غزو النص الدرامي: هيمنة المخرج

غزو النص الدرامي:   هيمنة المخرج

العدد 775 صدر بتاريخ 4يوليو2022

 سيظل القراء والمشاهدون للمسرح يتساءلون عما إذا كان للنصوص الدرامية حياة في ذاتها، أو عما إذا كان وجودها يعتمد علي الأداء من عدمه. وبطرح ذلك بمصطلحات مختلفة قليلا، ما هي تلك الحالات التي يمكن أن يرفض فيها جدث الأداء المسرحي التعامل مع البعد الأدبي للنص – المكتوب مسبقا – ويمكن أن يظل موجودا باعتباره أكثر من مجرد إحساس عابر ؟. وهل النص والأداء المسرحي مرتبطان في تعريفهما، أم أنهما يعملان باعتبارهما كيانين منفصلين. 
 ولعل أحد تداعيات تحرر المسرح مما أطلق عليه «استبداد الكاتب المسرحي» هو الإدراك بأن المسرح هو مكان التقاء عدة أشكال فنية وليس الابن غير الشرعي للأدب الدرامي. واليوم، هناك مخاوف متزايدة التعقيد تتعلق بمسألة تأليف النص وأخلاقيات الأداء المسرحي تتخلل ممارسات المخرج المؤلف Auteur، والدافع السائد في البحث المسرحي وهو الاستفسار عن مفهوم المعنى، ولاسيما الاستفسار عما إذا كان الكاتب المسرحي هو الذي يحدد المعنى مسبقا، أم أن المخرج والمؤدي هما اللذان يقدمانه أو يتخيلانه، أم أن المتفرج هو الذي يبنيه في النهاية. من الواضح أن هذا النقاش يسلط الضوء علي مكانة النص الدرامي باعتباره ببساطة من بين مكونات العرض المسرحي بجانب إعداد المشاهد والأزياء والموسيقى وتصميم الرقصات. والقضايا التي يتعين تسويتها هي خضوع النص الدرامي الميزانسين ككل، وحدود حرية الرؤية الإخراجية، وإعادة تعريف التفسير الإخراجي، أضف إلى ذلك مفاهيم الثقة في التأليف، والخوف المتبادل بين الكاتب المسرحي والمخرج من استسلام أحدهما للآخر، فضلا عن مصادفة الأداء الحي. والاهتمام موجه الآن إما إلى المعادلة بين تفسير رؤية الكاتب المسرحي وتوضيح قصده ونقله، وإعداد الميزانسين الذاتي له، أو التعارض معها، وباستخدام استعارة مختلفة، أعني تعايشهما أو صراعهما، من أجل تفوق النص اللفظي الأصلي للكاتب المسرحي أو تفوق نص المخرج الحسي (الشفهي والبصري). وفي الدراسات المسرحية الحديثة، تحول النقاش إلى تعريف « الاحترام والولاء « للنص الدرامي وفكرة التدخل الإخراجي كمحاولة لتحسين المسرحية الملائمة. وفي قاع النزاع حول اعتبارات تأليف المسرحية، دخلت أيضا المفاهيم الهشة، المتمثلة في المحاكاة، والتمثيل، والأداء المبتكر أو المرتجل، وحضور الممثل – بالإضافة إلى المعادلة الجوهرية للأدبي مع الأكاديمي والدرامي، مع غير الدرامي في الحوار حول مفهوم التأليف والإخراج auteurism. وقد تساءلت الفرصة الفريدة من أجل تجربة معاشة مشتركة بين الفنانين والمتفرجين، والتي حققت حدث العرض المسرحي من خلال المشاركة التآزرية بين العديد من الأشخاص الذين تم تنسيقهم في النهاية بوساطة أحدهم (وهو المخرج)، عن الافتراضات الأكثر شيوعا بأن المسرح هو التصوير المشهدي لقصد الكاتب الدرامي. 
 ومن بعد صامويل بيكيت، شكك الفنانون والجمهور في قدرة النص اللفظي علي التقاط تجريدات المعاني المتعددة التي تميز تجارب القرن الحادي والعشرين المفككة والمثيرة للقلق. وقد كان عدم الثقة محسوسا بالفعل في التجارب السيريالية المبكرة، ولغة الأحلام، ولغة اللاوعي، واستخدام الكتابة التلقائية، كما تصورها أندريه بريتون “ إنها المفتاح الذي يفتح الأعماق المتعددة التي يتكون منها الإنسان”. وفقدان الثقة في قدرة الدراما علي التعبير عن الصراع المعاصر بقيادة آرثر ميللر في عم 1981 للرثاء من أجل هدم البناء في الشكل الدرامي بشكل مميز: «لا أعرف ما حدث، لقد اعتدنا دائما أن نضع المشكلة في الفصل الأول، ثم نجعلها تتعقد وتصل إلى الأزمة في الفصل الثاني». وتاريخيا، وضع المسرح الغربي تركيزه علي الحبكة، التي أشار أرسطو إلى أنها الشكل الأول للحدث الدرامي. واستمرت البنية الأرسطية الغائية والأخروية بطبيعتها التي استخدمتها المسرحيات الواقعية، في توفير الراحة للمشاهدين من خلال استمرارية الإيهام بالنظام في عالم يفتقر إلى النظام. وربما تكون القدرة علي حبس النظام واحتوائه داخل النص يستلزم شكلا من أشكال تحكم المؤلف، ويضمن أن الكاتب المسرحي، الذي يتأكد من سرد القصة، يحتفظ بفهم كبير للتصميم الكلي للعمل المسرحي. 
 وفي الطرف الآخر من حيرة ميللر التنبؤية، يجادل ريتشارد فورمان في نشره عرضه المسرحي «لآليء للخنازير Pearls for Pigs» ضد جدوى السرد القصصي التتابعي. إذ يصف عملية فهم مسرحيته، إذ يقول انه «لا توجد قصة بالمعنى الطبيعي، ولكن هناك بالتأكيد حالة». أن بيانه يبرر سيولة البنية في الكتابة بعد الحداثية، التي تتخلى عن القوانين المقيدة لوحدة الحبكة والإعداد النفسي للشخصيات، والتي تعتبر كلاهما آليات قديمة لتكييف سلوك المتفرج. ويفسر فورمان ذلك بأن لا توجد قصة في مسرحياته لأن الباعث حر في تشتيت التطور التتابعي الطبيعي : 
 دائما ما ينتهي التطور السردي التتابعي في المسرح بخاتمة  تعـطي معنى – أخلاقي.... وهذا الـنوع من السـرد وهــذه الخاتمـة، هي في الواقـع طريقـة لتعزيز الشروط السلوكـية للمتفرجـين – شـروطا يوفرهـا العالـم الموجود «كما أننــا مشروطون بإدراكـه» من خـلال الواقـع المـادي والمجتمـع  والأنماط النفسية الموروثة.. الخ. 
في كتاب ليمان «المسرح بعد الدرامي»، يتم التقاط التساؤل حول التفوق البنيوي للنص الأدبي فيما يراه المؤلف علي أنه انقسام بين المسرح الدرامي والمسرح بعد الدرامي. وبالرغم من حقيقة أن ليمان يرى النص علي الأقل أنه تخيل لسرد مفهوم أو كلية ذهنية، وأوضح أن النص الدرامي هو تشكيل الإيهام، الذي ببناء عالم قصصي ليجعل كل المسرح يمثل عالما... مجردا ولكنه عالم مخصص لتخيل المتفرج وتعاطفه لمتابعة الإيهام وتكملته. ويزعم بالمثل أن الكمال والإيهام وتمثيل العالم متأصلون فيما يسميه الدراما النموذجية، وأن المسرح الدرامي، من خلال شكله، يدعي الكمال كنموذج للواقع. وعلي النقيض من ذلك، يتأمل التعريف ويوسع حداثة المسرح بعد الدرامي من كونه «مجرد نوع جديد من نص العرض (والتأكيد أصيل) إلى كونه يشكل في الواقع نوعا من «استخدام الدلالة» التي تعطل عموما مستويات العرض المسرحي المقبولة من خلال الترتيب العكسي لهذه العروض بفضل خاصية نص الأداء المتغيرة بنيويا. وفي المقابل، فان أحد المكونات الأساسية لما يسميه ليمان «المسرح بعد الدرامي» - الذي كان دائما مصدر القوة في أعمال المؤلف المخرج - هو إدراك طبيعة الأداء باعتباره حضورا أكثر من كونه تمثيل، ومشاركة أكثر من كونه تجربة تواصل، وعملية أكثر من كونه عرض، وذو باعث حيوي أكثر من كونه معلومات. ورغم ذلك، يجب أن نضع في أذهاننا أنه عندما يشير ليمان إلى المسرح الدرامي، فانه يميل إلى ربطه بالدراما النموذجية، وفهمه للواقعية الدرامية. ويمكن أن يؤدي هذا الاعتقاد الخاطئ إلى منحدر زلق خطير. لأغراض هذا التحليل، من المهم أن نتجنب السقوط في فخ معادلة كل المسرح الدرامي بالمسرحيات المبنية بشكل واقعي، لأن هناك أمثلة عديدة لكتاب المسرح الذين تعرض نصوصهم الدرامية واللفظية في الغالب بنية مجزأة، ورفض لأشكال إعداد الشخصيات الراسخة والنفور من السرد السببي. وجاءت الطليعة المسرحية في الستينيات بالبيئة المادية وتجربة الجسم المعاش، وبالتالي تحدت فكرة التمثيل باستخدام المفهوم الفينومينولوجي للحضور. وعلي حد تعبير مايكل فاندين هيفيل : 
 في الوقت الذي تبرز فيه القيم التعددية المتمثلة في النبذ والتأجيل وانحراف المعنى إلى الاختلاف، لا يبـدو أن هناك الكثير مــن الصبر أو الرغبة في النصوص والأحداث المسرحية التي تميز صراحة أفعال التأليف والسلطة مثل التعريف والحكم والتفسـير وإبداع الحضور. 
ومع ذلك، فان الاختبار النهائي في كل الإبداع الفني هو تلقيه بواسطة الجمهور، وغالبا ما نتساءل عما إذا كان تحرير المعنى من تقاليد البنية التقليدية لم يسفر عن درجة من الاضطراب أيضا. إلى جانب حقيقة أن التوضيح، والحدث التصاعدي، والتطهير، هي أكثر إمتاعا للمشاهدين – تشمل حبات التشويق إن وجدت – ويمكن للبنية الأرسطية التي تقدم الوضوح والنظام والغائية أن ترضى أيضا إيمانا بشيء ما أكبر منا، لأنه يقر سرا بوجود وساطة الهية، وبهذه الطريقة ترضي أو تسقط خوفنا الوجودي مؤقتا. ولذلك، فان سؤال شيشنر للمؤلف الموسيقي الطليعي جون كيج هو سؤال سليم ومثير للاهتمام أيضا : «كيف تأخذ في اعتبارك حقيقة أن الناس بمجرد أن يصبحوا مشاهدين، يطالبون ببنية ويفرضونها حتى لو لم تكن موجودة؟. ومن المفارقات البنيات التسلسلية، مهما كانت مقيدة، فمن الممكن أن تظل مصدرا قويا لراحة الجمهور، لأن الاستسلام للسلطة الأساسية للكاتب الذي يمنح إحساسا بالأمان. في الواقع يستمر مسرح المخرج المؤلف ذي المغزى في مقاومة هذا، وفي كثير من الأحيان، الرضا غير النقدي، والتخلي عن الطبيعة الوهمية للأمان في عصر يتسم بالانشقاق والاضطراب والمفاجأة. 
 ولابد أن يقال، علاوة علي ذلك، أنه علي مدار اشراك المشاهد، ضم المخرج المؤلف وظيفته الثلاثية باعتباره قارئ، وكاتب للمشهد، وبالوكالة، المتفرج، وهي الوظائف التي يستطيع أن يقدمها في مقابل النص. وتُعرف آن أوبرسفيلد النص الدرامي بأنه «الفجوة Troue»، باعتباره شيئا يتضمن ثقوبا وفجوات، والتي سوف يتم ملؤها بواسطة الميزانسين. ومن منظور أكثر تطرفا، ترى ايريكا فيشر ليشت العلاقة بين النص والأداء المسرحي في إطار نموذج ثقافي من التضحية الطقسية، وتجادل بأن كل عرض مسرحي يأتي إلى الوجود من خلال عملية عرض نص، يؤدي تضحية طقسية... انها فقط تضحية النص الذي يسمح للأداء أن يوجد. في عام 1993، بشكل قاطع، وفي أوج ازدهار سلطة مخرجي المسرح، ميز بافيس ثلاث مستويات مختلفة للنص تتعايش وتتفاعل في كل حدث أداء: النص اللغوي the linguistic text، نص العرض the text of the staging (أو الميزانسين باختصار)، ونص الأداء performance text. وتتفاعل المادة اللغوية وبنية العرض علي خشبة المسرح مع الموقف المسرحي المفهوم بشكل شامل من خلال مفهوم نص الأداء. ويساعد تحليل بافيس النمطي للميزانسين علي توضيح وظيفته، ويشير المصطلح ببساطة إلى أكثر من مجرد تحقيق النص الدرامي؛ وبدلا من ذلك، يشير أحيانا إلى ممارسة جمالية للتعبير عن النص ونطقه من خلال خشبة المسرح، وبهذه الطريقة يؤسس نفسه كنقطة التقاء لتفسير النص وتحقيقه الفني. ويجادل بافيس بأن دور الميزانسين باعتباره تصويرا أمينا وملائما لنص الكاتب المسرحي قد أسيء فهمه وأسيء تفسيره، وأن تطبيقاته في أعمال مخرجي الطليعة قد حاربت من استقلال الميزانسين عن النص الدرامي، وجعل من نفسه نشاطا عمليا يتضمن التلقي من خلال الجمهور المدعو لأداء مهمة دلالية (سيميوطيقية) بقدر ما هو عرض لفريق مسرحي. ومن بين أوائل الذين وضعوا نظريات حول أنماط الميزانسين هو بافيس الذي صاغ تعريفه المثير للاهتمام : 
 إنشاء التعارض الديالكتيكي بين النص والعرض يأخذ شكل النطق المسرحي (للخطاب العالمي للميزانسين) وفقا لنص شارح metatext يكتبه المخرج وفريقه أو يتم دمجه، وهذا راسخ في النطق، وفي العمل الملموس للعـرض علي خشبة المسرح وتلقي المتفرجين. 
ولا شك أن تناول البنيويين للأدب ككل هو الذي عزز رؤية الميزانسين باعتباره نصا. ورجوعا إلى عام 1963، وفي دراسته “ الأدب والدلالة Literature and Signification “ يضع رولان بارث الأسس للاستكشاف الأكثر عمقا للعلاقة بين الكاتب والنص والقارئ. وقد تطورت نظريات بارث حول النص المفتوح open text، علي مدار عدة سنوات، من خلال المتخصصين في سيميوطيقا المسرح مثل كير ايلام، وآن أوبرسفيلد، وباتريس بافيس، وماركو دي مارينيس، ومارفن كارلسون، الذين يتفقون بطرق مختلفة، وبشكل لافت للنظر، علي أن عملية التفسير في المسرح تبلغ ذروتها عند النقطة التي تتلاقى فيها عمليات تصور النص من جانب المؤلف وتلقي الحدث المسرحي من جانب المشاهدين. ومن خلال هذا التقارب، تتم مشاركة نص الأداء – وهو الملكية الفريدة الزائلة، مع أنها حصرية، للممثلين والمخرج والكاتب – مع مجموعة من المتفرجين في زمان ومكان محددين. إذ يجب أن تتضح امتيازات للجمهور، ولاسيما في أداء المخرج المؤلف. وكما يجادل ايلام عام 1980، فان تفسير كل متفرج للنص هو في الواقع بناء جديد له وفقا للميول الثقافية والأيديولوجية للذات. 
 أن المتفرج هو الذي يصنع معنى الأداء لنفسه، وهي الحقيقة التي تختفي من خلال السلبية الواضحة للمتفرج. ورغم ذلك فان حكمــة المتفرج أو شذوذه في حل شفرة العرض، فان المسئولية النهائية عـن معنى ما يتــم بناؤه أو تماسكه هي مسئوليته. 
وفي مواجهة مسألة التفسير كعملية ابداعية وديموقراطية لا يسعنا إلا أن نتساءل عما إذا كان مجمل القراءة الفردية هي التي تعطي العمل الفني كليته. بمعنى آخر، هل يعتمد القصد التأليفي والرؤية الإخراجية علي إدراك المتفرج المفترض للأداء تحققه الكامل ؟. وبالمثل وهل يوضح تلقي المؤلف والمخرج المسبق للأداء مفهومهما للنص الدرامي وعرضه علي خشبة المسرح ؟ يمكن أن يبدو مثل هذا الافتراض، عند تعريفه، عبثيا وبلا هدف، وليس أقل من ذلك، لأنه، بغض النظر عن مدى أهمية مشاركة كل متفرج، فان التسلسل الهرمي للمعنى لا يزال يتحكم في نص المؤلف بشدة – سواء كان المؤلف هو الكاتب المسرحي أو المخرج. ومع ذلك، يتم تحريك العمل المسرحي بشكل فعال عندما يقرر المتفرجون الشروع في رحلة التفسير، وفك شفرات وجهات النظر العديدة التي يتيحها لهم النص من خلال عدسة خلفياتهم الجمالية / الاجتماعية / الأيديولوجية وتطبيق هذه المنظورات علي منتج يتضمن قواعده الخاصة. فالتفسير يزعم وجود السياق، أن لم يفترضه مسبقا. وقراءة المتفرج للعرض ليست أبدا مسألة قراءة أولية بريئة أو نقية، لأن نشأة الأداء نفسه بالضرورة هي نشأة تناصية، ويحمل آثار الأعمال الأخرى والاقتباس منها باستمرار في إطار الكتابة، وإعداد المشاهد، ومنهج التمثيل، أو الأسلوب الخاص للميزانسين. 
 ونظرا لأن المواجهات الاحتكاكية بين النص والأداء والمتفرج علي كل المستويات وفي مراحلها المتداخلة وهي عملية دينامية لا نهائية وشديدة التزامن، فان فك تشفير الحدث المسرحي هو بالتأكيد عمل من أعمال التأليف. ويرتبط تلاعب المخرج بالدلالة المسرحية بتلقي الجمهور للعرض مباشرة. وبسبب طبيعة الوسيط متعددة الأصوات، فان دلالة المسرح – الأكثر تعقيدا وتحديا من الدلالة الأدبية في الواقع – تجعل مهمة الجمهور المتمثلة في فك رموز العلامات المسرحية المعقدة خصوصا. ولاستغلال أكبر قدر من الميزانسين قدر الإمكان، يتمتع المخرجون بحرية كاملة في التلاعب بكل وسائل الاتصال التمازجات الخمسة (اللغوية والبصرية والشفهية والشمية واللمسية) بطرق تمازج غير قابلة للنفاذ. وفي إطار الديمقراطية المتزايدة لخشبة المسرح ومراجعة دلالات الميزانسين الجديد يمكنهم تحديد أولوياتهم بشكل مختلف، وفقا للخصوصية وعلم الجمال والاستجابة المقصودة لكل أداء. وبتعريف المسرح بأنه مجال سيميوطيقي خصب، ففي عام 1979حلل بارث كيف يتلقى المتفرجون، في كل نقطة من الأداء، عدة عناصر من معلومات خشبة المسرح، المستوحاة من إعداد المشاهد والملابس وتصميم الإضاءة، وترتيب المعماري للممثلين، علاوة علي الحركة والإضاءة وأسلوب التمثيل أو إلقاء الحوار : 
  تظل بعض العناصر ثابتة (ويصدق هذا علي إعداد المشاهد) بينما تتغير عناصر أخـرى (الكلام والايماءات)... وبالتالــي لدينا نسق معلومات متعدد الأصوات، والذي هو نسق مسرحي: وكثافة العلامات (وهذا بالتعارض مع الأدب باعتباره بدائي) ... المسرح يؤسس شيئا مميزا سيميوطيقيا، لأن نظامه أصيـل علي ما يـبدو (متعدد الأصـوات) بالمقارنـة إلى اللغـة (التي هي تتابعية). 
وإذا طبقنا هذه المبادئ على ممارسات المخرج المؤلف، فسوف نواجه مشكلة في تحديد استعداد المخرج المؤلف المرتبط بالعلامة : علي سبيل المثال كيف يمجد ويلسون التكوين التشكيلي، ويعلي مارزلر من الزمن وتدوين الصوت، بينما تركز لوكومت علي إبراز الإمكانيات البنيوية والضمينات التكنولوجية. وفي حالة أخرى، يعكس اهتمام بروك بجسم الممثل فهم وظيفته كوسيط فسيولوجي للتعبير الروحاني. بوضوح، من المستحيل عمليا أن نعايش آنيا تعدد علامات المسرح العاملة علي خشبة المسرح في وقت واحد. وبهذا المنظور، يمكن أن يكون مفيدا أن ننظر إلى الميزانسين باعتباره وسيلة نقل، ونسق يقربنا من فهم الكاتب المسرحي الأصيل للعالم القابل لإعداده في مشاهد، ولكنه يفعل ذلك من خلال الارتباطات التفسيرية، في الواقع، للتعامل معها علي أنها صيغة مؤطرة، وطريقة ومفتاح لقراءة العالم القصصي. ويشير تحليل بافيس إلى أن نص المخرجين الشارح metatext – وهو نتاج قراءتهم للنص وبالتالي صياغة الميزانسين لهذا النص الشارح/ القراءة – وهو الذي يميز الميزانسين. كل ما قيل، وللتطرق إلى نقطة سابقة في مناقشتنا، نظرا لأن نتيجة هذا الصدام بين المشهد وقراءته من قبل المتفرج هي كتابة/عرض لحدث الأداء – نص آخر – دائما ما يحتوي التفسير علي شيء سلس وغير محدد فيما يتعلق بذلك. وبغض النظر عن دور المفسرين النهائيين للأداء، وهم بالتعريف المتفرجين، الذين لا يتحكمون في النص ولا في تمثيله علي خشبة المسرح – وهي الحقيقة التي تتنازل عن سلطة اتخاذ القرار للممثلين، وفي النهاية للمخرجين. 
 ورجوعا إلى مفهوم الحرية، فإننا نحتاج أن نذكر أنفسنا أن هيمنة المخرج علي الدلالة تميل إلى الثبات، والتعمد، وغالبا تتعلق بالعقل. وربما لا يترك بعض المخرجين الشكليين مساحة، ولو صغيرة، للممثل، إذ يخنقه داخل إطار الدلالة المحكم. وعلي خطى بيكيت، فان ويلسون وبوجارت وفورمان وسوزوكي هم مجرد عدد قليل من المخرجين الذين يعشقون بشكل لا هوادة فيه الدلالات علي خشبة المسرح. ومع ذلك، كما هو معتاد في هذا النوع من الأعمال، يتعارض إتقان انضباط العلامات بمرارة مع بناء هويات الممثل السائلة الأداء غير المتوقع وكذلك النزعة قبل التعبيرية عند الجمهور، والتفسير غير الفكري والمتعة، وبالتالي الصراع بين العلامة والحدث، والتمثيل والحضور. ومع ذلك، يظل من الصعب دائما اكتشاف أي من هذه العلامات هي التي يقصدها المخرج بالفعل. فالأحداث المعروضة علي خشبة المسرح تتكامل بشكل متزايد داخل الحدث لكي تنشئ إيهاما بالفورية والحضور. ونحن كجمهور، لا يمكننا أن نعرف إذا كانت الفجوات الموجودة علي سطح العرض هي تدخلات غير مقصودة للعالم الخارجي أم هي مراوغات إخراجية مسبقة التوسيط ومتعمدة. وبنفس الطريقة، تجعل من الممارسة والتجربة قادرين علي تمييز ما إذا هذا هو الحضور الفعلي الحي للمؤدي الذي قطع تدفق العرض بشكل واع أو غير واع، أم علي العكس، هو تخيل للواقع من صنع المخرج. وهذا هو الاتجاه الخفي الذي يميز عروض المخرج والكاتب المسرحي البلجيكي وفنان الأداء البصري «جان فابر»: إذ من المعروف أن تضاء القاعة في منتصف العرض، ويحصل الممثلون علي راحة، ويبقون علي خشبة المسرح لمشاهدة الجمهور بعد المشهد المطلوب. وملا حظة ليمان بأن قطع الحقيقي يصبح موضوعا، وليس مجرد انعكاس (كما في المذهب الرومانتيكي) ولكنه الإعداد المسرحي الخاص نفسه. وفي التسعينيات، عندما بدأ يخبو تأثير رؤية الميزانسين باعتباره نشاطا دلاليا خالصا، وزاد التأكيد علي التناول الفينومينولوجي للأداء المسرحي، الذي تأثر بفلسفة ميرلو بونتي، والذي بدأ يبحث التجربة العاطفية والإدراكية التي تنتقل من الممثل إلى المتفرج. 
 اليوم، الرؤية السائدة في الأداء المسرحي هي رؤية الحدث المفتوح، اعتمادا علي زخم حضور العنصر الإنساني الدينامي (المؤدي)، ناقل الطوارئ واللعب والصدف، الذي سوف يديم مكانة غير المحددة. انه تلك الفوضى الإيجابية في جميع الاحتفالات الديونيسية التي احتفى بها أرتو في الثلاثينيات. وعلي النقيض من ذلك فان الميزانسين كنظام مفاهيمي مغلق الدلالة – أبوللوني في طقوس التلاعب بالإشارات التي يحددها وسيط واحد (وهو المخرج) – يناضل من أجل منع تدخل العناصر الخارجية، ولاسيما، الحضور المستقل للمؤدي. ومع ذلك، حتى في الميزانسين المعد بعناية، فسوف يؤكد الأداء الفعلي نفسه ثانية، ويطرح ظهوره الحتمي، نظرا لأن تفسير الميزانسين يخضع لما يسميه جاك دريدا «الانحراف»، وهو احتمال عدم وصول الإيماءة إلى غايتها. ويمكننا أن نفهم، لماذا طرح بافيس في 2007 نموذجا جديدا للممارسة المسرحية، مكثفا حديثه عن «إعداد الأداء mise en performance». ويمكن أن يُرى إعداد الأداء في جوهره بأنه مكان لقاء هجين وتفاعل حيوي بين مشهد يكره المخاطرة، يتحكم فيه المخرج، وميزانسين محدد دلاليا، وأداء ضعيف عار يتحكم فيه الممثل، مع أنه قادر علي استعادته. هذا التلاقي الضروري بين المكونين الأساسيين للحدث المسرحي، وتحديدا المخرج والممثل، يشير غالبا إلى عودة الطرف الثالث المخلوع وهو الكاتب المسرحي. ومن المؤكد أنه من المغري تصور المثل الأعلى، إذا كان الفراغ الافتراضي في المسرح، الذي سوف يؤسس الحوار بين المخرج والمؤدي علي نص ذو مغزى سواء كان نص للكاتب المسرحي أو المخرج المؤلف، وسواء كان حسيا أو لغويا، أدبيا أو تصويريا. 

.................................................................................
- هذه المقالة هي الفصل السادس من كتاب «تأليف الأداء المسرحي : المخرج في المسرح المعاصر» الصادر عن دار نشر Palgrave Macmillan عام 2011. 
- أفرا سيديروبولو تعمل أستاذا مساعدا للدراسات المسرحية في جامعة قبرص.. وتشغل حاليا منصب المدير الفني لفرقة مسرح الشخصيات في أثينا اليونان. 


ترجمة أحمد عبد الفتاح