طقوس الإشارات والتحولات فى الصعيد

طقوس الإشارات والتحولات فى الصعيد

العدد 587 صدر بتاريخ 26نوفمبر2018

كان تحديًا كبيرًا من قِبل فرقة (تفانين) المسرحية بأسيوط أن تُقدِم على عرض ريبرتوار حديث للمسرحيّة الإشكالية التي تُرجِمَتْ للفرنسية، وعُرضت من قبل على مسرح الكوميدي فرانسيز أشهر مسارح باريس (طقوس الإشارات والتحولات) للكاتب المسرحي السوري سعدالله ونوس، ذلك العرض الذي أعاد المخرج المتميز (أحمد الشريف) تشكيله وخلقه برؤية مثيرة للشغف، وصياغة خاصة استحقت أن تحصد للفرقة المركز (الأول) في مسابقة مهرجان الصعيد المسرحي للفرق الحرة - إبداع يتحدى الواقع - الذي نظمته جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين الثقافية على المسرح الكبير لقصر ثقافة أسيوط، وأقيم في الفترة من 4 - 6 أكتوبر، وافتتحه د. أحمد عواض رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة، وحضره أكثر من أربعين خبيرًا وكاتبًا وناقدًا ومسرحيًا بالإضافة إلى سبع فرق مسرحية متنافسة.
تقول (الحكاية) إن خلافًا نشب بين المفتي ونقيب الأشراف في فترة الحكم العثماني، إلا أن المفتي تجاوز مشكلاته الشخصية مع النقيب وتدخل لمساعدته بعد أن أمسك به قائد الدرك في وضع مخل بالآداب مع خليلة له.
في المسرحية يستغل المفتي الكارثة ليتخلّص من نقيب الأشراف وقائد الدرك بضربة واحدة، فتعاطفه مع النقيب كفيل بكسبه تأييدًا جماهيريًا كبيرًا كونه ترفّع عن الخلافات الشخصية، واتهامه لقائد الدرك بفبركة الحادثة التي ضبط فيها نقيب الأشراف وخليلته كفيل بعزله من منصبه، لكن ما لا يعلمه عامة الناس أن المفتي يقف وراء كل حدث.
بناءً على الحدث الرئيسي تبدأ مصائر الشخصيات بالتغير بشكل مخيف ومفاجئ، فمن كان مؤمنًا تقيًّا يغرق في اللهو والرذيلة، ومن كان بغيضًا عديم الخلق تعصف به المصائب حتى يلين قلبه فيصبح درويشًا زاهدًا متعلّقًا بحبال الله.
بعد أن سيّر النص الذي عالج موضوع الجسد بصفته طاقة عاتية جائرة شخصياته القلقة على درب تحولات الجسد تعالقًا مع ما يعتريها من تغيّرات نفسيّة واجتماعية، وبناء على ذلك فلم يهتم بتوصيف سمات الشخصيّات؛ فشخصية المفتي عالجها عن طريق فعل صاحبها، كما لم يهتم بسلوكه اليومي والحياتيّ، بل قدّمه شخصًا مؤذيًا؛ همّه هو الإيقاع بشخص نقيب الأشراف الماجن نتيجة نزعاته العدوانيّة منه، وتمكّن من تحويله إلى درويش يتسكع أمام الجوامع، حينما استجاب لتحوّلات جسده، وأخضعه في غياهب اللذة الجسديّة وزوابعها الحسّيّة منتقلاً إلى القطب الآخر للذات الإنسانية، وهو الدخول في تجربة الصوفيّة.
الإشارات والتحولات هنا لها أكثر من مسلك، فالظاهر لا يُنبئ دوما بالحقيقة. يعيث المفتي في الأرض فسادًا يظهر للجميع كظل الله في أرضه، بينما يكمن الجحيم في باطنه، يحيك الخدع، يدبر المكائد، يساوم الجميع، يحدثهم عن الآخرة بينما هو أبعد الناس عن الله، تأبى نفسه أن تقيم صلاة يعلم جيدًا أن فارضها لن يتقبلها من فؤاد فاسد ويظهر ذلك في تضرعه اليائس بالقبول. حين ألقى بغريمه في السجن سعى للفوز بزوجته «مؤمنة»، تلك الفتاة التي عاشت وهما كبيرا لأب كان شبيها بالمفتي؛ يناديه الناس بكبيرهم وبيته مكتظ بالفسق، يطلبه الناس لإقامة عماد الدين وغرفه ملأه بصبايا أوقعهن في الرذيلة.
حلمت «مؤمنة» دومًا أن تتحرر من صور النفاق، ألا تبقى طويلا تحت صورة مزيفة لأنثى تدعي الحشمة. أقسمت أن تصير أكثر شفافية، أن ينطق ظاهرها بما يحويه القلب لا بما يُرضي الناس. تيقنت أن ثورتها ستحملها عواقب وخيمة لكنها قبلتها بصدر رحب. حتى الشخصية التي تؤدي دور «المثلي» فضل أن يُظهر للناس حقيقته على أن يدعي الفضيلة التي يصدرها أوغاد ضلعوا في الشر.
بدا المخرج (أحمد الشريف) واعيًا بالنص وبكامل تفاصيله، فاهمًا بعمق المسرح الملحمي البريختي، كما بدا الممثلون ملتزمون كليًا بتعليمات المخرج من خلال الالتزام التام بالأداء الخارجي الذي فرضه هذا الأسلوب الذي يتعامل مع فن المسرح باعتباره أداة لتحليل الواقع ونشر الفكر، مستهدفًا تحويل المنصة المسرحية إلى منبر للحوار وليس منصة للأوهام؛ الأمر الذي يكشف عن أنه عرض يمزج بين وظيفتين للمسرح، هما (التوجيه) و(المتعة الفكرية)، فقد حفظ كل ممثل دوره عن غيب ثم أخذ يردده ببساطة وعندما تنقلب الأمور وتبدأ التحولات ويتحرك الظاهر ليصبح باطنًا، والباطن ظاهرًا، وتظهر الذات الداخلية بكل شفافية، يرتقي إحساس الممثل ويظهر الأداء وجدانيًا ثم في لحظة ما قد تثبت اللقطة ويخرج الممثل الأنا من الشخصية، ويتوجه إلى الجمهور أو ينزل ليسير بينهم كاسرًا الإيهام مؤكدًا على المسرحة.
تميز الممثلون بالإجمال بقدرة رائعة على الدخول إلى الشخصية والخروج منها وامتلاك الأدوات بمهارة، وإن بدا مشهد تحول مؤمنة إلى الماسة الغانية مشهدًا مدروسًا بكل شيء، أداء، وحركة، وإضاءة، ودلالات وأضاف حالة كرنفالية ضمن العرض، كما كان اختيار المخرج للرقص الشرقي، والموسيقى، والأغنيات موفقًا.
تنوع الحوار فكان إما منولوجًا ذاتيًا، أو هاتفًا خفيًا، أو وسوسات الغواية المتجسدة في (الحية)، وانحصرت عيوب العرض الذي كُتب باللغة العربية الفصحى في بعض الأخطاء النحوية، وهنات الالقاء والتفاوت غير الملائم في طبقات الصوت، فضلاً عن قصور طفيف في وظائف إضاءة التركيز، والانتقال البؤري، وأجهزة الصوت.
وقد أكدت عناصر (السينوغرافيا) بصفة عامة على حالة الطقس التي اعتمدها المخرج، بداية من جمع أماكن العرض على الخشبة دفعة واحدة، في صورة قطع من الديكور تتسم بالواقعية لأنها تبلور العلاقة بين الإنسان والواقع كالعرش الذي يمثل (علاقة المفتي بالسلطة)، تكئة غرفة نوم نقيب الأشراف، وملتقى عفصة بعباس، ومكان (الماسة)، (القضبان المعلقة) التي توفر مساحة السجن عند اللزوم وبارتفاعها تعبر عن التحرر أو الخروج منه، مدخل كبير على شكل بوابة قصر، جوانب من الأرابيسك الشفيف لتفعيل الظلال، أما عن طراز (الملابس) فقد كان طرازًا عربيًا متناغمًا مع الملابس العربية القديمة، استخدم في حياكته (الحرير لطبقة الصفوة، والجلود للجنود، والملابس الشفيفة للمثليين، والملونة للنساء)، وطرازًا آخر رمزيًا ارتدته الشخصية التي تجسد (الغواية) التي وضعت على كتفيها الحية وظهرت في أول العرض ممسكة بالتفاحة الشهيرة، ظهر المفتي يعتمر (عمامة) كبيرة مبالغ فيها كرمز لتحكم السلطة الدينية، أما عن الألوان فقد كان الرداء الأحمر لـ(وردة) الغانية، والأسود للغواية، والجلود لحراس الدرك، الرداء الفضفاض وغطاء الرأس الطويل لمؤمنة، الذي سيتحول إلى رداء يشبه رداء (وردة)، السلاسل والأردية الشفيفة وطلاء الأظافر للشخصيات المتحولة جنسيًا، الرداء الخشن للمتصوف.
أما عن عنصر(الإضاءة) فقد انقسم إلى إضاءة عامة للمكان، وإضاءة أخرى تعتمد على التركيز، والانتقال البؤري لتحقيق الانتقالات المكانية. ودعمت الإضاءة الخضراء، والحمراء البعد الدلالي للأماكن.
ولأن الحكاية تعرض حدثًا جرى في الماضي فإن بنية العرض الملحمية القائمة على السرد اعتمدت شكل التقطيع إلى لوحات، كل لوحة تشكل موقفًا ضمن فترة زمنية تبين جانب من التحول في الشخصية، وتبرز فلسفة المسرحية على لسان الشخصيات بكل امتداد زمني أو بكل مرحلة من مراحل التحول، فنقيب الأشراف يطلق زوجته ويعتبرها إشارة، ويسعى للطلاق الأعظم، ثم ها هو العفصة يعلن عن مثليته وعن ندمه على إعلانها للملأ بقوله: «ما أغرب هذه الدنيا.. إن كتمت وأخفيت.. عشت وتكرمت.. وإن صدقت وكشفت، نبذوك وأخرجوك منهم..». أما (الماسة) فتعتبر السقوط تحررا. خروجا من قيود العورة، وخروجا من النفاق بكل أشكاله.
اللمسة السحرية في المسرحية تظهر في نهاية العرض حين تلتقي مختلف الطرق المتعاكسة تمامًا في مشهد تمثيلي لتعبر عن الهدف الواحد للجميع، إذ يؤكد العرض على أن للحقيقة والسلام طرقًا كثيرة بل ومتباينة كل التباين، وأن لكل إنسان جوهرًا ساميًا لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال التجربة.


إيمان الزيات