تاريخ مسرح نجيب الريحاني وتفاصيله المجهولة(1) عناوين مسرحيات مثيرة ومستفزة!!

تاريخ مسرح نجيب الريحاني وتفاصيله المجهولة(1) عناوين مسرحيات مثيرة ومستفزة!!

العدد 829 صدر بتاريخ 17يوليو2023

علمنا في نهاية الحلقة السابقة أن «إبراهيم رمزي» كان صاحب أول مقالة صحافية نقدية يتم فيها ذكر اسم الريحاني في أول عمل مسرحي له وهو مسرحية «خلي بالك من أميلي» في منتصف مايو 1915، بوصفها أول عرض لفرقة عزيز عيد المسرحية الجديدة المسماة «جوق الكوميدي العربي». والملاحظ أن المقالة كانت نقدية وموضوعية، حيث وجه فيها الكاتب ملاحظات مهمة للعرض وللممثلين. واستمرت الفرقة في عروضها طوال ثلاثة أشهر، ومما عرضته مسرحيات: «ضربة المقرعة، الابن الخارق للطبيعة، مباغتات الطلاق»، وذلك على مسرح الشانزيلزيه بالفجالة، كما جاء في إعلانات صحيفتي الأخبار والأفكار حتى أواخر أغسطس.
منيرة المهدية
انتقلت فرقة عزيز عيد – وبها الريحاني – إلى تياترو برنتانيا في نهاية أغسطس 1915، ومن الواضح أن الفرقة لم تلق النجاح سابقاً، فأرادت أن تضيف عنصراً جاذباً للجمهور، تمثل في الغناء!! وكان الغناء مميزاً لأنه سيكون من مطربة بدأت في التألق، ولكنها لم تقم بالتمثيل من قبل، وهذا يعني أن التحاق هذه المطربة بالفرقة سيكون سبقاً في حالة قيامها بالتمثيل، وهذا ما حدث كون المطربة هي «منيرة المهدية»!! وهذا ما استثمرته جريدة «الأخبار» عندما قالت تحت عنوان «أول ممثلة مصرية»: «تحي في مساء يوم الخميس ليلة الجمعة 26 الجاري في تياترو برنتانيا ليلة يحتفل فيها بدخول المغنية المشهورة الست منيرة المهدية التمثيل العربي، فتنشد قصيدة استقبال من تلحين الموسيقي المبدع كامل الخلعي، تستمر ثلثي ساعة، ثم تمثل لأول مرة دور وليم في الفصل الثالث من رواية «صلاح الدين الأيوبي». ويمثل في هذه الليلة أيضاً جوق الكوميدي العربي رواية من نوع الكوميدي وهي رواية «مدموازيل جوزيت مراتي» الشهيرة الجديدة التي لم تمثل بعد».
والملاحظ على هذا الخبر أن الاهتمام الأكبر كان لمنيرة المهدية بوصفها النجمة وأن الخبر منشور من أجلها!! أما جوق الكوميدي العربي – لعزيز عيد والريحاني – فيأتي في المرتبة الثانية، بوصفه فرقة صغيرة تقدم بعض الكوميديات أو الفصول المضحكة بعد العرض الرئيسي لمنيرة المهدية!! وهذا المعنى يخالف الصورة الذهنية التي رسمها الريحاني لنا في مذكراته بأن فرقة عزيز كانت أساس العرض ومنيرة ملحقة به!! ومما يؤكد كلامي هذا أن الإعلانات التي كانت تُوزع على الجمهور وفي الشوارع كانت كلها دعايات لمنيرة، وفرقة عزيز تأتي في نهاية الإعلانات! وأحد هذه الإعلانات مؤرخاً في أكتوبر 1915، وعنوانه «بهجة التمثيل وتحفة المراسح»، ويقول نصه:
«يوم الجمعة مساء ليلة السبت 22 أكتوبر سنة 1915 الساعة 9 مساء .. تعالوا اسمعوا أبدع إنشاد في أرق تمثيل .. «منيرة المهدية» تمثل دور روميو لأول مرة .. «جوق التمثيل العربي» في تياترو سينما باتيه بجانب التلغراف المصري بشارع بولاق .. منيرة المهدية تنشد مونولوجاً تمثيلياً بافتتاح الحفلة .. رواية «روميو وجوليت» الفصل الخامس .. «موضوع التمثيل»: حضور روميو «الست منيرة» بجانب القبر يندب حبيبته .. حضور المركيز مزاحم روميو في حب جوليت ولقاؤه رومية .. غضب روميو حين لقاؤه بخصمه وتوبيخه إياه .. خصام بين روميو والمركيز ودعوته إياه إلى المبارزة .. مبارزة روميو والمركيز بالسيف مبارزة عنيفة .. قتل المركيز بيد روميو .. بعد أن يقتل روميو المركيز يقف بجانب قبر جوليت وينشد قصيدة (سلام على حسن يد الموت لم تكن) .. رواية «المشعوذ بالفجور» جديدة للمرة الأولى ذات خمسة فصول من نوع الكوميدي تحتوي الوقائع المدهشة والتمثيل الفكاهي. ويمثل الدور المهم الأستاذ عزيز عيد .. أسعار الدخول كالمعتاد».
آخر تعاون بين منيرة المهدية وفرقة عزيز عيد – وبها الريحاني - كان في منتصف نوفمبر، ولكن مع ظهور شريك ثالث هو أحد إخوان عكاشة!! حيث قدمت هذه التشكيلة الثلاثية حفلة مميزة، نشرت جريدة «الأفكار» خبراً عنها عنوانه «أعظم حفلة على مرسح الكورسال»، جاء فيه الآتي: يوم الجمعة 12 نوفمبر سنة 1915 الساعة 4 تماماً بعد الظهر، معرض أشهر ممثلي وممثلات العصر، ثلاث روايات في حفلة واحدة: رواية «صلاح الدين» دور وليم الست منيرة المهدية، رواية «الزوج ذو الوجهين» من الأستاذ عزيز عيد، رواية «الطفلين» من المطرب المبدع الأستاذ عبد الحميد عكاشة لحناً وتمثيلاً. ألعاب الكورسال لم يسبق تقديمها. وهذه الليلة تعتبر من معجزات ومدهشات الكورسال. والدور الثاني بأجمعه مخصص للسيدات المصريات ولهن باب خصوصي .. ولكي لا يحرم أحد من مشاهدة هذه الحفلة جعلنا أسعار الدخول مخفضة».

عبد الله عكاشة
هذه الحفلة كانت آخر تعاون فني بين عزيز عيد ومنيرة المهدية، وكانت – في الوقت نفسه – بداية تعاون مشابه بين عزيز وبين فرقة عبد الله عكاشة – شقيق عبد الحميد عكاشة - بوصفهما فرقتين متعثرتين – في هذا الوقت – وكل فرقة تريد أن تستفيد من الأخرى، ومن هنا كان التعاون المشترك، بحيث أن فرقة عزيز عيد تعرض عروضها تحت اسم فرقة عكاشة تارة، وتارة أخرى كانت تعرض عروضها بعد عروض فرقة عكاشة في اليوم نفسه!! أي تقوم الفرقتان بعرض مسرحيتين في اليوم الواحد، كما حدث من قبل مع منيرة المهدية.
ومثال على إعلانات هذه الحفلات، ما نشرته جريدة «الأفكار» خلال أربعة أشهر من نوفمبر 1915 إلى فبراير 1916، ومنها هذا الإعلان: «يمثل جوق حضرة عبد الله أفندي عكاشة وأخوته في مساء السبت ليلة الأحد بدار التمثيل العربي رواية «خلي بالك من أميلي». وسيقوم بأهم أدوارها حضرة الممثل الشهير عزيز أفندي عيد ويتخلل الفصول الموسيقى الوترية والمونولوجات العصرية فعسى أن يكون الإقبال عظيماً». وبهذا الأسلوب نشرت الجريدة إعلانات مسرحيات: «مدموازيل جوزيت امرأتي، وعبرة الإبكار، والابن الخارق للطبيعة، وحماتان على رجل واحد، وإن كان عندك حاجة تبلغ عنها». ثم تحولت الإعلانات إلى مسرحيات فرقة عكاشة المعروفة، والتي شاركت فيها فرقة عزيز عيد، ومنها: «الكابورال سيمون، والعواطف الشريفة، وتسبا، والطواف حول الأرض، وابنة حارس الصيد».
العروض السابقة تمت أثناء ذروة الحرب العالمية الأولى، مما يعني انشغال الجمهور بالحرب وأخبارها فلم تلق العروض المسرحية اهتماماً كبيراً إلا عندما أعلنت الصحف عن عرض مسرحية لها اسم شاذ غير مألوف، وهو «يا ستي ما تمشيش كده عريانة»!! وهذا الإعلان نشرته جريدة الأفكار في فبراير 1916 قائلة: «ياستي ماتمشيش كده عريانة .. بدار التمثيل العربي .. رواية جديدة من نوع الكوميدي، يمثلها جوق عبد الله أفندي عكاشة في مساء اليوم. أما بطلها فسيكون الأستاذ عزيز أفندي عيد، ومن شاهد كوميديات هذا الجوق السابقة يحكم لأول وهلة بحسن اختيار هذه الروايات .. وربما امتازت رواية اليوم الجديدة على جميع الروايات السابقة، ففي معنى عنوانها الكفاية. وهذه الرواية هي من أبدع روايات جورج فيدو مؤلف «خلي بالك من أميلي» الذي لقبه الشعب الفرنسي بأمير الفودفيل فنحث الجمهور على مشاهدتها».

الشرارة الأولى
أول انتقاد وجدناه لهذا العرض نشرته جريدة «مصر» في فبراير 1916 تحت عنوان «روايات الكوميدي العربي»، وجاء فيه الآتي: «شاهدنا رواية «خلي بالك من أميلي» فسمعنا ما تصم منه الآذان لشدة وقعه عند من تجري في عروقه ذرة من دم الشهامة، وفيه عرق ينبض من الرجولية. ثم شهدنا رواية «يا ستي ما تمشيش كده عريانة» فرأينا وسمعنا نكتاً باردة وغيرها مما يأبى القلم تسطيره مخافة تدنيس هذه الصفحة بما لا يطيق المتأدب سماعه. ولقد احتج الكثيرون ممن حضروا هذه الرواية على تمثيلها احتجاجاً أدبياً فولوا وجوههم عنها وانصرفوا إلى دورهم، آسفين على ما بلغ إليه التمثيل الذي سماه العلماء والأدباء مدرسة الشعب. ومما نذكره هنا إننا حادثنا فاضلاً من أفاضل المصريين في هذا الصدد فقال والدموع تترقرق من عينيه: هذا خطر داهم على الأخلاق والفضيلة فإذا لم يتلاف عاجلاً فالعاقبة وخيمة».
هذا الانتقاد فتح المجال لانتقاد آخر نشرته جريدة «المنبر» بتوقيع «آنسة متفرجة» تحت عنوان «التمثيل مفسدة الأخلاق»، قالت فيه: «ليس منا من ينكر ما للتمثيل من القوة العاملة في تقويم الأخلاق، إذا كان المشاهدون لتمثيل الروايات يسارقون السمع قليلاً إلى ما تنطوي عليه الروايات التمثيلية من الأخلاق الفاضلة والعظات البالغة. ولا ننكر أن فريقاً من المشاهدين لا يذهبون إلى التمثيل لتحقيق هذه الفضيلة التي يجب أن تتسرب إلى غيرهم منهم، وما جعل التمثيل للتلهي بمعنى كلمته، إذا أجيزت هذه الكلمة، لاعتباره ترويحاً ليلياً، ولكن معناه الحقيقي أكبر أثراً وفعلاً لمن يعقلون. أكتب هذه الكلمة على أثر سؤال طُرح على الأديب البنهاوي بشأن حملته على تمثيل الروايات التي من نوع الفودفيل، فقال: لم يكن تمثيل هذا النوع من الروايات المفسدة للأخلاق ابن هذا العام أو السابق له بل نذكر أن أول عهده الجدي يرجع إلى سنة 1907 حيث مثلت أول رواية منه وهي «ليلة الزفاف»، التي عربها صديقنا الأديب إلياس أفندي فياض. مثلت هذه الرواية وفيها من الفضائح ما فيها فتصدرت لانتقادها في ذلك الحين جريدة المؤيد بقلم أحد محرريها، وكان انتقادها في اليوم الذي كانت ستمثل فيه هذه الرواية في دار تمثيل الشيخ سلامة حجازي، والشيخ على ما عرفناه لا يميل إلى هذا النوع الفاضح من الروايات، فلم يكد يطلع على ما نشر في المؤيد في ذلك الحين حتى ألقى اللوحة الموجود بها الإعلان عن الرواية، وأمر بإغلاق التياترو حالاً. وكذلك صادف عمله ارتياحاً من أنفس الأدباء الغيورين على الأخلاق. ولم يكن في وسع الأستاذ عزيز عيد إلا أن يمثل روايته عقب ذلك في قهاوي الرقص، ومنها الكازار، فكان المحل المختار الذي تمثل فيه مثل روايات «ليلة الزفاف، وخلي بالك من أميلي، ويا ستي ما تمشيش كده عريانة»، مادام الممثلات يظهرن في مثل هذه الروايات بما يزيد على مظاهر الراقصة في ملهى نعرف أنه للدعارة. يقول زعماء هذا النوع الوقح إن فرنسا تشهد مثل هذه الروايات الفرنسوية، وفاتهم أن الفرنسيين غير المصريين وأن هناك أخلاقاً وعادات وتقاليد وهناك غيرها. بل فاتهم فوق ذلك أن جوقة الفودفيل الفرنسوية التي جاءت مصر ومثلت رواياتها في ملهى حديقة الأزبكية، مثلت من بينها رواية «ليلة الزفاف» وذكرت هذه الجوقة في إعلانها أن هذه الحفلة «ليلة سوداء» بالترجمة الحرفية!! والغرض من ذلك أنه محظور على النساء والآنسات شهود هذه الرواية. هكذا يعمل الإفرنج في تمثيلهم، ولكن جوقة الكوميدي العربية ترينا «الست ماشية عريانة» بالمايوه، وبعد ذلك يحضون السيدات على شهود هذه الحفلات الساقطة، بل ويروننا فوق ذلك كيف تكون الدعارة، وكيف السبيل إليها. وكنا نحب أن الأستاذ العظيم والممثل البارع عبد الله عكاشة يحذو حذو أستاذه الشيخ سلامة حجازي فيمنع تمثيل مثل هذه الروايات الساقطة في دار يُكتب عليها «دار التمثيل العربي». وكان حقاً عليه أن يقصر لياليه على ما اتخذه عن أستاذه وأن لا يجعل دار التمثيل العربي دار دعارة وخلاعة».
هذه الكلمة التي نشرتها الآنسة المتفرجة، كانت الشرارة التي أشعلت الساحة النقدية والمسرحية والفنية والأدبية في تاريخ المسرح المصري وربما العربي!! فحتى الآن لم أجد في تاريخ المسرح العربي قضية مسرحية شغلت الرأي العام والساحة النقدية طوال أربعة أشهر مثل هذه القضية، التي أثارتها جريدة «المنبر» التي فتحت بين صفحاتها باباً أطلقت عليه اسم «الباب المطلق» لنشر المقالات المتعلقة بقضية عروض «الفودفيل في مصر»، التي يقدمها «جوق الكوميدي العربي» لعزيز عيد. وقليل من هذه المقالات مسّت الريحاني بصورة هامشية، حيث إنها كانت ضد عزيز عيد في المقام الأول، ومن بعده «أمين صدقي»!! ولم تكن جريدة المنبر وحدها في هذه المعركة، بل أتبعتها أيضاً جريدة «الوطن»!! أما كُتّاب هذه المقالات فهم: فرح أنطون، وعباس حافظ، ومحمود خيرت المحامي، ومحمد طاهر المخرنجي، وعبد الحليم دلاور، وعلي ذو الفقار، وميخائيل أرمانيوس، وبنتاؤر، وبهلول .. إلخ.
وكنت أتمنى أن أتحدث عن هذه المعركة النقدية بكل تفاصيلها، ولكني لا أستطيع لعدة أسباب: أولها، أنني تحدثت عنها بالفعل – بصورة ملخصة وجامعة - منذ أكثر من عشرين سنة في مقالة لي بعنوان «فتاة من جمهور المسرح .. تثير الرأي العام» نشرتها مجلة «آفاق المسرح» المصرية عام 2002 في عددها التاسع عشر. والسبب الثاني إنني لا أعيد ما أنشره سابقاً ولكني أشير إليه فقط، وذلك وفق منهجي في التأريخ والتوثيق!! والسبب الثالث أن هذه المعركة تخصّ عزيز عيد في المقام الأول، فلو قُدّر لي أن أكتب عن عزيز عيد يوماً ما .. فمن المؤكد أنني سأكتب عنها وبتوسع شديد في تفاصيلها!! 
وبالرغم من منطقية هذه الأسباب، إلا أنني سأخصص إحدى المقالتين القادمتين لما يخصّ الريحاني في المواضع التي جاء ذكره في قضية الفودفيل وعروضه!! والمقالة الأخرى سأخصصها للحديث عن تفاصيل نهاية هذه المعركة، لأنني لم أكتب عن هذه التفاصيل في مقالتي بمجلة آفاق المسرح، حيث إن نهايتها كانت في ساحة المحاكم!! وليس معنى أن المعركة استمرت حوالي أربعة أشهر أن «جوق الكوميدي العربي» لعزيز عيد توقف عن العمل!! بل استمر يعمل مع فرقة عكاشة أو مستغلاً اسمها ومكانتها طوال فترة المعركة ونشر مقالاتها!! ولم يتوقف الجوق ولم ينحل ولم يخرج منه نجيب الريحاني إلا مع انتهاء المعركة في مايو 1916.


سيد علي إسماعيل