ناحية أخرى لرفض الواقع الضاغط والهروب من أسره .
في إطار فعاليات مهرجان القومي للمسرح المصري في الدورة السادسة عشرة قدم عرض مسرحية (الوحوش الزجاجية) على المسرح الكبير بمسرح الطليعة، لتتحول أجواء المسرح إلى أجواء هشة رقيقة تعاني أرق الحرمان والشعور بالنقص والخذلان إزاء عالم قاس وأناس مهمشين، إذ يدخل توم من منطقة الجمهور ليعتلي عبر بؤرة ضوئية خشبة المسرح كراو يروي حكايته عن أمه أماندا وأخته لورا حيث تركهم أبيه وهم أطفال لتواجه أماندا وأولادها الحياة وحدهم، وفي إطار تجسيدي درامي مرح يقدم لنا العرض حالات ومشاعر ومواقف الشخصيات أماندا الأم التي أدت دورها الفنانة ( أمينة باهي ) ولورا الابنة التي أدت دورها الفنانة آية التركي، والابن توم الذي يؤدي دوره الفنان محمد عصمت، وجيم صديق توم الذي يؤدي دوره الفنان أحمد مشالي، حيث تعبر الأم عن رغبتها الشديدة في خروج لورا من عزلتها خاصة بعد أن تعلم عن طريق الصدفة أن لورا قد هجرت معهدها ودراستها مما يعزز لديها أهمية أن تتزوج لورا الفتاة التي تعاني الوحدة والشعور بالنقص بسبب عيب خلقي في قدمها يجعلها تعرج في الوقت الذي تتهم توم أخاها بإهماله لعمله الذي يتيح لهم 65 دولارا في الشهر تساعدهم على المعيشة وذهابه للسينما كل يوم بعد العمل وعدم اهتمامه بما يجري للورا، أما أماندا نفسها فهي بدورها تسعى لأن يكون لها شأن في المجتمع فتكتب المقالات وتتعلم على الآلة الكاتب محاولة منها في تحقيق ذاتها لإيمانها أنه على المرأة أن تسعى جاهدة للعمل والزواج حتى لا تصبح عانسا غير قادرة على مساعدة نفسها أمام قسوة الحياة، ولهذا فهي دائما ما تلح على لورا أن تجتهد في ذلك .
أما لورا فهي تنصرف إلى وحوشها الزجاجية والتي تبدو من على يمين المسرح وتمرح معهم وترقص وتغني وتعبر عن نفسها من خلالهم وتتجسد على المسرح هذه الحيوانات لتتحول لورا ذات العيب الخلقي وهي ترقص معهم إلى فتاة طبيعية دون أي نقص في إشارة لتماهيها معهم فهي مكسورة القلب تشعر بهشاشة وجودها وفي نفس الوقت تعيش أحلامها ورغباتها معهم فهم عالمها المحبب والوحيد، إن لورا هي محور المسرحية والتي يعبر انكسارها عن تلك الكسور المتشظية داخل شخصيات أماندا وتوم أيضا، فأماندا تبحث عن الاستقرار والأمان لحياتها وأولادها في حين لا يتحقق ذلك في ظل تلك الضغوط التي يواجهها توم وتواجهها لورا، فتوم يعاني قسوة الحياة وقسوة أمه التي تنتقد سلوكه رغم أنه يمارس حياته بما يسمح له بالاستمرار وتفريغ تلك الطاقة السلبية التي يشعر بها من جراء إحباطه في حياته فلم يكن يتمنى أبدا أن يعمل في مستودع بل كان طموحه أكبر من هذا لكنه اضطر لذلك حتى يستطيع مساعدة والدته وأخته .
و تحاول أماندا مساعدة ابنتها فتحث توم في حوار قوي ومحرض على إيجاد عريس مناسب للورا أخته التي تصارح أمها أنها ما أحبت غير شخص واحد في حياتها في المدرسة الثانوية كان يناديها بالوردة الزرقاء والذي انصرف عنها لغيرها حيث كانت كل الفتيات حوله لتميزه، وبالفعل يخضع توم لرغبة أمه ويخبرها بأنه سوف يدعو جيم صديقه في المستودع للعشاء ولن يخبره بأمر الخطبة، لكنها ستكون فرصة لتعارف جيم ولورا وتوافق الأم التي تقوم بعمل كل التدابير من أجل استقباله، وعلى حين تحاول أماندا أن تحث لورا على الاهتمام بحضور جيم تشعر لورا بالخجل الشديد منه على الرغم من إشارة توم بأن لورا قد رأت جيم من قبل وأعجبت بغنائه .
وبحضور جيم تشعر لورا بالخجل الشديد وتحث الأم ابنتها على الحديث معه والاختلاء به رغبة في تعارفهما وتقاربهما، وينطفيء النور فجأة ونعلم أن توم لم يدفع الفاتورة وهي الإشارة التي كان قد أسر بها لصديقه توم رغبة منه في توفير المال كي يهرب من المنزل وينطلق بعيدا عن عزلته محاولا الحصول على حياة أفضل، وتحاول الأم أن تخفي تأثير انقطاع النور مفسرة ذلك أن توم قد نسى دفع الفاتورة، وعندما تدفع أماندا لورا للجلوس مع جيم وحدهما يقترب جيم من عالم لورا وتتذكره لورا وتسأله إن كان مازال على علاقة بفتاته فيخبرها أنه تركها منذ زمن بعيد ويخبرها عن أحلامه وما يتمنى ويحاول أيضا أن يحررها من قيد الشعور بالنقص والذي عانى منه هو نفسه كثيرا، ويحثها على الرقص معه ولكنها تفشل في ذلك وتعرفه على وحوشها الزجاجية وعن وحيد القرن الزجاجي والأحصنة الزجاجية لكنه يكسر وحيد القرن دون قصد فتصدم لورا لكنها تخفي تأثرها من أجل جيم وفي نهاية الحوار يخبرها جيم أنه يحبها كثيرا لكنه مرتبط بخطيبة، هنا تشعر لورا بأن قلبها قد كسر بالفعل وتقدم على كسر كل وحوشها الزجاجية بعد أن انكسر قلبها ولم يعد له فرصة للسعادة محاولة منها لتحطيم كل ما يذكرها بعالمها وأحلامها الواهية، في الوقت الذي تتشاجر الأم مع توم لأنه تسبب في تحطيم قلب لورا أخته لكنه يؤكد لها أنه لم يكن يعرف بأمر خطبة توم  ويقرر أن يحمل قبعته وشنطته اللتين كانتا إلى جانب خشبة المسرح طوال المسرحية ويرحل عن المنزل الزجاجي الهش ربما محاولة منه للخروج من أسره وطغيانه .
إن أماندا سيدة تحاول منذ البداية أن تحافظ على منزلها وأن تثبت للجميع أنها قادرة على ذلك فهي تحث الابن على العمل واكتساب المال من أجل المنزل وتحث الابنة على النجاح والخروج من عزلتها من أجل أن تصبح قوية إزاء المجتمع وتظهر للجميع تلك القوة من خلال مقالاتها المحفزة للمرأة على الصمود والحصول على حقوقها في حين أنها لا تشعر بحجم الكارثة التي يعيشها أبناها وانعزالهم عن أحلامهم وتطلعاتهم، انهما غير قادرين على تحقيق تطلعاتهما ويعيشان داخل بيوت زجاجية هشة غلفت حياتهم جميعا حتى حياة الأم التي تعيش داخل بوتقة زجاجية معلنة صلابتها الزائفة إضافة للورا وتوم نفسه الذي يهرب من بيته الزجاجي ليعيش حياة الخيال والوهم من خلال السينما رغبة في الولوج إلى عوالم أخرى حتى ولو كانت غير واقعية .
جاء الديكور الذي صور خلفية لشبابيك زجاجية معبرا عن فكرة العرض وجوهر الشخصيات المعزولة، كما استغلت باقي مفردات العرض بشكل واقعي ومؤثر سواء المائدة أو الكراسي أو الوحوش الزجاجية أو الأريكة، كما كانت الإضاءة أيضا قادرة على التعبير عن عزلة الشخصيات من جهة وأحلامهم من جهة أخرى عن طريق استخدام البؤر الضوئية ، أما الموسيقى والغناء فقد عبرا عن حالة التأزم والبراءة والأحلام التي تسكن الشخصيات فتكاملت مع باقي عناصر العرض في براعة وتلاحم متناغم استطاع به المخرج أشرف علي أن يقدم عرضا متكاملا ويعبر عن فكرة المسرحية التي كتبها تنيسي ويليامز، بلغة فصحى كاشفة وبسيطة وفي إطار درامي غير مغال سواء على مستوى التمثيل أو الديكور أو الإضاءة أو الموسيقى والغناء وبصورة جمالية وشفافة وبعمق فكري وفني .


أحمد عصام الدين