عظام أنتيجون (2)

عظام أنتيجون (2)

العدد 816 صدر بتاريخ 17أبريل2023

 تساعد عبارة «مسرح التمثيل» التكتيكية جولدمان أن يرسم المسار للنظرية الدرامية التي تعمل بين فهم خاطئ للأداء الدرامي كتفسير للنص من ناحية, والقوة الأولية لنظرية الأداء التي غالبا ما تعمل, بشكل ملائم, لتهميش الدراما في مجال أوسع لفعالية الأداء. 
 أولا, يرد جولدمان على عنصر بارز في النظرية الأدبية: أن عمل المسرح هو محاكاة أو تفسير العالم الدرامي الذي بناه الكاتب المسرحي. وهذا الرفض للأداء كمحاكاة ثانوية, ورغم ذلك, فإن الدقيق في مسرح التمثيل يشارك بمفهوم الأداء النابع من نظرية الأداء, ولاسيما ما ظهر في مقالة ريتشارد شيكنر المؤثرة عام 1971 «الطقوس الفعلية Actuals”. ففي هذا المقال التأسيسي، أقام شيكنر فاصلا بين أحداث الأداء الذي يقوم على المحاكاة (المسرح الدرامي) وتلك الأحداث التي ترفض التسلسل المفاهيمي, وترفض أن ترفع أي عملية حياة فوق أي حياة أخرى, ويرفع الكتابة على التجسيد, والتمثيل المحاكاتي على الأداء الحالي؛ فقد وضع بين النوع الأخير طقوس قبيلة الطيوي Tiwi, والأداء الشاماني, وعرض المسرح الحي “الجنة الآنParadise Now “, وعرض الآن كابرو “سوائل Fluids”, وعرض جروتوفسكي “سفر النهاية ذو الصور Apocalisis Cum Figuris” و”أكروبوليسAcropolis “, وعرضي جماعة الأداء “ماكبث” و”ديونيسيوس 69”. ومع ذلك, كما يوضح جولدمان، إن تمييز شيكنر بين فورية المؤدي وفورية المسرحية, رغم أنهما مضادان للنزعة الأدبية بالتحيز, فإن لهما جذورا فعلا في الرؤية الأدبية، ولاسيما حاليا, تسليما بالقبضة المنتشرة للنقد الجديد في أوائل السبعينيات. ويقول كلينث بروكس وروبرت هيلمان في كتابهما “فهم الدراماUnderstanding Drama”: “يعرف الجميع أن العمل في الدراما يتكون من كل الكلمات المنطوقة مباشرة بواسطة الشخصيات؛ أي الحوار, ذلك أن العمل يمكن قراءته أو رؤيته في شكل تقديم مسرحي.  فبالنسبة للنقد الجديد, الذي قد تغريه الصفحة المطبوعة, فإن الدراما في الأساس هي ترتيب للكلمات, والحوار, بدلا من الفعل, وأن وظيفة الأداء موازية تركيبيا للقراءة. 
     لقد كانت رؤية شيكنر للدراما في السبعينيات أدبية إلى هذا الحد: إذ تعتمد مقاومة الدراما الأولية لمجال دراسات الأداء على ذلك. ويمكننا أن نوافق جميعا, لأن شيكنر اقترح أخيرا أن الأدب والأداء موضوعان مختلفان, يحتاجان منهجين مختلفين، والاهتمام أحيانا بموضوعات الاستفسار المختلفة. ومع ذلك, الدراما ليست دائما أدبا فقط: فهي أحيانا توفر الوسيلة المادية للأداء, وفي هذا المجال بالتحديد بدأ تمييز شيكنر بين الأشكال الثابتة – الأفلام, وأفلام الأداء والكتابة – والتغير غير الشكلي لسلوك بدأ ينهار: 
 يتميز السلوك بخصائص الحضور والاحتمال, وكلا المصطلحان متنازع عليهما. فالحضور يعني أن المؤلف أو المنتج موجود ويتصرف فعلا, ويعمل فعلا في نفس اللحظة وفي نفس المساحة مع المتلقين. والاحتمال يعني أنه لا يتم إعادة تمثيل أي سجل مرارا وتكرارا. فكل مثال إما أنه أصلي أو لا يوجد أصل في أي وقت. 
في مسرح التمثيل, يتصرف مؤلف أو منتج السلوك بالفعل أيضا, ويتغير التمثيل بطرق عرضية من لحظة إلى لحظة، ومن ليلة إلى ليلة, ويعدل سلوك الممثل باستمرار استخدامه كأداة للكتابة بطرق يصعب التقاطها ضمن الاستعارة التقليدية للسجل. وبتوقع الأرشيف والريبرتوار, يقدم شيكنر تأويلا ملفتا للنظر: هدف دراسة الأدب, وكذلك دراسة أشكال الأداء التي يبدو أنها مبنية على الأدب, هو المحافظة على الكلمات سليمة, ولكن يتغير معناها خلال التفسير. ومن خلال عظام أنتيجون: يعزل شيكنر الأداء الدرامي عن المسارات الرئيسية للنقد الثقافي والفلسفي في الربع قرن الماضي, التي كانت تميل إلى رؤية تفسير الموضوعات الفنية التي تفسر الأشياء نفسها, وشرطا صحيحا، ولاسيما فيما يتعلق بموضوعات مثل الكتابة الدرامية التي توفر استخدامات محددة –سلوكية وأداء عرضي حالي– بدلا من مجرد تفسير. 
     لهذا السبب, فإن إحساس شيكنر بأن النظرة القائمة على السلوك؛ أي النظرة الأدائية, الذي يقدم القدرة على تغيير النص الأساسي, ليس فقط خبرا؛ بل يثبت التمييز الذي يصنع فرقا بسيطا. والتنوع الواضح في تاريخ أرشيف الإصدارات المطبوعة المتميزة لمسرحية «هاملت». فالأداء الدرامي في تمثيله وتحريضه للسلوك يغير النص دائما, ويضاعفه في العديد من النصوص المستخدمة في عرض معين، ويتخلى عنه الأداء نفسه علاوة على استيعاب الكتابة في ممارسات ريبرتوار التجسيد, وهو فعل مقاوم لاستيعابه في نصية. وكما اقترح جون روز «سيطرة المخرج على كتابة الأداء أقل من سيطرته على خطاب الأداء». وعلى الرغم من أنه لا يمكننا بالتأكيد دراسة الأداء من خلال المادة النصية وحدها, فإن مفهوم شيكنر بأن المخرجين يملكون خيار تناول النص الدرامي، ليس باعتباره علة التأليف أو سابقا عليه، ولكن باعتباره مادة ببساطة, هو مفهوم مؤطر بشكل خاطئ: النص دائما مادة, ويستخدمه ريبرتوار مختلف, ويراهن بوسائليته بطرق مختلفة. وأحيانا يؤكد الريبرتوار أولوية الأرشيف –شكسبير بسروال بلون اليقطين– وأحيانا لا يؤكدها. 
     تستكشف مشاركة البيئة التي ألهمت النزعة الدرامية المضادة في دراسات الأداء -الأنثروبولوجيا, فرويد وأريكسون, وآرتو، وجروتوفسكي- «حرية الممثل»، موقفا وخطابا ونقدا قادرا على التشبث بالكتابة الدرامية كمادة للاستخدام المشروط بإنتاجه كعمل مسرحي وتمثيل, وليس ذا عالم قصصي؛ بل ذا عملية بدنية حالية لأدائه. لم يتناول جولدمان الكتابة الدرامية على أنها تحدد المجال التمثيلي مقابل العمل الحالي للأداء (الأرشيف مقابل الريبرتوار, والكتابة مقابل السلوك)، ولكن بالأحرى كاستجواب منسوب إلى بورك للوسطاء والواسطات والفنون ومشاهد الأداء المسرحي, وهو مسرح التمثيل. ويقاوم كتاب «حرية الممثل» تقديم تفسير للمعاني النصية, بدلا من قيامه بقراءة استراتيجية إجرائية, وجهدا لاستخدام آنية متواصلة للتجربة المسرحية للتفكير من خلال الاحتمالات –الاحتمالات العامة بالتأكيد– لتسكين الدراما ليس باعتبارها تمثيلا للواقع؛ بل باعتبارها هي نفسها واقعا, موجودا أمامنا في المسرح. 
     ولقراءة الدراما كعنصر أداء، فضلا أنها عن تعبير شفهي عضوي يعني تحدي المعنى الذي يرثه العمل في النص, ويتم صبه بشكل أو بآخر على خشبة المسرح، وبدلا من رؤية الأداء باعتباره  ترتيبا شفهيا, فقد تناول جولدمان الكتابة الدرامية لتزويد الممثل بريبرتوار النشاط المحتمل لكي يتشبث به من خلال ريبرتوار التمثيل المتاح, فالشخصية ليست مرسومة كشيء يمكن محاكاته أو تمثيله, ولكنها تأثير يظهر نتيجة لكيفية تصرف الممثل كشخصية –أي كف يتحرك داخل وخارج ريبرتوار أدواره. وبعيدا عن تنميط الأداء الدرامي, فإن الكلام مشكلة في الدراما, لأن كل سطر في الكلام يجب أن يعوض عما يهدمه, فالأداء يقاطع حضور الأداء ويدخل نصه في التجسيد الحي والمعيش. يجب ألا يكتشف مسرح التمثيل التعبيرية الأدبية لحواره؛ بل يكتشف قوة تحمله كفعل داخل دينامية تنكر/ وحي التمثيل: 
      الكلام بوجه خاص, بسبب قدرته على الحركة, وكثافة انطباعاته, يجب أن يُنظر إليه على أنه تمويه دائما – تمويه ينزلق ويكشف, ويغير, ويجاهد ليكون ملائما, يجتهد ليكون صحيحا, أو شفافا لما يصفه, ويفكك وينهار ويجمد, ويجب أن ينفجر. 
بقدر ما يكون التمثيل, وفي هذه الحالة التمثيل بالكلمات, فإنه طريقة لتعلم التفكير بالجسم, فهو ينتمي إلى استراتيجيات ريبرتوار التجسيد, والعروض, والإيماءات, والشفهية والحركة والرقص والغناء – باختصار كل تلك الأفعال التي يُعتقد أنها معرفة سريعة الزوال وغير قابلة للتوليد. الغرض من التمثيل ليس تغطية عظام أنتيجون بجسم جديد –نظرية الزومبي في الدراما– ولكن استخدام الكتابة كوسيلة لجعل الارتباط الحالي مع الجمهور مهما. 
     تتطلب قراءة الدراما بين الأرشيف والريبرتوار, والكتابة والسلوك, والشعر والأداء مقاومة المفاهيم الأدبية عن الإخلاص للنصية والتوليد؛ إنها تنطوي على مشاركة عملية مع الشخصية كعملية تغيير وتنكر ولعب دور وأداء؛ إنه يعني التفكير بالجسم حول كيفية استخدام اللغة لتحديد وتطوير حدث ما على خشبة المسرح، وتسكين تلك العلاقة الفريدة بين الممثل وجمهور المتفرجين. وتعني أيضا التفكير بالأجسام في التاريخ. والممثلون اليوم مدربون على فعل أشياء معينة ومختلفة بالكلمات, وبالتأكيد بفعل أشياء مختلفة عما فعله جون جيلجود, أو إيلين تيري, أو سارة سيدونز, أو إدوارد ألين. ومع ذلك يرى كل من شيكنر وتايلور إمكانية هذا النوع من الحدث الذي يقع لكي يكون ممنوعا من خلال الثبات الأساسي للكتابة, ومن خلال الوظيفة التوليدية بشكل أيديولوجي لكتابة الأرشيف الداعمة. 
     وفي كتابه «حول الدراما On Drama” تناول جولدمان مباشرة النصية النقدية للأداء, مجادلا بأن “النفاذية التبادلية للممثل والنص تتناول أكثر مجرد القلق الفلسفي حول العلاقة بين الأشخاص والنصوص”. وبعيدا عن إضفاء مزيد من الإحساس المنسوب إلى دريدا “أنه لا يوجد شيء سوى كتابة, ولا شيء متاح للفهم البشري ليس نصا”, أو التفسير المتعارف عليه للفعل الاجتماعي باعتباره مجموعة نصوص مقروءة, أو النقد الذي يتحدى المركزية العرقية لرؤية النصية هذه للأداء التي طورها كونكرجود ونشرتها تايلور, فقد أصبح جودمان يرى أن فكرة النص كأداء تتحدى بشكل حاسم ظاهرة الأداء المسرحي نفسه. فبالنسبة لجميع نصوص المسرح الأقرب إلى التقاليد, فلا يمكن اختزال التمثيل إلى نصوص؛ بل هو مجرد نص مكمل للنص, أو ما يسميه شيكنر وآخرون “نص الأداء Performance text”. كما تؤكد جوديث باتلر على البعد الفاضح للأداء المجسد, إلى درجة أن الجسم الناطق (المجرد) يقول دائما أشياء لا يقصدها, وكذلك في الدراما أيضا نجد حتما عنصرا يتجاوز ما يمكن استبعاده من قراءة الأداء. وبينما يوجد تناظر منتج ومفيد بين الطرق التي يدخل بها الممثل إلى النص وعملية القراءة الخاصة, فبالنسبة لجولدمان هي خارجية النص الدرامي, وبعكس دريدا, حقيقة أن هناك دائما شيئا خارج النص, المكان الذي يحتاج شخص ما أن يدخل منه, حتى لتأسيس النص كنص يميز إصرار الدراما على المقايضة التأسيسية المتبادلة بين ما هو مكتوب وما هو ليس مكتوبا. ففي المسرح, يُمارس النص والأداء باعتبارهما يولدا كل منهما الآخر, وهذا المبدأ التوليدي يحرك حيوية مسرح التمثيل.


ترجمة أحمد عبد الفتاح