نحو فينومينولوجيا فقيرة.. بعض أوجه التشابه بين الفينومينولوجيا وفلسفة جروتوفسكي في المسرح (2-2)

نحو فينومينولوجيا فقيرة.. بعض أوجه التشابه بين الفينومينولوجيا وفلسفة جروتوفسكي في المسرح (2-2)

العدد 719 صدر بتاريخ 7يونيو2021

2 - إلي الأشياء نفسها : 
كلما قلت الحقيقة زاد الشوق إلي الأشياء. لا يمكننا أن نتحدث عن الحقيقة فحسب. في الواقع يجب علينا أن نفعل ذلك حتى لو كان الأمر فعل تأمل. وفي تصريحه الفينومينولوجي يقول هوسرل «بعيدا عن التحليلات الجوفاء! يجب أن نسأل الأشياء نفسها، بالرجوع إلي التجربة، والمشاهدة، اللتان يمكنهما وحدهما أن يمنحا كلماتنا معنى وتبرير منطقي ! «. هذا الشعار المعروف عن الفينومينولوجيا هو سمتها المميزة : الموقف الموضوعي المتطرف. في بداية القرن العشرين جذبت الفينومينولوجيا الكثير من الشباب والموهوبين. فمثلا تحدث فيلهلم شاب Wilhelm Schapp عن التفاني في الأشياء : الشرط الأول هو التفاني في الأشياء؛ والخوض في الأشياء نفسها ؛ ولا يفكؤ في الأشياء، بل يأخذها ويتذوقها، المسألة هنا مأخوذة بأوسع معانيها. وتحدث كونراد مارتيوس أنه مفتون بالأشياء. دع الأشياء نفسها تتحدث – الأشياء فقط – هذا هو شوق كل فينومينولوجي. 
 ويمكن العثور علي هذه الحتمية أيضا، والتي هي أساس الفينومينولوجيا، في جذور فلسفة جروتوفسكي. ويمكننا أن نقرأ شعار هوسرل في سياق فلسفة جروتوفسكي صراحة تقربيا. ولذلك، بعيدا عن الكلام الأجوف !. وذلك يعني : بعيدا عن المسرح كمجال للكلام الأجوف ! وعبارة هاملت « كلام، كلام، كلام» – اليست هذه هي الطريقة التي عرّف بها المسرح نفسه لعدة قرون ؟. لقد كان فن الكلام والمسرح متشابكين بشكل لا ينفصم. والممثل هو الشخص الذي يتحدث أساسا علي خشبة المسرح إلي الجمهور. والقاعة هي المكان الذي نسمعه فيها. وهذه ظاهرة المسرح الغني : أن يفتن الجمهور بالكلمات، وتعبر عن العالم، وتعبر عن الأفكار الكبيرة التي انجبتها الانسانية بمختلف الايماءات. وبعيدا عن ذلك، عندما نجلس في المسرح ونفتح عيوننا، نرى أن الظاهرة المسرحية الأصيلة قابلة للاختزال لانسان حي يظهر في المشهد. وهنا نحن أمام ظاهرة أساسية ومسرح مادي. ولا يتم نطق أي كلمة عند ظهور الممثل. فالمسرح ليس هو المسرحية ولا هو نوع أدبي. لقد امتنع جروتوفسكي عن تسمية نفسه “الفيلسوف”. فقد اعتقد أنه لم يبتكر أي فلسفة أو نظرية (كلمات، كلمات، كلمات). فقد كان ممارسا. وكل شيء قاله يتعلق بالممارسة، وكان وصفا للممارسة – الناقصة والثانوية دائما. فما يهم هو الشخص الحي المادي الملموس الذي يمثل علي خشبة المسرح. الإنسان هو ألف ياء الحقيقة المسرحية. لا كلمات غير ضرورية، وأفكار كبيرة، وايمائات متغطرسة. ولذلك فان اسم مسرح جروتوفسكي : المختبر. كان من المفترض أن يكون بمثابة تذكير بأن الأمر برمته يتعلق بالعمل الشاق مع الأشياء، والتفاني في الأشياء. 

3- التواصل الاجتماعي : 
علي الرغم من أن هوسرل كان يمارس الفينومينولوجيا عبر الأنا المنفصلة – التفكير الأحادي الذي يذكرنا ببحوث ديكارت، إذ اعتقد أن الانغماس التدريجي في هاوية الذاتية المتعالية هو العمل الذي يفترض أن تكمله أجيال المستقبل. وتصور فيها مجتمعا حقيقيا يناضل من أجل قضية ويتحمل مسئولية مصير الانسانية. فما يشكل جوهر الفينومينولوجيا هو حقيقة أنها تسمح بتعددية المناهج ووجهات النظر. وهذا ليس مجرد احتمال. فعندما نتحدث تاريخيا، نجد أن الفينومينولوجيا تدين بنجاحها لعشرات التلاميذ الشبان الذين تفلسفوا معا، وبالتالي خلقوا واحدة من أبرز الظواهر الاجتماعية في المجتمعات العلمية في القرن العشرين. ويوضح تاريخ الحركة الفينومينولوجية أن هذا التفلسف المشترك قد تجاوز ماكانت تعنيه الحياة الجامعية ( ولا تزال تعنيه). فقد كانت الحركة الفينومينولوجية تعد تقريبا نوعا من الطائفة، التي يحدث فيها الكثير من النشوة، التجارب الصوفية، والتحولات. وعلي أساس هذه الطبيعة المتعلقة بالفينومينولوجيا المرتبطة بالمجتمع، حاول هربرت شبيجلبرج في السبعينات، وكذلك الحال في أوج مسرح جروتوفسكي، أن يمارس الفينومينولوجيا بين جماعات صغيرة من الطلاب. 
 وكذلك الحال بالنسبة للفعاليات المسرحية التي قام بها جروتوفسكي. إذ من المعروف أن المسرح مكان جماعي وفعل جماعي. ومع ذلك، تجاوز مسرح جروتوفسكي بكثير ما كان يعد في ذلك الوقت مسرحا. فقد كان من الشائع الاعتقاد بأن المسرح هو مكان العمل ( للممثلين) ومكان التسلية ( للجمهور). ويالمقارنة –كما يقوب بيتر بروك – لقد جعل جروتوفسكي من المسرح مكانا مقدسا. كما تم تصنيف مسرح جوتوفسكي – كما كان في السابق في حالة مسرح ريتودا Retuda– علي أنه نوع من الطائفية. لقد قارن جروتوفسكي مسرحه بالمجتمع والأسرة. إذ كان الانضباط المعتمد والتنظيم في العمل أثناء التدريبات والعروض هو أمر أسطوري بالفعل. وتطابق فهم المسرح كمجتمع مع الجو العام في بولندا الاشتراكية، التي كان التركيز فيها علي تأثير أي نشاط بما في ذلك الفن. 

4- عن طريق النفي : 
تكمن الحقيقة في الظاهرة. وهذا لايعني أن الوصول الظاهرة كافي لامتلاك الحقيقة. ولكنها تستغرق استعدادات طويلة ومملة . وفي كثير من الأحيان، عندما يطرح السؤال حول ماهية الفينومينولوجيا بالتحديد، فان الاجابة هي أنها منهج. وبلا شك ترتبط الطبيعة المنهجية للفينومينولوجيا بسمتها الاجتماعية. ويؤكد الاجراء المنهجي نموها وكفاءتها – ولا يهم من يستخدمها. ومن المفترض أن يحدد المنهج الحقيقة في الظاهرة. ولا بد أن نفصل القمح عن القش. فما يختفي في الظلام يجب أن يظهر في التور. وفي التصريح الفينومينولوجي المذكور فعلا في عام 1911 « الفلسفة كعلم « عرّف هوسرل منهج العلم الفلسفي الجديد باعتباره منهجها منفصلا عن المناهج والتقنيات الأخرى. وبرؤية الأشياء علي هذا النحو دون افتراضات مسبقة، نحتاج إلي ازالة كل ما يطمس جوهر الأشياء في سياق التاريخ. والتحرر من الافتراضات هو الطريق نحو الحقيقة. في كتابه « الأفكار « الجزء الأول يقول هوسرل ان الاختيار الحر للوصول إلي الأشياء بما هي كذلك تدعمه طريقة الاختزال ومبدأ الممبادئ. وتؤدي الاختزالات المتتالية إلي رؤى كاملة للجوهر النقي. المهم هو العمل الدؤوب علي الظواهر. « من فضلك قدم شيئا مختلفا « –عبارة اعتاد أن يقولها هوسرل لأي شخص يبدا بالتبشير بأفكار عظيمة ولكن غير مسموح بها. وقد جلب التركيز علي هذه الاخلاقيات في العمل الكثير من المؤيدين والمعارضين للفينومينولوجيا. 
 ويمكننا أن نجد اجراء منهجيا مماثلا في مسرح جروتوفسكي. وقد تتبع جروتوفسكي سؤال « ما هو المسرح ؟ « من خلال منهج الاستبعاد والاختزال (عن طريق النفي). فجوهر المسرح يؤكد نفسه في الفعل الخالص للممثل أمام الجمهور. ويجب أن يتم الاختزال من جانب الشخص نفسه. ولا يتعلق الأمر بتنفيذ أي افتراضات نظرية سابقة في المسرح، بل الفكرة هي أن الفعل المسرحي يجب أن يكشف الحقيقة عن نفسه. وكما هو الحال في فلسفة هوسرل، ان المسار إلي هذه الحقيقة يتكشف تدريجيا. فلا يكفي أن نضع انسان في منصف خشبة المسرح، لكي يتعامل مع الحقيقة. لقد اكتشف جروتوفسكي مجموعة كاملة من مخططات الفعل الأكثر تنوعا، وكل أنواع الكلشيهات التي يتبناها الإنسان أثناء نشأته وحياته داخل ثقافة معينة. وهذا كله يتعلق ب الفعاليات المرتبطة بممارسة الحياة اليومية. علاوة علي مختلف الخطط العملية، يتكون النشاط البشري من عدد كبير من التعليمات والرؤى العالمية. فنحن لا نتصرف ككائنات حرة، ولكن أفعالنا يكتنفها ضباب مظلم من الأنماط والعادات. وحتى نصل إلي حقيقة الفعل، الذي هو جوهر الظاهرة المسرحية، فاننا نحتاج إلي استخدام منهجا سلبيا لتحديد جميع الحواجز النفسية والمادية والروحانية، وازالتها. ويتم تحقيق هذا الهدف من خلال تدريب الممثل. ورغم ذلك، لا يجب علينا أن نصنع منه صنما. والكشف عن الحقيقة لا يتم خلال تسليحنا لأنفسنا بكل أنواع الأساليب والحيل، ولكن علينا نزع الأسلحة بالأحرى. ان الفينومينولوجيا تتعلق بالنقاء والتعرية والصدق والاتصال المفتوح. وثراء المسرح هو غناه. 

5- هذا هو الإنسان : 
هناك كثير من الوجود كما أن هناك ظواهر. وهذا في المقابل يعني في نفس الوقت : أن هناك ظواهر مادام هناك ظهور. وهذا الأخير هو تسمية أخرى للقصدية. فكما أن الظهور هو ظهور شيء ما لشخص ما، كذلك يكون وعي الشخص بشيء ما. فالظاهرة تتجلى من منظور معين. وبالتالي لكشف الحقيقة في الظاهرة، يجب أن نلاحظ منظوريتها : أنها كذلك دائما لشخص ما. وبالتالي، فان الدراسات الفينومينولوجية التي تركز علي مظهر الظاهرة، تفتح مجال الذاتية الخالصة باعتبارها الباقي الذي قاوم عملية الاختزال الفينومينولوجي. فالفينومينولوجيا تبدأ من تحول انتباهنا من العالم إلي الوعي. في النهاية، استغرق الأمر جزءا واحدا فقط من مجال التأسيس الأوسع. وتحت غطاء الوعي، فان ما أكد نفسه هو عالم الحياة الذي لا ينضب، والوجود في العالم، والذاتية المشتركة والتجارب الجسمية. انه في تلك المجالات التي تسعى إلي جوهر الظاهرة يبدو أننا يجب أنه كامن. ولاسيما أن الجسدية هي صورة التجربة الانسانيةالتي هي ذات اهتمام خاص بالنسبة للفينومينولوجيين. 
 ويبدأ المسرح الفقير باختزال كل شيء ليس مسرحا. وللوصول إلي لب المسرح، فاننا نحتاج إلي رفض كل شيء مسرحي – أو بالأحرى ننساه مؤقتا. ففي المساحة الخالية يوجد انسان يسمى ممثل وهو الذي يقف أمام شخص آخر يسمى متفرج. وفي مسار الأداء يصبح المتفرج شاهدا. والمسرح هو التقاء انسان مع انسان آخر وجها لوجه. والممثل يقول « انا هنا من أجلك، بدلا منك، ومن أجلك «. وتعليق كل شيء ليس له علاقة بالمسرح، يكشف الإنسان في وجوده الجسدي هنا. وفي سياق عمل الممثل علي دوره – كما قال ستانسلافسكي – يعمل الممثل علي نفسه، ومع ذلك يتضح أن هذا الإنسان الملموس يمكن أن يفصح عن نفسه في حقيقته الكاملة فقط ان كان ما انفتح بداخله هو مسارات لا تشير فقط إلي ما وراء تجسيده المادي الخاص، ولكن أيضا إلي أبعد ما هو هنا والآن،خارج ذلك الإنسان المميز. الفكرة هي المرور من خلال الجسم إلي الانسانية والهوية والطبيعة. فالممثل مثل الأيقونة، يصبح نافذة للأبدية. ويمارس التجلي الذاتي في أفقه. 

6- اعمل علي نفسك :
يبدأ الكشف عن مجال الوعي النقي والعميق عمل التأمل الفينومينولوجي. وهو أمر مرتبط بأفعال الذاكرة والتخيل. وينطوي العمل الفينومينولوجي علي وصف الظواهر وتحليلها وتمييزها وتوضيحها. ويكشف البحث طبقة انشاء المعنى، ومجموعات الدوافع ومجموعة النتائج. ويبدو الوعي كمجال غير مستنفد من النشاط الترانسندنتالي الذي له تاريخه. ويتحدث هوسرل عن المعرفة الفينومينولوجية باعتبارها تكرار لهذا التاريخ في الأفعال الجديدة في المعرفة الفينومينولوجية. ولكن لكي ندخل إلي مسار البحث الفينومينولوجي ونستمر فيه، فلا يكفي تلبية تعليمات معينة مثل « أطلب منك اجراء الاختزال وتعليق الأطروحة حول وجود العالم أو اجراء تنويع تخيلي الآن». بالطبع ينشئ هذا النوع من التعليمات منهجية الفينومينولوجيا ويحميها من غواية الكشف المفاجئ، وتمجيد الروح. والختزال الفينومينولوجي غريب عن البيئة الطبيعية وبالتالي يتطلب تعليمات واضحة حول كيفية تنفيذه. ورغم ذلك، البحث الفينومينولوجي ليس مجرد تطبيق لتقنية معينة أثناء العمل علي الظواهر، ولكنه ينتج من تبني توجه معين بعيد عن التحول وتغير الشخص المتفلسف. ففي فكر شيلر بوجه خاص، يبدو أن هناك دعوة لافتراض موقف اخلاقي معين تجاه، الزهد، لايقاظ مصادر حبنا، لأن الحب والعاطفة وحدهما قادران علي تويه العدوى. ويقول شيلر عن فعل الشخصية كشرط أخلاقي للعدوى الفلسفية. فالانسان دائما هو الذي يتفلسف. وقد قارن شيلر ومن بعده فينك، المعرفة الفلسفية مع مجاز الخروج من الكهف عند أفلاطون. وقد قبلوا هذا المجاز، ولكن – الذي سوف يكون مهما لجروتوسكي – ورفضوا القناعة الأفلاطونية الميتافيزيقية والدينية بأن التفلسف هو معركة مع الجسم وتدريب علي الموت. ومن المنظور الفينومينولوجي فان انكار افلاطون للحسية والجسم هو خطأ كبير. وبالتالي – وفقا لشيلر- فان ما يتم الاحتفاظ به من تعريف أفلاطون للفلسفة هما شيئان : الفلسفة تتطلب فعلا شاملا لجوهر الشخص، وأن هذا الفعل ينشأ علي الحب، الذي يسمح للانسان أن يشارك في جوهو الأشياء المحتملة. يتحدث شيلر عن مشاركة نواة محددة للانسان فيما هو ضروري. في حالة الفلسفة فان الشيء الأخير هو الإدراك، ولكن فيحالة الفعاليات الروحانية الأخرى فربما تكون شيئا آخرا. ويذكر يضا التمييز، الموجود عند نيتشه والذي أصبح نقطة انطلاق لمقارنة فلسفة جروتوفسكي بالفينومينولوجيا، وتحديدا الفرق بين ما هو أبوللوني وديونيسي. علي أي حال، يمكن للفلسفة أن تزدهر علي أساس خلفية شخصية معدة. والشيء الضروري هو الحب والتواضع والتحكم في الذات. وعلي الأساس المعد مسبقا ربما تحدث المشاركة فيما هو ضروري، وبالتالي المسئولية الكاملة التي تحدث عنها هوسرل. 
 وليس من الصحب أن نجد نفس الدوافع الأخلاقية في فكر جروتوفسكي. لقد كان الالتزامبأخلاقيات العمل والأخلاقيات شبه الوحشية نقطة البداية في أعمال جروتوفسكي المسرحية. إذ استخدم جروتوفسكي مصطلحات مشابهة لمصطلحات شيلر : التواضع و التفاني والفهم. ويركز المسرح الفقير علي الإنسان في ماديته البدنية. والظاهرة الأساسية، لذلك، هي الجسم البشري وتجلياته الأدائية. وتكمن حقيقة الإنسان في عالمه، وفي آلهته، وفي جسديته. والجسم البشري، مثل الفينومينولوجيا، هو ما يتجاوز الاختلاف داخل البيولوجيا والثقافة. فالجسم المسرحي يتجاوز الفرق بين الجسم الذي يُرى من الداخل والجسم المعطى من الخارج. فهو بالأحرى الجسم الذي يوضع بين داخلية التجربة وخارجية التعبير. 
 في هذه الفجوة بالضبط يحدث عمل الممثل علي نفسه. ونقطة انطلاق تعاون جروتوفسكي مع الممثل هي مؤشر لتوجهه الحياتي الطبيعي. وتنبع خصوصيته من الاستيعاب الثقافي لانقسام الإنسان الأفلاطوني-الديكارتي إلي جسم بشري وروح. وفي هذا النموذج، يكون الجسم جسد مادي مظلم، والوعي هو الاضاءة والانفتاح. فالجسم أساسا غير متاح للضوء المذكور. فالوعي ينيره جزئيا فقط وسطحيا. وبالتالي كان الصراع والانقسام الداخلي الحاد للانسان. فانسان الحضارة الغربية يعيش بشخصية منقسمة. ويخلق ثقافة فصامية أيضا. وعندما يبدأ الممثل في العمل علي نفسه وجسمه، فان مهمته الأولى هي هدم هذا الانقسام. ويتكون من اعادة التكامل برفض العوائق والقيود، وفتح قنوات تدفق الطاقة بين الجسم والروح، وذوبانهما. والعمل علي الجسم، الذي يمارس باعتباره تدريبا بدنيا شاقا، يجب أن يخفض ضغط الجسم، أو هذه اتهوية بحيث يمكن لضوء الوعي أن يصل إلي أقصى حد ممكن ويفتح مناطقه المغلقة والمظلمة في البداية. وهذا الفعل الناجح لمسح الجسم، حيث يصبح الجسم عاكسا للروح، سماه جروتوفسكي “ الفعل المتكامل “. الآن فقط يصبح الجسم ظاهرة شفافة، تجلي حي للحقيقة، جسم روحي مضيء. ورغم ذلك، قبل أن يحدث هذا يستغرق الأمر تدريبا بدنيا وذهنيا طويلا. ويرتبط عمل الممثل علي نفسه باعادة بناء تجربة بدائية معينة من الماضي يغرق فيها دوره. والهدف ليس ايقاظ بعض المشاعر أو العواطف، بل الامساك بتلك الدوافع التي تقع في أساس فعل معين باعتبار أنه يتجسد في موقف معين. وبالتالي، بالنظر إلي الخلف يتجاوز الممثل وجوده الفردي، ويصبح مرآة تعكس تاريخ الإنسان والطبيعة والآلهة. وبذلك يواجه الآخرين والآخر. 

7- الفعل المتكامل : 
يذكر شيلر ذروة الإدراك الفينومينولوجي، وفعل المشاركة المتكاملة للانسان في الجوهر. ويقول شيلر، لمعرفة الجوهر يجب أن نصبح متشابهين معه، ويجب أن نصبح وجود جوهريا وأبديا. فاذا كان ارتباط عالم الجوهر اللانهائي هو فكرة الشخصية اللانهائية، أو الله، عندئذ يجب علي الذات الفينومينولوجية التي تطمح في المشاركة في هذا عالم الجوهر اللامتناهي هذا، أن تتجاوز طبيعتها البشرية وتدخل في مسار الانقسام الذاتي. وهذا بالطبع ليس شيئا دائما. فهذا الصعود للادراك مؤقت ونادر فعلا. وقد تحدث أفلاطون عن القفز من البحر بطريق طريقة طيران الجسم. 
وفي تاريخ القرن العشرين، قطعت فينومينولوجيا الجسم شوطا طويلا من فهم الجسم كجسد من خلال الجسدية المعطاة في التجربة الداخلية إلي مفهوم الجسم الذي يتميز بأنه واضح وروحاني مجيد ومن خارج كوكب الأرض نوعا ما. ويمكننا أن نزعم في مسرح جروتوفسكي كل أبعاد المادة البدنية بالرغم من أن أن أهم ما فيها هو شكل الجسم الذي يتجلى في الفعل المتكامل. 
 والفعل المتكامل في مسرح جلاوتوفسكي هو قمة الفعل المسرحي. انه فعل الاعتراف، والفداء والعطاء والحب. ويقارن جروتوفسكي هذا الفعل بمجاز الكهف عند أفلاطون، أو بالاشكال المصورة في لوحات الجريكو، والتضحية بالنفس والنهاية يقارنه بتضحية المسيح. وفي الأدب الاحترافي نصادف الادعاء القائل بوجود بطل واحد دائما في عروض جرتوفسكي ؛ هو المسيح. وفي الفعل المتكامل، فان الذات ليست هي التي تكشف الظواهر، ولكنها هي التي تصبح ظاهرة بحد ذاتها. ويمكننا اتباع ايمانويل ليفيناس في تعريفه للظاهرة بأنها «الوجه» أو هي الظاهرة المشبعة – كما فعل جان لوك ماريون. 

8- الجسم كان الكلمة : 
عندما يوصي هوسرل بالتخلص من الكلمات الفارغة واعادة الانتباه للأشياء، فانه لا يطالب بالطبع برفض أي حديث علي الاطلاق، ولكن الكلام من النوع الذي لا يتم ترسيخه في الأشياء كما نراها. وامكانية الكلام عن أفكارنا والتعبير عنها باللغة هو الموضوع الأساسي لمنطق البحث وأيضا أحد أهم المشاكل في الفينومينولوجيا. ويشكل جهد هوسرل في العثور علي الكلمة الصحيحة لوصف الأشياء كما نراها شهادة مؤثرة ورمزا للتناقضات الأساسية، التي تكمن في أساس الفلسفة. إذ يبدو أن العالم بطبيعته لا يمكن التوفيق بينه وبين الرؤية، و:ان الهوة بين الكلمة والرؤية لا يمكن سدها. وبالتالي، منذ بداية الحركة الفينومينولوجية، كان هوسرل وتلاميذه يبحثون عن هذا النوع من اللغة الفلسفية التي يمكن أن تقلل هذا التناقض. ويتعلق الأمر بالنطق غير الموضوعي. ولذلك فقد كان ما أثار اهتمامهم أيضا التجارب الأخرى والتعبيرات الخاصة بها أكثر من تلك المرتبطة بالمنطق أو الابستمولوجيا. 
 وقد كانت الكلمة أهم شيء في المسرح التقليدي. إذ كان المسرح تاليا للمسرحية. وتعلقت وظيفة الممثل بايجاد أكثر الطرق اقناعا لتقديم النص واتباع تعليمات المخرج. وكان الممثل يقوم بدوره في المشهد ويعبر عنه بايماءات اضافية. وكان يصارع لملء الكلمات بالعاطفة وبذلك يشارك في العرض. 
 وفي مسرح جروتوفسكي، فان الكلمة هي أحد عناصر الفعل، ولكنه مهمة جدا. وما قرر أن يعرضه جروتوفسكي علي خشبة المسرح هو مختلف النصوص، وعادة الأعمال الدرامية الكلاسيكية. وقد صورت عادة الحالة النموذجية للجنس البشري. ولكن الكلمة علي هذا النحو كانت جوفاء. ولذلك كان أهم شيء هو أن ينغمس الممثل من جديد في معنى الكلمات في مصادر نزعته البدنية. وكانت الفكرة أن يجد التجربة الشخصية التي يمكن أن تتطابق مع معنى نطق بعينه. ومع ذلك، ليس من أجل ملء الكلمات بالعاطفة كما في المسرح التقليدي. وبالنسبة للعواطف – طبقا لعلم النفس عند جروتوفسكي – فهي خارجة عن إرادتنا وتظهر عندما يريدون ذلك وليس عندما نريدهم أن يظهروا. فما نريد أن نسيطر عليه هو الأفعال الجسدية. وهي الأفعال الجسدية المذكورة التي يجب أن يملأ بها الممثل كلمات النص. والكلمة كعلامة وتعبير عن عن شيء بالداخل يجب أن يظهر كآخر مرحلة للفعالية البدنية. وكما يقول ليفيناس، ما يقال يسبقه القول، الذي يسمح للكلمة أن تنتشر ف العالم. وتتوج الكلمة المجسدة عملية الكشف الذاتي. 

9- الآخر : 
في تاريخ الحركة الفينومينولوجية، كان يعد الأمر المتعلق بالجسدية في توازي مع مشكلات الذاتية المشتركة. وقدم هوسرل حتمية وامكانية المزج في كتابه «تأملات ديكارتية». وعند فينومينولوجيين آخرين، مثل سارتر أو لفيناس، تأخذ المواجهة مع الجسدية مسارا أكثر درامية. ومسرح جروتوفسكي مشابه كثيرا. 
 وقد كان المسرح دائما مكان لقاء الناس. وفي مسرح جروتوفسكي رفعت هذه اللحظة إلي مستوى أحد أهم اللحظات في العرض ككل. وفي المسرح الغني، يسيطر هذا النوع من المواجهة مع الآخر التي وصفها سارتر. يقوم المتفرج بتجسيد الممثل، ويختزل الأول الأخير إلي موضوع ادراك. وعلي عكس المسرح الغني، تحتلف العلاقة بين الجسدية في المسرح الفقير تماما وتماثل الطريقة التي يمتلها بها لفيناس أو سارتر. ففي المسرح الفقير، تمتد العلاقات بين الجسدية في اتجاهات مختلفة. تشمل العلاقات التالية : الممثل – الممثل، الممثل الشريك الآمن، الممثل- الشاهد، الممثل – المخرج، الممثل – عالم الأشياء. في نهاية الستينيات تركت مسلمات جروتوفسكي المسرح. إذ اعتقد أن المسرح مساحة محدودة جدا بحيث لا يمكن بدء علاقات بين جسدية فيه. والفكرة هي أن الفعل المتكامل يجب تضخيمه في الحياة اليومية : في لاقة الأخوة مع الآخرين ومع الطبيعة. فما يهم هو اللقاء، والاحتفال. 

الاستنتاجات : 
تؤدي مقارنة فلسفة جروتوفسكي في المسرح بأفكار الفينومينولوجيا إلي بعض الاستنتاجات. 
 أولا، بسبب مقارنة الفينومينولوجيا بفلسفة جروتوفسكي في المسرح، يمكن تأمل كل منهما من زاوية جديدة وبالتالي تصبح مضيئة ومفهومة بعمق أكبر. وبفضل تحول بعض الاكتشافات في مجال الفينومينولوجيا في مجال المسرح، فقد اكتسب الأخير الأدوات الضرورية التي بفضلها ربما يعبر عن بديهيتها المظلمة بطريقة مختلفة. وفي نفس الوقت تتحقق اكتشافات الفينومينولوجيا وتصبح عرضة للتجسيد. وبالتالي، كل منهما هو نوع من التحقيق والتوضيح. 
ثانيا، تكشف المقارنة أيضا، رغم ذلك، أن أعمال جروتوفسكي ليست ضاهرة متوازية مع الفينومينولوجيا، ولكنها اقتراح ناجح لتحويل اكتشافات معينة في مجال الفينومينولوجيا في مجال الممارسة اليومية. وبالتالي يؤسس اجابة تاريخية معينة للحاجات الأساسية التي يتم تبنيها بواسطة ممثلي الحركة الفينومينولوجية منذ بايتها. وتفترض دعوة نتالي ديبراز وممثلي الحركة الآخرين لممارسة الفينومينولوجيا شكلا حقيقيا هنا. فقد استبق جروتوفسكي كثير من الحلول التي ظهرت في الفينومينولوجيا الحالية. فجروتوفسكي نفسه – بغض النظر عن اعمال سارتر – لم يكن يعرف الفينومينولوجيا. وقد وضع فلسفته في ظل التقاليد التي كانت غريبة علي الفينومينولوجيا. 
 ثالثا، هذا التجور بين الفينومينولوجيا وأعمال جروتوفسكي يقترح أن البنيات المتناظرية لكليهما تعكس بنيات ضمنية مسبقة في تجسيد الحياة الروحانية بما هي كذلك. وهي تحدث باعتبارها بنية أساسية ليس فقط للفينومينولوجيا أو مسرح جروتوفسكي، ولكن أينما نواجه أعمال الروح المتجسدة. والملاحظة يمكن أن تكون نقطة انطلاق لمزيد من البحث : بمعالجة الفينومينولوجيا ومسرح جروتوفسكي كنموذج لنا، يمكننا أن نصف المقومات الأولية والعلاقات الداخلية لأي حياة روحانية مجسدة. 
.....................................................................................
دانييل رولاند سوبوتا : يعمل أستاذا في معهد الفلسفة وعلم الاجتماع في أكاديمية العلوم البولندية. 
نشرت هذه المقالة في مجلةAnalliza i Egzystencija، 49 (2020). 


ترجمة أحمد عبد الفتاح