في القومي للمسرح منتخب كنائس القاهرة يدين العلاقات الخطرة

في القومي للمسرح  منتخب كنائس القاهرة يدين العلاقات الخطرة

العدد 780 صدر بتاريخ 8أغسطس2022

شهد المهرجان القومي للمسرح المصري حضورا متميزا لمنظمات المجتمع المدني، تبلور في مشاركة منتخب كنائس القاهرة بالعرض الخلاب علاقات خطرة، الذي انطلق من اليقين بأن المسرح هو الوعي والحرية والممارسة الفعلية للرفض والقبول، هو الفن الذي نرى فيه وجودنا وأعماقنا وقضايا واقعنا - -، الواقع الذي يمكن تغييره وليس مجرد طرحه وتفسيره، وفي هذا السياق جاءت المسرحية كحالة فنية مبهرة صاخبة، أثارت إعجاب لجنة التحكيم، التي منحتها شهادة تقدير خاصة . 
مخرج المسرحية ومؤلفها هو الفنان مايكل مجدي  صاحب الوعي الفكري المثير للتساؤلات، يبحث دائما عن الحرية والمعنى والإنسان، قدم عرضا مغايرا يدين وقائع القهر والاستلاب، تحول إلى مفارقة جمالية ساخنة تستدعي انكسارات واقعنا في مجتمع فقد وعيه، لنصبح أمام لحظة مثيرة تموج بالوعي والإرادة والأحلام، فقد جاءت الرسائل والخطابات التي تطرحها المسرحية مسكونة بالتساؤلات الحرجة، التي تحكم وجود الرجال والنساء، الآباء والأمهات والأبناء والبنات، لتكون الأسرة المصرية العربية في قلب محاولات الخروج من مأزق الردة المخيف .  
كتب المؤلف مايكل مجدي مجموعة من المشاهد المتوالية، تبدو على المستوى الظاهري منفصلة، لكن المستوى الجمالي الأعمق يكشف اتصالها الوثيق، باعتبارها حالة مسرحية تطرح مأساة الخلل والغياب عبر إنتاج أجيال مشوهة الأعماق، دون وعي من الآباء والأمهات حين يختزلون مساحات الحرية والحياة، يقهرون الروح والجسد، لتمتد نماذج التسلط والرضوخ والقولبة والنمطية والجمود، لتضعنا ببساطة أمام  أنفسنا وأمام قضايانا الساخنة، وفي هذا السياق كان المؤلف شديد الإدراك لدقة وأهمية وخطورة هذه التجربة، وضرورة ارتكازها على المفاهيم العلمية، لذلك اتجه إلى واحد من الكتب المتميزة في علم النفس، للدكتور محمد طه الذي استطاع أن يصل إلى نسبة عريضة من القراء، حيث الطرح العلمي المبسط لإشكاليات الأسرة وتفسير أبعادها النفسية، متناولا الأساليب التربوية الخاطئة، التي تمثل ميراثا ثقيلا يمتد عبر الزمن، يدفع الآباء والأمهات إلى تدمير الأبناء، دون إدراك للجرائم النفسية التي ترتكب دون معرفة بأصولها وجذورها ونتائجها، ويذكر أن هذا الكتاب جاء بعنوان «علاقات خطرة «، وهو نفس العنوان الذي اختاره المؤلف للمسرحية، التي اشتبكت بحرارة مع أخطر قضايا واقعنا الآن، ويذكر أن اتجاه المؤلف لهذا المنظور العلمي يمثل إضافة شديدة الثراء للنص الخلاب، الذي اتجه إلى آفاق إبداعية مغايرة مسكونة بروح الفن والعلم والثقافة وإيقاعات البحث عن الحياة . 
أصبح المتلقي أمام تيار فني شديد الوهج يتميز بالحرارة والجرأة والصدق والبساطة، التوافق الدلالي بين اسم المسرحية واسم المرجع العلمي،  يتحول إلى مفارقة مدهشة فتحت المسارات الفنية لمناقشة كل المحظورات والممنوعات، و قيود التابوهات، والاشتباك مع السياسة والاقتصاد والمجتمع، لتعلن العصيان على القهر والتسلط والاستبداد، بعد أن وضعت عذابات الآباء والأمهات والأبناء في الزاوية الحرجة، لتنطلق الرؤى الرافضة التي منحها الفن ولغة المسرح وتقنياته، إمكانات هائلة للكشف والبوح والمساءلة . 
استطاع المؤلف والمخرج مايكل مجدي أن يقبض على فكرة ذهبية شديدة الحرارة، حولت البناء الدرامي، الذي يبدو بسيطا مألوفا متكررا -، حولته إلى استعارة غزيرة الإيحاء تكشف عن المعنى المأساوي لحياة الإنسان في المجتمعات الشرقية المحكومة بالمنظور الأبوي المتسلط، لامسنا في الحوار ارتكازا على الترابط الشعوري اللامنطقي، وشعرنا بالمزج بين الديالوج والمونولوجات الداخلية، الأبعاد الرمزية تحول المكان الواقعي إلى استعارة مكانية واسعة تشتبك مع الكبت والقيد والتناقضات، وهكذا تذوب الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر، الواقع والخيال  والحياة والموت المعنوي القاسي . 
تأخذنا اللحظات الأولى إلى حالة طقسية تراثية تسكن أعماق اللاشعور الجمعي، حيث الاحتفال الأول بميلاد الطفل في طقس السبوع - -، الجمل التي نعرفها بوضوح تتردد بأسلوب فني غنائي مبهر، الدقات تعانق الإيقاعات العالية، التي تبعثها جوقة كبيرة تجمع الأمهات والآباء والأطفال، الأصوات تتداخل بقوة و تتردد بيقين عارم لتقول - - اسمع كلام أمك، اسمع كلام أبوك، بينما الفلسفة الأعمق للدلالة ترسم ملامح القهر المبدئي للإنسان، الذي نزرع في أعماقه أصول الرضوخ والاستبداد ومواثيق الطاعة المطلقة لأوامر البيت والمدرسة والمجتمع والتقاليد، ويظل هذا الطقس البريء العنيف المراوغ هو الخط الدرامي الأساسي للعرض، وهو الأكثر قوة وحضورا عبر المشاهد المتوالية الكاشفة عن أساليب الخلل التربوي، والتي تأتي بأسلوب علمي ونفسي غزير الجمال لتفسر أسرار عنف الرجال وشراستهم، وظلم النساء واستلابهم واستسلامهم لغياب المعنى والحرية والحب والجمال . 
جاء منظور الإخراج ليكشف عن طبيعة الرؤية الجمالية للمخرج مايكل مجدي،  الذي يتبنى رؤى حية عميقة الأبعاد غزيرة الدلالات، المشاهد تتوالى عبر تقاطعات الضوء والإظلام و وتأتي في سياق مركب يربط بين طبيعة الأداء التمثيلي والسينوغرافيا والكوريوجرافيا، التشكيل الجمالي يتجه إلى الرمزية، التي حولت المكان إلى قصائد من القيود، الحبال القوية تتداخل وتتشابك، والخيوط المتقاطعة ترسم ملامح المأزق الإنساني القادم، صور الآباء والأمهات الغائمة تبدو ضبابية بلا ملامح واضحة، الأطر الباهتة تبعث مفاهيم امتداد الدلالات، الموتيفات الصغيرة تتحرك برشاقة عبر المشاهد المختلفة، شباب فريق العمل يلعبون ببراعة فائقة أكثر من شخصية، والحالة الجمالية بوجه عام تؤكد أن المخرج يمتلك البصمات الفريدة والجماليات المغايرة، فقد أهدى الجمهور عملا بسيطا عميقا رفيع المستوى يدور عبر منظومة فنية مدهشة، تحولت فيها النفس الإنسانية إلى مسرح تدور عليه أحداث مختلفة تتوازى وتتقاطع وتتشابك، تأتي من الماضي ومن العلاقات المجهضة بين الشخصيات، ومن المحاولات البائسة للتواصل وامتلاك الذات، ويذكر أن توظيف المخرج للأقنعة كان شديد الذكاء، يحمل في أعماقه دعوة ثائرة لنزع كل أقنعة الزيف وامتلاك الوجه القادر على مواجهة الحياة، بعيدا عن تعقيدات التربية الخاطئة، التي طرحها العرض بأسلوب مثير اخترق أعماق المتلقي، وسوف يدفعه إلى واقع جديد يبحث فيه عن وجود أكثر قوة وحضورا وجمالا ويقينا . 
تنتهي مسرحية العلاقات الخطرة، التي شارك فيها فريق عمل من الشباب المتميزين، يمتلكون الموهبة والخصب والخيال والأداء الخلاب الجميل، وهم جورج أشرف، روما عصام، يوسف جرجس، يوستينا رفعت، ريمون منير، نادية نبيل، جوزيف مجدي، ماري صمويل، مينا مجدي، كيرلس ناجي . 
كان الديكور لمارينا أكرم، وتأليف الموسيقى لرفيق جمال، والإضاءة لبكر الشريف . 


وفاء كمالو