«سيب نفسك» مونودراما تبث الأمل على مسرح السلام

 «سيب نفسك»  مونودراما تبث الأمل على مسرح السلام

العدد 825 صدر بتاريخ 19يونيو2023

تكمن جماليات المونودراما في تفرد ممثل واحد في الغوص داخل ذاته لأبعاد لم يصل إليها من قبل، أو لم يكن يعرف بوجودها داخله من الأساس، فحين تدرك أنك وحيدا باعتبارك ممثلا، وأيضا أنك لست وحدك، فداخلك يتصارع عشرات الأشخاص يبحثون عن منفذ للخروج مجابهين القيود المفروضة عليهم، فيصبح لزاما عليك إشعال هذه الحرب لأوجها حتى تخرج من بينهم من يساعدك في المثول من خلال جسدك الواحد على خشبة المسرح، فاتحا الأفق على مصرعيه لخروج من ينتصر منهم، لذلك تصبح المونودراما هي الأصعب على أي ممثل وهي أيضا مرحلة فاصلة إن تخطاها بنجاح جلس متربعا داخل فناء النضج الفني.
في العرض المسرحي «سيب نفسك» الذي عرض مؤخرا بقاعة يوسف إدريس بمسرح السلام للمخرج جمال ياقوت، وترجمة د. نبيلة حسن، للمؤلف مارك إيجيا، كانت المونودراما المقدمة تعلن بوضوح عن كيفية التشبث بالأحلام البسيطة حين تذهب أحلامنا الكبيرة بلا رجعة وتعريف الرضا والقناعة أيضا عما هو متاح بدلا من إضاعة السنوات فيما هو غير متاح، إضافة إلى استغلال أحلام البسطاء، ومحاربة المجتمع الذكوري، ومجابهة التحرش، ولكن كان الخط الرئيسي محوره الانتحار بين طريقين: الأول قدرة الناس على الاستمرار عند مشاهدة شخص ينتحر أمامهم، فيكملون طريقهم، فلا يتغير شيء داخلهم. والثاني عن كيفية مساعدة الشخص الراغب بشدة في الانتحار بكلمات مختارة بعناية ودقة، وليست كلمات تقليدية وساذجة يعرفها المنتحر جيدا مثل «حرام»، «هاتموت كافر»، و«مش معقول مافيش حد بيحبك».
ربما ربط الانتحار بضائقة مالية فقط لم يكن أفضل الاختيارات، ولكنه كان مفتاح مقبول لطرح فرعيات أخرى متماثلة أكثر مع الأمور الحياتية ومشكلات الناس.
عن أهمية التوازن ما بين القديم والحديث والصراع الدائم بين الأجيال ومواكبة التقدم، جاء النموذج من خلال الكتب والقراءة وأيهما أفضل الإلكترونية أم الورقية، ليطرح تساؤلا أهم: لِمَ علينا من الأساس الاختيار بين شيئيين هذا أو ذاك؟ لِمَ لا يوجد خيار آخر مختلف؟.. فليأخذ كل منا ما يرغب وما يحب بطريقته، لأن الأهم هو الاستمرار في مساعدة أقدامك على التريض من جديد للتحرك خطوة للأمام مهما كانت الظروف المحيطة التي تنصب حولك كالأسلاك الشائكة.

هل التمني بشراء «بلوزة» يكفي لاستمرار الحياة؟
في رواية «السيدة هاريس تذهب إلى باريس» التي صدرت عام 1958 للكاتب «بول جاليكو» التي تم تنفيذها فيلما سينمائيا الفترة الماضية للمخرج والمنتج «أنتوني فابيان»، كان الحلم الأهم للسيدة «هاريس» التي تعمل خادمة بالمنازل مقابل أجر زهيد، هو الذهاب إلى باريس للحصول على فستان من «كريستيان ديور» أشهر مصمم أزياء في العالم، وكانت البلوزة بمثابة الحلم أيضا لبطلة عرض «سيب نفسك» فهي ليست مجرد أمنية تنتهي بتحقيقها ولكنها الأمل.. أمل التشبث بالحياة والاستمرار من خلال حلم ولو كان صغيرا بالنسبة للبعض.
 لا أعرف ما الذي فعله المخرج «جمال ياقوت» مع الممثلة «فاطمة محمد علي»، فلم تكن حالة مونودراما بالشكل التقليدي المتعارف عليه حيث يقف الممثل وحيدا يعبر عن الحالة الدرامية للشخصية بأدواته «لِمَ يظن أنه صحيح»، لكنها كانت حالة توحد لا تنفصل رغم تعدد وتشابك التفاصيل بشكل يتحدى قدرات أي ممثل مهما كان مستواها.
ربما أراد «جمال ياقوت» أن يختبر قدرات «فاطمة» الفنية والجسدية، وربما أرادت «فاطمة» أن تقتحم مناطق جديدة من ذاتها باحثة عن شيء ما لم تكن تعرف أنه موجود، لذلك نجح هو في استفزاز قدراتها الكامنة المصاحبة لخبرات من السنوات في الخروج، ونجحت هي في إشعال ثورة عارمة داخلها من كل حدب وصوب لتنهم من كل الألوان واللغات والفنون التمثيلية والراقصة والغنائية بالمفهوم الواضح لمعنى «الفنان الشامل»، فكانت الحالة العامة جيدة، وخلق حالة التوحد مع الجمهور تم تنفيذها بنجاح بشكل يضع هذا العرض ضمن أهم عروض المونودراما في السنوات الماضية» فيما شاهدته»، فهنيئا لنا بـ»جمال ياقوت» مخرجا يحلق خارج السرب بجدارة كالعادة، وبـ»فاطمة محمد علي» فنانة شاملة تحدت صراعها الداخلي لتثبت من جديد أنها تستحق مكانة أكبر تليق بمستوى قدراتها.
استخدام ودمج «العرائس» داخل العرض للدكتور «نبيل الفيلكاوي»، أضاف ملمحا جديدا يتيح من خلاله المخرج لنا عدة خيارات: الأول هو استخراج إمكانيات إضافية من بطلة العمل تتيح لها استعراض أدواتها بشكل أكثر أهمية لها وللمتلقي. والخيار الثاني هو منع المتلقي من الشعور بالملل الوارد حدوثه في مثل هذه الأعمال، ليجد المشاهد نفسه بين تنقلات درامية متعددة تجعله لا يتلفت بعيدا.
في المساحات الضيقة يصبح تصميم الديكور والإضاءة غاية في الصعوبة، ولكن نجحا بجدارة مصمم الديكور»أحمد أمين»، ومصمم الإضاءة «إبراهيم الفرن»، في إضافة جماليات جديدة للرؤية البصرية تتماس مع ضرورية الاحتياج الدرامي لها واستخدامها بشكل جيد أيضا، حتى لا تصبح مجرد شكل جميل بلا أهمية وبلا روح.
في الموسيقى والألحان لـ»حاتم عزت»، كانت الموسيقى الحية بشكل مباشر من خلال فرقة موسيقية بسيطة العدد كبيرة الإمكانيات، تبث حياة جديدة طوال مدة العرض، بالإضافة لاختيار أغنيات أثرت بشكل كبير في حالة السرد الدرامي صانعة حالة من الاستمرار في التواصل مع المتفرج، فكلما شعرت أن هناك حالة ملل قادمة أجد مصدرا للأغاني والموسيقى ينتشلني وينتشل العمل من السقوط في فخ الملل.


نبيل سمير