تجارب في المسرح الطليعي.. بين تطوير الشكل والأداء

تجارب في المسرح الطليعي..   بين تطوير الشكل والأداء

العدد 835 صدر بتاريخ 28أغسطس2023

التيار الرئيسي في المسرح الطليعي لا يمكن تحديده بمجرد وجود سمات أسلوبية مشتركة، وإن كانت هذه السمات شديدة الوضوح، إنما يعد المسرح الطليعي في أساسه توجها فلسفيا،، فأعضاء هذا المسرح يربطهم توجه معين إزاء المجتمع، كما يربطهم توجه جمالي خاص، ورغبة في إعادة صياغة طبيعة العرض المسرحي.
من هذا المنطلق جاءت تجربة «مسرح الشمس» التي تأسست عام 1964 على يد «أريان منوشكين»، وأصبح مسرحهم «من أشهر المسارح في أوروبا، وقد سعى باستمرار وتصميم إلى أن يدخل تعديلات ممتازة في شكل الأداء المسرحي ونظرية المسرح باعتبار أن المسرح لونا من ألوان الممارسة الاجتماعية».
واستمر تطوير الخشبة التقليدية وتحديثها بالتوازي مع تطوير الأشكال الجديدة للفضاء المسرحي. كل ذلك في محاولة لخلق حالة من الاندماج ما بين الممثلين والجمهور ومن هنا ظهرت فكرة «المسرح البيئي»، والذي يعمل عن طريق خلق الشعور بمعايشة المكان، وقد أثارت هذه الفكرة بعض القضايا عن المعايشة مع ساحة العرض. فقد ولدت أعمال المخرج البولندي جروتسكي شعورا بالبيئة المعاشة من خلال استخدام حالة من المشاهدة. وقد ظهر ذلك من خلال تجربة جروتسكي د.فاوست عام 1963 عندما جلس المتفرجون بجانب الممثلين على مائدة حيث تعرض الأحداث.
وكان هدف جروتسكي من هذا خلق إحساس بالترابط بين الممثل «المقدس» وبين المتفرج.
وفي السنوات الأخيرة قدمت الفرقة البريطانية «أوبرا مبنى المحطة» عروضا في أماكن مختلفة، وبالنسبة لهذه الفرقة «فإن استخدام المعمار يشكل عنصرا أساسيا في عملها. ومن خلال سلسلة من العروض المستخدمة للطوب الحراري، أثارت الفرقة موضوعات معينة تختص بالعلاقات بين الأبنية والأشياء والحكايات ونظم العرض والطرق التي تم العثور عليها وبين تلك التي تم إنشاؤها.
المسرح هو ابن الفراغ، ابن الفضاءات المتعددة القائمة على التجريب وخلق مساحات لا متناهية من الرؤية واستكشاف المناطق المجهولة داخل الذات وربطها بمحيطها العام، ولذلك كان من الأطر الأولى لعملية التمرد المسرحي أن يقام في الفراغ فوجدنا – على سبيل المثال – كثيرا من الفرق المسرحية في أوروبا بدأت بتقديم عروضها في الشوارع والميادين العامة والحدائق، كما حدث في «باريس» حيث قدم كثير من المسرحيين التجريبيين عروضهم في محطات المترو الأنفاق وفي ساحات الجامعات وفي المصانع والشركات.
وكان الهدف من وراء كل ذلك هو أن يصل المسرح إلى الجمهور في مكانه، وبالتالي استلزم التجديد في التقنية المسرحية، من حيث الإخراج والديكور والأداء التمثيلي، بحيث يكون للجمهور حق المشاركة، وتحويل بنية العرض والتغيير فيه، لذا تجيء معظم هذه العروض مؤلفة في إطار جماعي، بمعنى أن النص المقدم يجيء كنتيجة لورشة مسرحية سابقة، كذلك النص المقدم يأتي في معظم الأحيان قائما على طابع حكائي.
في الثلث الأول من القرن العشرين بدأت في ألمانيا ثورة شاملة ضد فكرة المسرح التقليدي، فتم تنفيذ عدد كبير من مشروعات المسرح غير التقليدي، وتم ذلك «من خلال البحث عن جوهر المسرح الفني، لا في الابتكارات التقنية، ولا في هذه الخدع أو تلك، ولا في هذه المعدات أو غيرها، وإنما في حل هذه المشكلة تحديدا، المتعلقة بالبنية الداخلية الخالصة التي يمكن أن تسمح للفنون الجميلة أن تضع أفضل الأطر للعمل المسرحي للفنان، أو توفير أفضل الظروف لإدراك المشاهد».
وقد أطلق المخرج الألماني «فوكس» على المسرح التقليدي اسم «صندوق التصوير المسرحي»‘ معتبرا أنه قد استنفد إمكانياته الفنية‘ ومن ثم لم يعد مفيدا للمسرح الدرامي المعاصر».
ومنذ مسرح الستينيات والمسرح المعاصر يشكل انفتاحا فنيا وجماهيريا تمثل في مخرجين عباقرة أمثال «جرتوفسكي» .. وما أحدثه جرتوفسكي في المسرح أثمر كثيرا بين الأوساط الفنية في العالم.. ولا ينبغي بحال أن نغفل ما قدمه هذا العبقري لفناني عصرنا .. ففي أعمال جرتوفسكي مواجهة حاسمة ضد المسرح البرجوازي أو ما سبق أن أسماه «ميرهولد» بالمسرح الاحتفالي – مسرح غايته المتعة فحسب.
ولا يرجع السبب في اللجوء إلى الفقر المادي في المسرح إلى اتجاهات جمالية معينة، ففي منتصف الستينيات ظهرت رغبة في البحث عن المتفرج الحقيقي أينما كان خاصة أن هذا المتفرج قد عزف عن دخول الأماكن المخصصة تقليديا للعروض المسرحية.
وقد عضد من تلك الرغبة ظهور فرق تناضل من أجل إثبات وجودها ولا تملك سوى روح الكفاح، وعائدة بالمسرح إلى العرض على المنصات في الشارع بما يستلزمه ذلك من وجود نسق رمزي.
والتفكير في مثل هذا النوع من «المسرح المفتوح» جاء كبديل عن روتينية المسرح التقليدي «مسرح العلبة الإيطالي» الذي مل الجمهور منه وأعرض عن حضور عروضه نظرا لإفلاسه عن تقديم الجديد لأنه من المعروف أن المسرح الحقيقي يقوم على الإدهاش والمفارقة، وهذا ما يفتقده المسرح التقليدي ذو المعمار الكلاسيكي.
وفي العالم العربي بدأت منذ ستينيات القرن الماضي حركة مسرحية تنادي بالخروج عن الأطر الشكلية للمسرح والعودة إلى الموروث الشعبي كقناع فني للتعبير عن الواقع, وظهرت مجموعة من الكتابات النقدية التي تدعو لذلك مثلما فعل توفيق الحكيم في كتابه «قالبنا المسرحي» والذي حاول أن يطبق رؤيته في جماليات المسرح الجديد على نصوص عالمية، لكن هذه الطريقة – من وجهة نظري – لم تحقق ما كان يهدف إليه الحكيم نفسه فظلت هذه النصوص على كلاسيكيتها وجمودها، وتوقفها عند لحظتها التاريخية، لأنها لا تصلح للتعبير عن الواقع الذي أعيدت فيه صياغتها.
ثم كانت دعوة يوسف إدريس في مقدمته لمسرحية «الفرافير» تحت عنوان «نحو مسرح مصري» ، وقد حققت رؤيته نجاحا نسبيا خاصة بين النخبة المثقفة بعد مشاهدة «الفرافير» على خشبة المسرح، وإن لم تحقق نجاحا جماهيريا وتواصلا مع المواطن العادي، رغم تميز النص المسرحي المكتوب.
وقد تأثر بهذا الاتجاه عدد كبير من كتاب المسرح التاليين لإدريس من جيل السبعينيات أمثال يسري الجندي ومحمد أبو العلا السلاموني والمخرجين أمثال هناء عبد الفتاح و عبد الرحمن الشافعي، وبعدهم بسنوات قليلة كتاب ومخرجين أمثال  و محسن مصيلحي وحازم شحاتة وصالح سعد. والذين جاءت تجاربهم لتكمل الصورة التجريبية للمسرح العربي، حيث وجدت حركات مشابهة فرأينا مسرح الشوك في سوريا، والمسرح الاحتفالي في المغرب كما في تجربة «الطيب» صديقي، والمختبر في الأردن ومسرح الحكواتي في لبنان بقيادة روجيه عساف.
كل هذه الأشكال المسرحية جاءت كرد فعل إبداعي ضد الجمود الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، بعد تحول المجتمع العربي في السنوات الأربعين الأخيرة إلى مجتمع رأسمالي استهلاكي.
لذا كان من الضروري البحث عن أطر فنية يكون من مهمتها إيجاد نوع من التوازن في الوعي –الذي للأسف – تتعدد المحاولات لتغييبه، لذا تكون مهمة الفعل الثقافي صعبة، لكنها بكل تأكيد ضرورية.


عيد عبد الحليم