في الساعة الأخيرة الشعور بالذنب لا يمحو الجريمة

في الساعة الأخيرة الشعور بالذنب لا يمحو الجريمة

العدد 559 صدر بتاريخ 14مايو2018

لحظات صغيرة فاصلة بين الحياة والموت، قد لا يدرك الإنسان ما هو مقدم عليه، إن كان موته هو أو موت شخص آخر، هل كانت الساعة الأخيرة هي تلك الساعة قبل وفاة ذلك الشخص ذي القلب الحجري الذي ألقى القنبلة الغاشمة، أم هي الساعة الأخيرة قبل أن يلقي القنبلة على الأبرياء ليقتل بها عشرات الآلاف في أبشع جريمة ضد الإنسانية كلها. الساعتان قد تكونان مختلفتان لكنهما متوازيتان دون تساوٍ، لم يكن ذلك الرجل بريئا ولا يمكن لأن يبرئه أحد أو يتعاطف معه مهما أبدى من شعور بالذنب ومهما تعاظم هذا الشعور بداخله أو أفصح عنه، هو فقط ينمي الشعور بعد ارتكابه الجريمة كي يتوافق نفسيا للعيش مع هذا العالم. ماذا أفاده الحصول على تمثال أو نيشان من المجرمين أصحاب المصالح الذين دفعوه لتلك الجريمة البشعة، أما هو فجريمته قادها الطمع والوحشية من ذاته التي لا يمكن أن ينكرها بدعوى جهله بما يحمله، لا أحد يحارب ويذهب لقتل أبرياء لا يعرف الجرم الذي سيرتكبه ضد مدنيين عزل وضد مدينة بأكملها، فقتل واحد بريء مثل قتل عشرات الآلاف، فالجريمة لا تتجزأ إذا انطوت على الوحشية والدموية.
يقدم لنا المخرج ناصر عبد المنعم بقاعة مسرح الغد التابع للبيت الفني للمسرح، فكرة جديدة لم تقدم من قبل، وتتحدث عن الساعة الأخيرة في حياة قائد الطائرة التي ألقت قنبلة هيروشيما لتقضي على سبعين ألف شخص في اليوم الأول في محيط أربعة كليو مترات، ثم مثلهم في اليوم التالي، ثم حصيلة التشوهات التي حدثت للأجيال التالية بعد ذلك، هي حالة نفسية يقويها الشعور بالذنب لدى هذا الطيار الذي صاحبه اثنا عشر فردا من القوات الأمريكية لإنجاز المهمة، يعتمد العرض على تقنية الفلاش بلاك، فيبدأ باستعراض هذا الكهل العجوز توماس ويلسون الذي يعيش وحيدا بعد أن هجرته زوجته وابنه وانعزل عنه جميع الناس، نتيجة فعلته التي كان يظن أنها مهمة وطنية من أجل رفعة بلاده، ولا يبقى معه سوى تمثال صغير له أقامه له المسئولون في أكبر الميادين تخليدا له، لكنه بعد فترة وضعه له المسئولون في حديقة منزله حتى أجبره جيرانه على وضعه داخل المنزل نفسه، فالجميع ينكرون الجريمة ولا يطيقونه، يجلس هذا المجرم وحيدا يتحدث مع تمثاله، ويحتفل وحده بعيد ميلاده بـ”تورتة” صغيرة لم يشاركه أحد، ويبدأ في تلك الساعة المصاحبة بأزمة مرضه الصدري الذي يلازمه ويشتد عليه، يبدأ في استرجاع الأحداث والمواقف التي مرت به طوال حياته وكانت سببا في ارتكاب الجريمة الإنسانية التي يندم عليها ويريد التنصل منها ملقيا التهم على قادته الذين لم يخبروه بمدى فظاعة الجريمة وما تحمله القنبلة من دمار شامل؛ حيث كانت لأول مرة يتم تجربتها في حرب بشكل فعلي بعد عملية تخصيب اليورانيوم مباشرة، فنرى من خلال تقنية الاسترجاع طفولته ونشأته مع أب تسبب في كرهه له حتى كان الطفل سببا في وفاة والده دون أن يعرف أحد، ثم التحاقه بالمدرسة ونبوغه فيها وتميزه عن أقرانه، حتى صار طيارا متميزا وله منافس لدود (تشارلي وين) في إظهار براعته، وفي الوقت نفسه الذي قامت فيه الحرب وعمل الأمريكان على محاولة تخصيب اليورانيوم من أجل حسم الحرب، حتى نجحت تلك المحاولات، وبالفعل تم التخصيب ورغم انتهاء الحرب بهزيمة الألمان وانتحار هتلر، فإن الأمريكان أصروا على توجيه تلك الضربة البشعة لليابان التي رفضت الاستسلام، تم إقناع (توماس ويلسون) بأنها مهمة وطنية، ويهبط بطائرته على بعد 30 ميلا بعد إتمام المهمة نادما على فعلته، ويلتقى بفتاة يابانية كفيفة كلها أمل في الحياة تظنه ملاكا من السماء، لكنها تعرف فعلته وتنكرها وتغضب منه ناقمة عليه، ثم تم بعدها توجيه الضربة الثانية لناجازاكي بواسطة غريمه (تشارلي وين) الذي نراه لم يهتم ولم يشعر بالذنب مثله، وعندما يعود لبلده فرغم التكريم الرسمي والاحتفاء من قبل المسئولين، فإن المواطنين، وفي مقدمتهم زوجته، ينكرون تلك الفعلة وتهجره الزوجة, حتى نراه في ساعته الأخيرة بعدما وصل إلى أرذل العمر يموت وحيدا لم تستطع يده أن تصل لتمسك بعلبة الدواء، ليسقط على الأرض طريحا بين دوائه وتمثاله.
النص من تأليف عيسى جمال الدين، وقد تناوله ناصر عبد المنعم بشكل بسيط وسهل بطريقة السهل الممتنع دون أية تعقيدات مستخدما خبرته في توصيل الحالة والمعلومة للمتفرج بشكل فني ممتع، فالديكور الذي صممه محمد هاشم كان بسيطا يبدأ بمنزل الطيار (توماس ويلسون) في المستوى الأرضي للقاعة عبارة عن فراغ يعبر عن الخواء والوحدة التي يعيشها البطل، مع قطع صغيرة من الأثاث مقعدين ومنضدة في المنتصف بتصميم مسطح، حيث وضع على المنضدة “تورتة” عيد ميلاده التي ظلت طوال العرض لم يمسها حتى مات، وفي اليمين كرسي هزاز بجوار التمثال، ثم في اليسار شيزلونج، وطوال العرض لم يجلس على تلك المقاعد أحد غيره حتى جاره، لبيان مدى عزلته عن المجتمع، وينزل ستار خفيف من التل على مقدمة المسرح يعرض عليه مشاهد فيديو بروجيكتور توثيقية, قام بإعدادها حازم مصطفى، لأحداث الحرب العالمية الثانية، بغرض دخول المتفرج ودمجه في حالة العرض وتوصيل المعلومة إليه، كذلك توجد خلف غرفة الطيار شاشة مماثلة ظلت ماثلة أمامنا طوال العرض ليتم خلفها تأدية مشاهد الفلاش باك باعتبارها تقنية لفصل عين المشاهد والتفرقة بين الحدث الآني والحدث السابق، أما مشاهد الفلاش باك في الخلفية فاحتوت على عدة مستويات للتمثيل قام المخرج بتوظيفها بشكل سلس، وكان أهم ما في ذلك كله هو تكامل الإضاءة مع الديكور، حيث استخدم الإضاءة البيضاء دون أية ألوان، فأعطى الجو الكئيب المحيط بالبطل بالإضافة لتشويش الزمن الماضي في الفلاش باك. كما وظفها في اللعب بالظلال والنور، مما أوحى بجو تعبيري مناسب للحالة العامة ولا سيما في إسقاط ظلال التمثال على الحائط مع ظلال الطيار في لحظات خاصة، أما الملابس لمحمد هاشم أيضا فكانت متمازجة ومتجانسة ومعبرة عن تلك الفترة التي قامت فيها الأحداث. كما كونت الموسيقى المتنوعة التي أعدها أحمد حامد تناغما خاصا باعتبارها خلفيات تغطي الحدث الدرامي وتحولاته باستخدام عدة آلات موسيقية مختلفة في كل حدث مثل البيانو وغيره.
معزوفة جماعية متناغمة لا سيما في الأداء التمثيلي حيث أدى شريف صبحي دور الطيار “توماس ويلسون” ببراعة جذبت معه قلوب المشاهدين وأظهر تمكنا لإظهار الانفعالات والتحولات في الشخصية بكل أبعادها ومراحلها، كما كان معتز السويفي مناسبا في دور جاره الذي أداه بخبرة ورزانة تحسب له، واستطاعت سامية عاطف أن تنتزع الأنظار بتلقائيتها وإحساسها العالي في دور الفتاة اليابانية، أما محمد دياب في دور الأب أولا ثم دور القائد الأمريكي، فهو يؤكد تمكنه من أدواته كممثل بارع استطاع احتواء جميع أبعاد الشخصيتين دون خلط بينهما، أما نورهان أبو سريع في دوري الفتاة الصغيرة والحبيبة الزوجة، فقد أدت الشخصيتين بإحساس رقيق وأظهرت موهبة كبيرة في طريقها نحو النضوج الفني، وكان نائل علي مناسبا تماما لدور غريم الطيار “تشارلي وين” أجاد المخرج توظيفه وهو متمكن من أدواته كممثل مخضرم، أما محمود الزيات فهو الممثل المتجدد دائما في كل أدواره واستطاع أن يصل بنا إلى عمق شخصية (أوبن هايمر) الذي قام بتصنيع القنبلة النووية دون مبالغة، كما كان محمد حسيب جيدا في أدائه لدوري “القائد” و”هندرسون” مدير المدرسة بخبرة وحنكة كبيرة. وقد ساعد في الإخراج دينا محمود وعمر الشحات وتنفيذ الإخراج لداليا حافظ.
عرض جيد متميز يعد إضافة جديدة لتاريخ المخرج ناصر عبد المنعم الحافل، يعبر عن فكرة إنسانية عالمية تهم العالم أجمع، أداها جميع المشاركين بتوازن فني رصين حقق المتعة البصرية والحسية، ويحسب لمسرح الغد بقيادة مديره الفنان سامح مجاهد حسن اختيار وإنتاج مثل هذا العرض الفني الممتع.


أحمد محمد الشريف

ahmadalsharif40@gmail.com‏