استدعاء ولي أمر.. غواية الحب وجحيم الانتظار

استدعاء ولي أمر.. غواية الحب وجحيم الانتظار

العدد 789 صدر بتاريخ 10أكتوبر2022

يشهد المسرح المصري الآن تجربة شابة ساحرة تثير التساؤلات حول ذلك الميلاد العبقري الصاخب لجيل جديد من شباب المسرحيين يمتلك الوعي والدهشة والمعرفة وشراسة الجمال، تلك الرؤى التي تضعنا في مواجهة ساخنة مع وجود مستحيل، يستلب الروح والمعنى وحرارة الجسد، وكان اندفاع تيارات الجدل هو لحظة فارقة في ليلة غامضة شهدت ميلاد الثورة وأحلام الحرية والتغيير . 
هذه التجربة من إنتاج مركز الهناجر للفنون، الذي يديره الفنان المثقف شادي سرور صاحب الإدراك المتوهج لطبيعة فلسفة المركز في استيعاب الطاقات الشابة، التي امتلكت فرصة الحضور في قلب الواقع الفني المصري عبر حالة مسرحية مغايرة، تنطلق من الأسرة إلى المجتمع  إلى الواقع الإنساني الممزق، ورغم أن الصراع الأساسي يدور حول جريمة قتل وهمية، إلا أن جماليات الحالة المسرحية لا تضعنا في مواجهة مباشرة مع جريمة أخلاقية، لكنها تمتد بقوة لتدين عذابات القهر والتسلط، وتحاكم هؤلاء الذين صلبوا الإنسان على جدران الغياب والاستلاب . 
مؤلف المسرحية هو الكاتب الشاب محمد السوري، الذي قدم نصا خلابا يدور على المستوى الظاهري في عالم تصوري، اتضحت ملامحه على المستوى الأعمق عبر البناء المباشر للشخصيات والحوار وفلسفة البحث عن الحياة، الكتابة جاءت حداثية ترتبط نقديا وجماليا بفكرة سقوط المرجعيات وانهيار المركز، وهي تتميز بالتنوع والثراء، تتكسر فيها مفاهيم التتابع الزمني للحدوتة والحوار والأحداث، فتغيب الأطر، ونلمس إيقاعات جمالية شرسة  يبعثها تفجير المعاني الأحادية للمشهد وتحويلها إلى موجات من التكوينات الجدلية المشاغبة بصريا وفكريا ودلاليا، تعلن العصيان على هيمنة السكون، وتتجه نحو التفاعل العقلي، حيث تتمزق ملامح الحس المأساوي، وتنطلق الرؤى المشاغبة المشحونة بلغة المفارقة والسخرية والجروتسك . 
كانت المسرحية مختلفة في طرح تساؤلاتها، وبارعة في الأسلوب الذي وضعت به الشخصيات في مواجهة مع الاختيار الصعب، حيث القيم الإنسانية هشة وضعيفة، والعالم من حولنا غابت عنه إيقاعات الحس بالمأساة، وأصبح ذلك الغياب مفجرا لشراسة الوجود بكل ما يحمله من خلل وتشوهات وتناقضات، بين نظام كائن ومعايير نظام غائب يدفع الإنسان إلى السقوط في هاوية عذاب وحشي .
مخرج المسرحية هو الفنان الشاب العبقري زياد هاني، صاحب الرؤى الخلاقة والبصمات الخلابة، بعث حالة مسرحية تموج بالسحر والوهج والحياة، خشبة المسرح تبدو في أبهى صورها، الحوار الرشيق يتضافر مع الضوء وخطوط الحركة اللاهثة، صور المشاهد المسرحية ترتكز على مفهوم التقطيع السينمائي، خشبة المسرح تبدو في أبهى صورها، تموج بالمواجهات والتقاطعات، بالواقع والخيال والجموح والجنون، بالأضواء والظلال، والحركة والإبداع، الضوء الدرامي يشكل أبعاد الزمان والمكان، وتيارات الشعور تمتزج مع تقاطعات الوعي واندفاعات الأعماق، وتصبح لعبة الفن المدهشة هي المسار إلى العزف الشرس على أوتار المجتمع والعلاقات وجموح التسلط والطغيان . 
يظل الضوء يتضافر مع الحركة والأداء ليكشف عذابات اغتراب الابن الشاب وعبثية وجوده العقيم، خصوصية أداؤه التمثيلي تكشف عن موهبته الخصبة وحضوره اللافت، القهر يحاصره في البيت والمدرسة، في الشارع وعيادة الطبيب، وفي علاقته بالجميلة التي أحبها، مدير المدرسة هو صورة من أبيه المتسلط، والفتى نفسه يشبه أباه بشكل أو بآخر، هو يحبه ويكرهه، لم يكن هو الأب الذي تمناه، ولم يكن الفتى هو الابن الذي تمناه الأب، ويبقى يحيي رءوف هو النموذج الخلاب للابن المقهور، الذي اندفع بخياله إلى قتل أمه وأبيه، لعله يمتلك حريته المغتالة ويتخلص من تناقضاته، التي تبلورت في تسلطه الآثم على أخته الشابة، كما يفعل أبوه بالضبط . 
تمتد اللحظات الساخنة لتكشف أننا أمام مخرج فنان يمتلك الوعي والمعرفة، يقيض على جمرات الفن النارية ليبعث تيارات من الجمال، جواب استدعاء ولي الأمر هو النقطة الفاصلة  فجرت الأبعاد والأعماق، وهو نداء إلى من يهمه الأمر لإنقاذ الأجيال الطالعة من السقوط الأبدي، وفي هذا السياق يأتي التشكيل الجمالي لشخصية المتشرد، الذي نراه على يسار المسرح يعيش في الشارع عند محطة الأوتوبيس--، يأتي كحالة إبداعية رفيعة المستوى تعزف على أوتار مأساة الابن وتؤكد ملامح العبث المخيف في وجوده ووجودنا، الفنان أدهم هاني كان مبهرا في أداء هذا الدور، ينتظر الأوتوبيس الذي لن يأتي أبدا، مثلما ينتظر يحيي الأمان، نراه يصل إلى بيته ليأخذ حقيبته ويمضي، ليبقى ظله الممتد . 
شارك في المسرحية مجموعة من النجوم الشابة الواعدة، مصطفى سعيد، مصطفي رأفت،  نانسي نبيل، بتول عماد، لمياء الخولي  أدهم هاني، ميسرة ناصر وغيرهم 
كان الديكور لهبة الكومي، والإضاءة لإبراهيم الفرن، والملابس لهاجر كمال . 


وفاء كمالو