فيلم ياقوت بين الفشل الحقيقي والنجاح المصطنع!!

فيلم ياقوت بين الفشل الحقيقي والنجاح المصطنع!!

العدد 815 صدر بتاريخ 10أبريل2023

سبق أن تحدثنا في الحلقة الثانية من هذه المقالات عن أول محاولة للريحاني للحديث عن حياته المسرحية –بوصفها جزءا من مذكراته– عندما قرر الاعتزال، وعلمنا أنها كانت محاولة للدعاية له ولتاريخه، لأنه لم يعتزل!! هذه المحاولة أعاد تكرارها مرة أخرى عام 1934، عندما نشرت جريدة «كوكب الشرق» مقالة بعنوان «خطاب مفتوح من نجيب الريحاني يستفتي فيه الجمهور: هل يعتزل التمثيل أم لا؟!».. ونشرت الجريدة خطابه بمقدمة جاء فيها: «الأستاذ «كانديد» -[وهو اسم الشهرة لناقد الجريدة]- هل لك أن تفسح لي مكانًا في صحيفتك اليوم يتسع لرسالتي هذه؟ ومعذرة إلى القراء الفضلاء على أني حرمتهم منك أو من جزء من صحيفتك ومعذرة إلى نفسي أيضًا؟!». ثم نشرت الجريدة نص خطاب الريحاني، الذي نعلم منه أن الاعتزال هذا ليس جديدًا، بل هو الاعتزال الأول وما ترتب عليه من جديد، بل وعلمنا أيضًا أن الخطاب غرضه الخفي حث الجمهور على مشاهدة فيلم الريحاني «ياقوت» الذي يُعرض في السينما وقتذاك.. أي أن الريحاني يقوم بدعاية لفيلمه من خلال هذا الخطاب!! وإليك عزيزي القارئ نص الخطاب:
لست أجد حاجة إلى ذكر التفاصيل الخاصة بمسألة اعتزالي التمثيل كما تُحتم عليّ الوصية فيما يقال، فقد خاضت الصحف في أمرها ووقتها حقها، ولم يحرمني سيدي الأستاذ من اقتراحه الطريف الذي صادف هوى في نفسي لأنه أتى من صديق مخلص! ولكن المشكلة اليوم هي: هل أعتزل التمثيل بنوعيه إذا كان النص صريحًا في الوصية؟! إن مائتي ألف من الجنيهات لا يستهان بها ولا يضحيها الإنسان بسهولة.. فماذا يمكن أن أفعل وأنا كما ترى بين نارين؟! ماذا أفعل والموقف كما ترى دقيق؟ هب نفسك مكاني فماذا يمكنك أن تفعل؟! ولأزيدك وأزيد قراءك الكرام شرحًا فأقول: 
إني أهوى التمثيل هواية ولست أحترفه إلا لحاجة أو أني في غنى عن ذكرها، ومن الصعب على الإنسان أن يتخلى عن هوايته مهما كانت الأسباب، ثم أنه من الصعب أيضًا أن يتخلى الإنسان عن ثروة ضخمة كهذه الثروة التي أنتظرها.. من الصعب أن يفقد الإنسان مائتي ألف من الجنيهات في لحظة وبكلمة واحدة! يحزنني حقًا أن أترك التمثيل الذي يتغلغل في دمي وعروقي، ويحزنني حقًا أن أعيش بعيدًا عن المسرح وعن الكاميرا بعد أن ذقت لذة تصفيق الجمهور لي واستحسانه لتمثيلي وتقديره لفني، وبعد أن ذقت لذة مديح النقاد وثنائهم عليّ، ويحزنني أيضًا أن أُحرم من ثروة كهذه لم أتعب فيها ولم أبذل في سبيلها وفي سبيل جمعها أي جهد أو نصب.. فماذا أفعل؟!
رأيت أن لا أفتي في الأمر وحدي فأرسلت هذه الرسالة إليكم لتتكرموا بنشرها على صفحات جريدتكم الغراء ليشترك معي الجمهور المصري الكريم في تقرير مصيري.. لقد شجعني الجمهور المصري وما يزال، وهذا التشجيع لي السبيل أنا الضعيف، وهو الذي يوقفني هذا الموقف الحرج. أريد يا سيدي أن أتمتع بتصفيق الجمهور لي وأنا على المسرح، وأريد أن أستمتع بلذة النقد الذي يكتبه عني النقاد الفضلاء، وأريد أن أسمع رأي الجمهور الكريم في روايتي الناطقة «ياقوت» [أي الفيلم السينمائي ياقوت]. وأريد أن أعيش أيضًا ولست أستطيع العيش بعيدًا عن المسرح أو الكاميرا، ولكني إلى جانب هذا أريد أن أحصل على هذه الثروة ففيها غناء عن النصب الذي ألاقيه في سبيل العيش المادي... فماذا أفعل إذن؟
إنني أطرح أمري ومستقبلي بين أيدي الجمهور المصري فله أن يدلني على الطريق الذي يريدني أن أترسمه وله أن يشير عليّ بما يراه لي. فإني لم أكن لأكون كما أنا الآن لولاه ولولا تعضيده لي وإقباله على مشاهدة رواياتي المسرحية والسينمائية. وأحب أن لا يبدي الجمهور رأيه قبل أن يشاهد روايتي «ياقوت»، فقد بذلت فيها عصارة دمي وعقلي لأشرف قوميتي ووطني، وبعد هذا سأخضع لحكم الجمهور كيفما كان ذلك الحكم.. سأخضع لرغبة بني وطني. فقد كنت دائمًا خادمهم المخلص الأمين كما كنت ابن مصر البار بها الذي لا يريد غير رفعتها ومجدها ككل مصري مخلص غيور. وأنا في انتظار حُكم الجمهور. وتقبل يا سيدي خالص احترامي. [توقيع] نجيب الريحاني الممثل.
وهذا الخطاب يُعدّ سقطة من سقطات الريحاني!! فهذا الخطاب منشور عام 1934، وفيه يُطالب الريحاني الجمهور بمشاهدة فيلم «ياقوت» الذي بذل فيه عُصارة دمه وعقله ليُشرِّف القومية العربية ووطنه مصر أمام الأجانب، كون الفيلم إنتاجًا فرنسيًّا -في أول أمره- وتمّ تصويره في فرنسا، وعُرض في فرنسا أيضًا قبل عرضه في مصر!! وهذا الكلام كله نسيه الريحاني عندما كتب مذكراته عام 1937 –التي سنتحدث عنها فيما بعد– وقال فيها عن فيلم «ياقوت» وظروف تمثيله الآتي:
«قبل أن أبارح باريس شاءت المصادفات أن أقابل في أحد الفنادق كبيرًا من رجال شركة «جومون» السينمائية، فدعاني لزيارة أستوديو الشركة. وهناك عرض عليّ أن أقوم بتمثيل فيلم، وكان معي الأستاذ أميل خوري، وكان قبل ذلك سكرتيرًا لتحرير جريدة الأهرام ثم اضطرته أحداث السياسة في مصر أيام الوزارة الصدقية إلى الرحيل عنها والنزول ضيفًا على باريس! ولست أدري ما الذي جعل الأستاذ خوري يجهد نفسه في إقناعي بتفويض الأمر له، إنما الذي أدريه أنني قبلت ما عرضه وعدت إلى مصر على وعد منه أن يرسل في طلبي بعد أن يكمل ما يقتضيه الحال من إجراءات أولية. وعدت إلى مصر وفي جيبي الخمسون جنيها، وقد حزمت أمري على أن أجعل بيني وبين الممثلين سدًا، فلا أجمع فرقة ولا أعتلي المسرح لحسابي فقد كفاني ما رأيت وما شاهدت في أثناء الرحلة مما وصفت أقله ولم آت على أكثره. وبعد أيام قليلة «برم» المبلغ وأصبحت على الحديدة، فعمدت إلى بعض ما لدي من أثاث وحُلي.. وهات يا بيع.. هو إحنا رايحين ناخد منها حاجة. واستحكمت حلقات الأزمة «أزمتي الخاصة» واستولت «الكريزة» على جيب العبد لله، فهبطت بطعامي من «الرستورانات» إلى محلات الفول المدمس، ولعلك حين تسير في شارع المناخ تجد «أرمنيا» يقف أمام قِدرة الفول في محله المتواضع.. هذا المحل المتواضع اتخذته «رستوراني» المختار في الصباح وفي الظهر وفي المساء، حيث كنت أتناول وجباتي جميعًا، وقد كان الرجل يرى في ذلك شرفًا كبيرًا له، ويعتقد أنني من البهوات الجامدين الذين يهوون «الفول» ويستطعمون المدمس، فكان يجتهد في تهيئة أطباقي ويحبشها بالسلطة الممتعة والبقدونس الطازة، إمعانا في إكرامي واحتفاظًا بزبونه «السُقع». ولو علم المجنون أنني لن أتركه لوضع في بطنه بطيخة صيفي واطمأن على أنني وراه وراه والبركة في الفَلس الضارب أطنابه. والظريف أن الرجل ما يزال يذكرني إلى اليوم ويتأوه على أيامي الحلوة، ويظن أن عدم زيارتي لمحله - بصفتي من هواة المدمس - هو أن منافسًا له قد استولى عليّ، وكلما مررت مصادفة أمامه لحقنى وأطنب في ضروب الإصلاح والتحسينات التي أدخلها في عالم المدمس ورغب إلى أن أجربه مرة واحدة ثم أحكم على صدق قوله. ولما كان أخي يوسف يتنازل بين وقت وآخر ويزور هذا المحل «لحرحشة» معدته باتنين تلاته فول أولًا.. ولجبر خاطر الزبون القديم ثانيًا. فإن هذا الرجل ينتهز فرصة وجود يوسف ويسأله: (راح فين البيه بتاعنا بتاع زمان. والله وحشني قوي. هو فيه حاجه زعلته من المحل؟ إحنا مستعدين نصالحه؟). ويأتي يوسف فينقل إليّ أقوال فوالي المحترم!! وقضيت على هذه الحال المدة من أبريل إلى أغسطس سنة 1933 ثم وصلتني برقية من أميل خوري تحمل تحويلًا بمبلغ خمسين جنيهًا ويطلب مني أن أوافيه باريس لتصوير الفيلم. فقمت على عجل بعد أن طلبت إلى زميلي بديع أن يعد نفسه للحاق بي حين أرسل برقية باستدعائه، وكنت أفكر في أثناء سفري في نحسي المستمر..... ووصلت باريس وقوبلت بالحفاوة اللازمة، وماهي إلا يومين تلاته وبدأت أفهم الفولة!! وإيه هي الفولة؟ هي أن عم خوري أخذ المقاولة من شركة جومون لحسابه هو وجاء يقنعني بقبول الاشتراك معه بنسبة الثلث، ثم قدم لي سيناريو من وضعه هو وذكر أنه مُشرِف لمصر وأنه سينال نجاحًا لا نظير له.. وأنه.. وأنه.. إلى آخر الأنهات اللي في الدنيا. اطلعت على السيناريو فوجدت أنه لا بأس به إذا تُركت لنا الحرية في وضع الحوار الذي يدور بين ممثليه، وفي الحال أرسلت في طلب بديع.. ولكن قبل أن يصل الزميل تقدم إليّ أميل وأعطاني نسخة من حوار وضعه باللغة الفرنسية وطلب إليّ ترجمته إلى العربية بحيث لا نخرج عنه قيد أنملة. فلما قرأته وجدت أنه لا يصلح بتاتًا وخاصة لجمهوري الذي عرفته وعرفني. فحاولت أن أقنع الشريك «المخالف» بأن هذا الحوار في مقدوره أن يُسقط بدل الفيلم الواحد فيلمين أو ثلاثة، ولكنه أصرّ ولم يصغ لأي اعتراض. فصممت إزاء هذه الصلابة على التوقف عن العمل والعودة إلى الوطن. فظل بديع يهدئ من ثورتي ويعمل على إقناعي بأن عودتي خاوي الوفاض إلى مصر ستطلق ألسنة الناس بالإشاعات والأقوال، وستدع لخصومي فرصة النيل مني، وستكون النتيجة كيت وكيت. وخيّشت هذه النصائح في مُخي وزادها ثباتًا أن جيبي كان فارغًا حتى من ثمن تذكرة العودة، فقلت في نفسي صهين يا واد يا نجيب وأَهو فيلم ويفوت ما حد يموت، ولنشكه في اللّستَة السودة وننتظر الفرح من عند ربنا والسلام. وبدأ عملنا في الفيلم – ونسيت أن أذكر لك بأننا اخترنا له اسم «ياقوت» – بدأنا في إخراجه بأستوديو «جومون» يوم الاثنين وانتهينا منه نهائيًا يوم السبت التالي، أي أننا كروتناه في ستة أيام!! شايف ياعم، ستة أيام يعني ولا أفلام «علي كاكا». وهناك أيام قد تمرّ على المخرج الحقيقي قبل أن ينتهي من تصوير منظر واحد.. فما بالك بفيلم كامل؟ أما الداعي لهذه «الكروتة» و«الطصلقة» فهو أن السيد خوري لم يكن يهمه إلا أن يضغط الميزانية.. بل قد يعصرها عصرًا لحد ما يكتم نفسها.. وقد كان. وبعد أسبوعين انتهت عملية المونتاج وجاء خوري ومن معه يجزلون لي التهنئة ويقسمون أنني.. فشر هاري بور وشارل بواييه ومش عارف مين ومين كمان.. فهززت رأسي وطمأنتهم بأن الفيلم - مع هذا وذاك - لن تقوم له قائمة ولن يلاقي أي حظ من النجاح ولما أشوف بقى رأيي ولا رأيكم يا بتوع هاري بور وشارل بواييه! أما لماذا نظرت إليه هذه النظرة فذلك لأنني صادفت مخرجًا لا يفهمني ولا أفهمه وسيناريست عقله زي الحجر وممثلين.. سيدي ياسيدي جمعناهم من الحي اللاتيني ومن جميع الملل والنحل، فمثلًا احتجنا لشخص يقوم بدور أستاذ يلبس العمة والقفطان فلم نجد من نسند إليه الدور إلا شخصًا فرنسيًا لا يعرف من العربية حتى اسمها.. وقس على ذلك بقية الأدوار الهامة وغير الهامة. أي أن صيغة منتهى الجموع بتاعة قلة البخت قد تفضلت بمرافقتي في ذلك الفيلم من بدايته إلى نهايته.. ما علينا والسلام. نقول إن نجاح هذا الفيلم بعد عرضه كان نسبيًا لأنه كما قلت: لم يكن شعبيًا وقد اقتنع ممول الفيلم بصحة ما ذهبت إليه ولكن بعد إيه.. بعد خراب مالطة.
هذا ما قاله الريحاني في مذكراته عام 1937، التي تتناقض مع خطابه المنشور عام 1934!! والغريب أن «بديع خيري» عندما قدّم لمذكرات الريحاني المنشورة في الهلال عام 1959 قال عن هذا الفيلم: «لقد عاش الريحاني ليرى تكريم فنه والاعتراف به، فحين دعت شركة «جومون» الفرنسية عددًا من كبار الممثلين والممثلات، وكان من بينهم الممثلان العملاقان «رايمو وفيكتور بوشيه»، ليشهدوا تمثيله أثناء إخراج فيلم «ياقوت» بباريس، بلغ من إعجابهم به أن طلبوا إليه دعوة فرقته لتقديم حفلات في المدن الفرنسية، كلون من ألوان الفن الشرقي، بل وتعهدوا بالإشراف على هذه الحفلات»!
عزيزي قارئ هذه المقالات.. لا تتعجب من هذا الموقف وهذا التناقض، لأنك ستتعجب كثيرًا مما ستقرأه من مواقف وتناقضات في المقالات القادمة!!


سيد علي إسماعيل