يدعو لتجاوز واقعنا الأليم عرض الرمادى يجسد مأزقنا

  يدعو لتجاوز واقعنا الأليم عرض الرمادى يجسد مأزقنا

العدد 741 صدر بتاريخ 8نوفمبر2021

لا أعرف إن كان مقصودا اختيار المخرجة (عبير على) لنص 1984 للكاتب الإنجليزي الاشتراكي جورج أورويل أم هو محض صدفة؛ وإن كنت أشك فى الاحتمال الأخير ..
انحاز أورويل للعدالة الاجتماعية .. كان يمقت ويهاجم النظم الديكتاتورية الاستبدادية والمجتمعات التى تعيش تحت نيرها، ..وأطلق عليها تعبيرا لم يستخدمه أحد من قبله (دستوبيا) أي المجتمعات الفاسدة عكس يوتوبيا أفلاطون .
لا أعرف إن كان مقصودا اقتباس هذا النص الذى لا يُسقط أحداثه على مجتمعاتنا العربية ونظمها الاستبدادية فحسب بل يجسدها كما هى وكأن جورج أورويل الذى توفى عام 1950 يعيش بيننا ويصور حياتنا ..
المخرجة المبدعة (عبير على) أعدت عرضها المسرحى (الرمادى) وقدمته على خشبة الهناجر مختتمة به مهرجان المسرح القومى ..الصالة امتلأت عن أخرها ليس على المقاعد وحسب ولكن افترش الشباب الممرات ولم نجد موطئ قدم لنقف لمشاهدة العرض الذى ابهر المتلقين بنضج التناول وبمتابعة تسجيله لحياتنا .
كتب جورج أورويل النص منذ ما يقرب من سبعين عاما ، مصورا ما يحدث لنا الآن من قبل النظم الاستبدادية التى تلغى عقولنا وتغسل أدمغتنا؛ أو هكذا تريد أن تفعل لنا وبالفعل تنجح مع الأغلبية ومن يستعصى عليها مصيره القضبان والسجن الانفرادي ..  
بلغة مسرحية ثرية ودالة تصور المخرجة وثيقة حية لآليات الذهنية السلطوية المستبدة ليلمس المتلقى تلك الأيديولوجيا الساكنة فى أعماق الواقع الذى نعيشه بما يحمله من استلابات واختزالات ورؤى مزيفة وأحلام ضائعة .
تقع أحداث العرض فى مقاطعة أوشيانيا الكبرى في عالم لا تهدأ فيه الحرب والرقابة الحكومية والتلاعب بالجماهير. ترزح تلك المقاطعة تحت نير نظام استبدادي يدعو نفسه، زورًا، وتملك زمامه نخبة أعضاء الحزب الداخلي الذين يلاحقون الفردية والتفكير الحر بوصفها جرائم فكر، وتجعل من المواطنين حراسا على الفكر وجواسيسا على بعضهم البعض يفتشون فى الضمائر، ويشى الابن بأبيه .. يُجسَّد الأخ الكبير طغيان النظام، وهو قائد يحكم كزعيم لا يأتيه الحق من بين يديه ولا من خلفه.
يسعى الحزب للسلطة لا لشئ سوى لذاتها، لا لمصلحة الآخرين. أما بطل الرواية، وينستون سميث، فهو عضو في الحزب الخارجي وموظف في وزارة الحقيقة المسئولة عن الدعاية ومراجعة التاريخ؛ وعمله هو إعادة كتابة المقالات القديمة وتغيير الحقائق التاريخية بحيث تتفق مع ما يعلنه الحزب على الدوام. يتلقى الموظفون في وزارة الحقيقة تعليمات تحدد التصحيحات المطلوبة، وتصفها بالتعديلات عوضًا عن التزييفات والأكاذيب. كما يعكف جزء كبير من الوزارة على تدمير المستندات الأصلية التي لا تتضمن تلك التعديلات. وبذلك يذهب الدليل على كذب الحكومة أدراج الرياح. يجتهد (وينستون) في عمله ويؤديه على أكمل وجه، مع أنه يبغض الحزب سرًا ويحلم بإضرام ثورة.
ويكتشف حب زميلته جوليا التى تتفق مع أراءه ..يختلسان من الزمن ومن واقعهم القاتم لحظات يقضونها فى الحلم والآمال فى غد يختفى فيه هذا النظام الأحادى الاستبدادى، ويتقابلا مع (أوبراين) الرجل الناضج الذى يزعم  ويعترف  لهما أنه يحلم مثلهم بمقابلة جولدشتاين زعيم الحزب الخارجى الثورى المخلص المنتظر.. وحين يصدقاه يكشف لهما عن حقيقته بصفته أحد عناصر شرطة الفكر التى تقبض على كل من وينستون وجوليا وتحتجزهما في وزارة الحب (ملحوظة وزارة الحب هى المعتقل السلخانة التى يعذبون فيها المعارضين) اُعتقل للتحقيق .. يتعرض وينستون لتعذيب أليم كي “يشفى من جنونه” (يعنون كراهيته للحزب). يتبجح (أوبراين) بأن ما يدفع أعضاء الحزب الداخلي هي السلطة التامة والمطلقة، هازئًا من تبرير وينستون أنهم يسعون للمنفعة العامة ..
ومن ثم، يعترف وينستون بجرائم ارتكبها ولم يرتكبها، ويدين الجميع، بما فيهم جوليا، ولكن أوبراين لا يقتنع بتلك الاعترافات ويرسله إلى الغرفة 101، آخر مراحل إعادة تأهيله والغرفة الأكثر إثارة للذعر في وزارة الحب بأسرها؛ يخرج ونستون من سجنه معاقا ومحطما ومعترفا بإيمانه بالأخ الكبير والحزب إيمانا كاملا ويتقابل مع جوليا ويعترفان لبعضهما أن كل منهما خان الآخر تحت التعذيب .
وفى إطار سيميولوجي مبهج تختتم المخرجة (عبير على) العرض باستشراف للمستقبل وتحقيق حلم التخلص من النظام الاستبدادى ويتجسد هذا المنظور مسرحيا حين تندفع جموع الشعب وتخلع الزى الرمادى ..حيث يرقص الجميع ويغنون على أنغام مثيرة للبهجة بعيدة عن موسيقى النشيد الوطنى الوحيدة المسموح بسماعها. استطاعت المخرجة (عبير على) الإمساك بتلابيب وروح النص الذى يأتى فى سياقه التاريخى الآنى.
إنها دعوة لتغيير الواقع وتفكيك نظرية الانصياع التام للسلطة الأبوية حملتها رؤية درامية ثرية للمخرجة (عبير على) كشفت بها عن المأزق الذى نعيشه ليصل بالمتلقى إلي تلك الزاوية الحرجة التى يتم فيها التمرد على ما عو قائم لتجاوزه وتغييره .
استطاعت المخرجة تجسيد رؤيتها من خلال ديكور تجريدى بسيط ولكنه عميق التأثير والتعبير عن أحداث العرض؛ وجاء الأداء التمثيلى لكل الممثلين متوافقا مع شخصياتهم وفى حدود أدوارهم.
الموسيقى الحية أضفت روحا للعرض وكسرت إلي حد ما قتامة الأحداث .. أما الأغاني والأشعار فلم استطع التفاعل معها؛ وجاءت الملابس واختيار اللون تحديدا موظفة بشكل جيد وملاءمة لأحداث العرض. 
الشكر موصول لفرقة المسحراتية وكل أعضاءها الموهوبين بقيادة المبدعة عبير على الذين اثروا المسرح بإبداعاتهم وتحية خاصة لصناع عرض الرمادى وكل التحية لمدير مسرح الهناجر للفنون محمد دسوقى والفنان خالد جلال رئيس قطاع الإنتاج الثقافى لدعمه الفرق المستقلة الذى كان أحد أعضاءها فى بداية مشواره.
ملحوظة حول المقال:
لقد كتبت ملخص للنص وأنا أعرف أن هذا يعد نقيصة، ولكننى تعمدت هذا ليقرأه من لا يعرف النص ولم يشاهد العرض.


فاتن محمد علي