بدايات جمعية أنصار التمثيل والسينما (1) كيف بدأت الجمعية؟!

بدايات جمعية أنصار التمثيل والسينما (1) كيف بدأت الجمعية؟!

العدد 718 صدر بتاريخ 31مايو2021

عزيزي القارئ: إذا كنت مهتماً بتاريخ مصر الفني، أو هاوياً للتمثيل وسرت يوماً ما في شارع قصر النيل بوسط البلد بالقاهرة .. حاول أن تسأل المارة عن شارع «البورصة الجديدة»؛ لأنه متفرع من شارع قصر النيل! وعندما تستدل عليه، حاول أن تصل إلى العمارة رقم «8» فهي العمارة الأكبر والأضخم والأقدم في هذا الشارع! وعندما تصل إليها، ستجد في الدور الأول شقة عليها لوحة مكتوب فيها: «جمعية أنصار التمثيل والسينما تأسست عام 1913»!
ولو سألت عن اسم رئيس هذه الجمعية الآن، سيقولون لك إنها الفنانة القديرة «سهير المرشدي»! ولو سألت عن تاريخ هذه الجمعية، سيقولون لك إنها أقدم جمعية لهواة التمثيل في مصر؛ حيث إن عمرها الآن يصل إلى «108 سنة»! ولو حاولت أن تعرف تفاصيل هذا العمر الطويل لهذه الجمعية، ستجد معلومات عامة تتعلق بالبدايات من خلال الصور المعلقة على جدران غرف الشقة! وربما تجد معلومات شفاهية تتعلق بفترة الستينيات، ومن المؤكد أنك ستجد معلومات شفاهية أيضاً عن الفترة الحالية من خلال المعاصرين لنشاط الجمعية الآن وبالأخص الأستاذ «نبيل سمير أباظة»! ومهما بذلت من مجهود، لن تنجح في الوصول إلى التاريخ التفصيلي للفترة الأولى لنشاط هذه الجمعية، وهي فترة العهد الملكي!
لذلك اتجه اهتمامي إلى كتابة تاريخ هذه الجمعية في فترة العهد الملكي؛ حيث إنها فترة تحتاج إلى بحث دقيق ونبش في الصحف القديمة والوثائق، وهذا هو أسلوبي في التأريخ المسرحي وفق مشروعي في إعادة كتابة تاريخ المسرح المصري والعربي وتوثيقه بصورة علمية تعتمد على الاكتشافات الجديدة لأدق التفاصيل، التي لم تُنشر من قبل! وبناءً على ذلك سيقرأ القارئ تفاصيل كثيرة عن تاريخ هذه الجمعية منذ نشأتها عام 1913 إلى أن أصيبت بالضعف والإهمال عام 1948.
البداية
كانت الحياة المسرحية في مصر عام 1913، تتمثل في جهود ثلاث فرق احترافية كبرى، هي: فرقة الشيخ سلامة حجازي، وفرقة جورج أبيض، وفرقة أولاد عكاشة التي بدأت في الظهور! هذا بجانب الفرق الاحترافية الصغرى غير المنتظمة مثل: فرقة سليم عطا الله وشقيقه أمين عطا الله، وفرقة عزيز عيد، وفرقة الشيح أحمد الشامي .. إلخ. أما نشاط الهواة، فتمثل في العروض المسرحية التي كانت تُعرض في احتفالات الجمعيات الخيرية. ونشاط الهواة هذا، كان غير مقبول لأنه غير مدروس، فنشرت في يوليو 1913 جريدة «الوطن» رأيها فيه، قائلة:
« في هذا البلد اليوم نهضة شريفة، تدل على روح تقدم جديدة لو أن القوم يعلمون كيف يسيرون في هذه النهضة. أو ما الغرض الشريف الذي يجب أن يتوخى فيها. نعني بذلك النهضة التمثيلية القائمة بين ظهرانينا اليوم. تلك التي زجّ البعض أنفسهم بين مثيريها، فضلوا السبيل وأساءوا إلى فن التمثيل إساءة يجب أن تحاسبهم الأمة عليها حساباً عسيراً. لا يمضي يوم إلا ونسمع أو نقرأ أن الجمعية الفلانية ستقيم ليلة زاهرة، تمثل فيها رواية مهذبة للأخلاق مقبحة للرذائل. وما الجمعية غير فئة أراد أفرادها التكسب من أقرب الطُرق، فأطلقوا على أنفسهم اسماً هو ابن ساعته. ولا اعتراض لنا على ذلك لو أنهم يصدقون، ولو في ربع الذي يقولون ويعلنون. ولكن أفراد هذه الجمعيات الوهمية يعملون بجد في توزيع تذاكر لياليهم، وإذا ما حضر الناس إلى المسرح لم يجدوا تمثيلاً. أو رأوا ما تنفر من رؤيته العيون، وسمعوا ما تروع لدى سماعه الآذان. فالقوم يتخذون هذه الليالي لا رغبة منهم في تمثيل ما يتعلم منه المشاهدون دروساً؛ ولكن بغية الحصول على الدرهم والدينار، ولو جاء بعد ذلك الطوفان. والذي يتأمل في عدد الجمعيات القائمة عندنا الآن من هذا القبيل، يعجب لكثرتها وتأخر الفن. ولسنا ندري متى يقف تيار أولئك المفسدين، أو بعبارة أخرى متى تتدارك الحكومة أمر هذه الفوضى فتعمل على ملاشاتها. الأمة في حاجة إلى تمثيل يهذب من أخلاقها، وهو في غنى عن كل دعي، يتخذ التمثيل صناعة عن طيش وجهل به».
في هذا الوقت ظهر الأستاذ «محمد عبد الرحيم» المدرس بالمدرسة السعيدية – وشقيق القصاص «محمود طاهر لاشين» - وبدأ محمد يلفت الأنظار من خلال اهتمامه بالمسرح الذي ارتبط به أثناء بعثته إلى إنجلترا. وفي حيّ السيدة زينب التف حوله بعض هواة التمثيل، وقرروا تكوين جمعية لهواة التمثيل، أطلقوا عليها اسم «جمعية أنصار التمثيل»، وكانت تضم هذه الأسماء في أول تكوين لها: إبراهيم رمزي، إسماعيل عبد المنعم، حسين فتوح، محمد عبد الرحيم، سليمان نجيب، شفيق منصور، أحمد صادق عفيفي، محمد تيمور، فؤاد قطبي، عبد الله فكري أباظة، مصطفى غزلان، أحمد رامي، أحمد صادق، محمد عبد القدوس، حمدي، محمود مراد، أحمد فواز، مصطفى حمودة، عبد الله سلامة، محمود فهمي، عبد الحميد الشريف، إبراهيم صبحي.
وعندما استقر الأمر للجمعية، وتم انتخاب «محمد عبد الرحيم» رئيساً لها، قام سكرتيرها «حسين فتوح» بالإعلان عنها - في جريدة «مصر»، أبريل 1914 - قائلاً تحت عنوان «جمعية أنصار التمثيل بالقاهرة»: «إن الحالة التي لازمت التمثيل في مصر إلى النزل طوراً، وإلى الأخذ في النهوض ثم ينحط طوراً آخر. ومرور أكثر من ربع قرن والتمثيل في هذا البلد يتقلب بين أيدي قوم يعجزون لأسباب كثيرة من النهوض به إلى الدرجة المطلوبة له من الكمال، بغض النظر عن أن التمثيل في الأيام الحاضرة بدأ يسير إلى الرقي نوعاً ما، بما يبذله بعض رجاله من الجهد في هذا السبيل، فإنه لا يزال في دور الطفولية والضعف. وهو بذلك في حاجة إلى المؤازرة والمعونة. كل ذلك حدا فريقاً من الشبان المتعلمين بمصر وأوروبا وبينهم الحقوقي والمُربي والطبيب والمهندس والمترجم والكاتب أو الشاعر على التفكر في تأليف جمعية غرضها ترقية التمثيل في مصر، وتنبيه الأمة إلى ضرورة الاهتمام بهذا الفن الجميل وتعضيده. وقد انضم إلى هذا الفريق كثير من الشبان المتعلمين واتفقوا على تكوين هذه الجمعية وتسميتها «جمعية أنصار التمثيل بالقاهرة». وقد وُضع قانون الجمعية وفيه شروط القبول بها ونظامها وينحصر برنامج أعمال الجمعية فيما يلي:
1 - ترجمة وتأليف ونشر الكتب والمقالات وإلقاء المحاضرات التي تنبه الأمة إلى فوائد التمثيل وتوجه عنايتها إلى الأخذ بناصره.
2 - ترجمة وتأليف الكتب التي تشرح طرق التمثيل على اختلافها.
3 - تأليف روايات تمثيلية مستنبطة موضوعاتها من حوادث هيئتنا الاجتماعية الحاضرة أو من تاريخ مصر أو الأمة العربية أو غيرها.
4 - تحضير موضوعات الروايات الأجنبية التي يمكن تطبيقها على الأحوال المصرية.
5 - ترجمة خير الروايات الأجنبية إلى اللغة العربية على شرط أن يشمل ذلك كله مغاز ذات عبر وعظات تفيد المجتمع المصري.
6 - تدريب الراغبين من أعضاء الجمعية على التمثيل وتأليف فرقة منهم تقوم بتمثيل ما تقر الجمعية تمثيله من الروايات.
7 - البحث في الروايات التمثيلية وتشجيع وانتقاد المؤلفين والمترجمين والممثلين.
8 - السعي إلى إنشاء مجمع تمثيلي عام.
وقد انتخبت لجنة مؤلفة من تسعة من خيرة أعضاء الجمعية وأفاضلهم للقيام بأعمال الجمعية، والعمل على تحقيق أغراضها. وقد أخذت هذه اللجنة في ترجمة كتاب جليل في فن التمثيل، وكلفت فريقاً من أعضائها بإلقاء محاضرات في أغراض التمثيل وفوائده الاجتماعية. وسيعلن عن موعد إلقاء هذه المحاضرات بعد. واتخذ نادي موظفي الحكومة بالقاهرة مركزاً وقتياً لهذه الجمعية ولجنتها. نسأل الله أن يؤيدنا في عملنا بالتوفيق والنجاح. [توقيع] سكرتير الجمعية «حسين فتوح»».
محاضرات الجمعية
بدأ نشاط الجمعية يظهر جلياً، من خلال المحاضرات المسرحية التي ألقاها رئيس الجمعية «محمد عبد الرحيم» في مقرّ الجمعية بنادي موظفي الحكومة في شارع محمد علي بالعتبة الخضراء، والتي تفاعل معها أشهر المسرحيين من الهواة والمحترفين، وأسهموا فيها بالنقاش والنقد والحوار البنّاء. وكان عنوان المحاضرة الأولى «التمثيل عند اليونان والرومان»، وألقاها محمد عبد الرحيم يوم 15 أبريل 1914 في السابعة مساء؛ بوصفها أول محاضرة مسرحية في أول نشاط رسمي للجمعية! أما المحاضرة الثانية، فكانت بعنوان «المرأة المسلمة على مسارح التمثيل»، وألقاها رئيس الجمعية مساء يوم 22 أبريل 1914. وقد نشرت الصحف المعاصرة – مثل جريدة «مصر»، ومجلة «الهلال» - بعض تفاصيل هاتين المحاضرتين، وما دار فيهما من نقاش علمي وفني، نستطيع تلخيصه فيما يلي:
حضر من الجمهور كثير من أهل الأدب ورجال الصحافة وغيرهم، وافتتح الخطيب محاضرته بوصف حالة أوروبا بعد انقضاء دولة الرومان، وكيف أنها بقيت تائهة في غياهب الجهل إلى أن ظهرت أنوار العلم والأدب من نوافذ الأديرة والكنائس؛ حيث رأى القساوسة والرهبان أن يزيدوا نفوذهم على العامة بواسطة التمثيل، اقتداء بما كان يفعله قدماء اليونان، فأنشأوا المسارح إلى جانب الكنائس، ومثلوا فيها مسرحيات مقتبسة عن الأسفار الدينية. وبعد أن وصف المحاضر هذه المسارح بقوله إنها عبارة عن مدرج ذي ثلاث طبقات: السفلى يمثل عليها أهل الجحيم، والوسطى لأهل الدنيا، والعليا لسكان الجنة. وقد لبث التمثيل نحو ثلاثة قرون أو أربعة، حتى أخرجه عن مجراه الديني التقليدي جماعة من الكُتّاب في بداية القرن العاشر الميلادي، وصولاً إلى عصر نهضة العلوم. وقام المحاضر ومثّل مشهداً من مسرحية وضعها أحد الرهبان، ومشهداً آخر لمؤلف مسرحي من القرن العاشر الميلادي كأمثلة عملية لما يقول.
ثم قام حسين فتوح سكرتير الجمعية بتقديم الأستاذ «عبد الرحمن رشدي»، وهو الشاب المحامي الذي شارك جورج أبيض في التمثيل زمناً ما، فقال ما فحواه: «إنه عشق التمثيل منذ كان صبياً وطالما اشتاق إلى أن يشتغل به؛ ولكن منعه عن إتمام غرضه أن فريق الممثلين كان سافلاً منحطاً قبل جورج أبيض! قال: فلما تولى جورج العمل قصدته ووضعت يدي في يده غير مبالٍ بتعنيف إخواني بي، ولا ابتعادي عن أعزّ الناس إليّ - وهي والدتي - ثلاثة أشهر. ولا حرماني من التوظف أو العمل في المحاماة التي أحمل شهادتها. ثم تكلم عن التمثيل عند غير الأوروبيين، فاستشهد من بحثٍ للكاتب النقادة «إميل فاجيه» على أن أهل الهند كانوا يشتغلون بالتمثيل الراقي قبل أوروبا».
وأعقبه في الحديث «حلمي مسعود» - الموظف في وزارة المالية – فقال: «إن علماء الآثار أثبتوا أن قدماء المصريين عرفوا التمثيل قبل غيرهم من أمم المدنية القديمة». وتكلم الصيدلي «حسين قدري» عن الغرض من التمثيل، وما هو التمثيل، وكيف يكون الممثل الحقيقي، ثم قال: «إنني وأن وافقت الخطيبين على أن الشرقيين اشتغلوا بالتمثيل؛ ولكن أرد عليهما بأن القوم لم يحسنوا الصناعة وترقيتها، كما فعل الغربيون. ثم فند قول أحدهم عن سقوط التمثيل في الأيام الماضية؛ قائلاً: إن أهله يستحقون الإعجاب لمثابرتهم على عملهم، مع احتقار المجموع لهم. وبعد أن أبان أسباب سقوط التمثيل في الأيام الماضية، ومثّل بعض حركات ممثلينا الذين لعبوا على المسرح منذ عشرين سنة، ومما قام بتمثيله دور امتحان تلميذ كسول، ودور حشاش. فبرهن في الدورين على معرفته التامة بهذا الفن. وختم كلامه بقوله: إنه لا يمكن ترقية التمثيل المصري إلا إذا كان القائمون به من المصريين رجالاً ونساء. وقال «إنه من العيب أن نرى نساء المسلمين يذهبن إلى بيوت الفسوق، ويرقصن، ولا يشتغلن بأرقى فن أدبي. وإذا كان يتعذر علينا إيجاد بنات متعلمات ليكن ممثلات، فلننتق من جامعات «الصبارص» [أي جامعات أعقاب السجائر، وهي مهنة قديمة، كان يقوم بها المتسولون والمتشردون] فئة نربيها حتى يتم لنا بها ما نريد. فرد عليه أحد أعضاء الجمعية إن الشريعة الإسلامية للبلد وعاداتها، لا تسمح بوقوف المرأة المصرية على المسرح بأي حال.
وتدخل في الحوار عضو الجمعية - والكاتب المسرحي المشهور فيما بعد - «إبراهيم رمزي» الموظف في نظارة الزراعة فعرض جملة أسئلة عن ترقية التمثيل، وما يقصد منه لإحياء الشعور والقومية. فرد عليه حضرة «عبد الحميد حمدي» المحرر في جريدة «مصر»، وتناول الكلام عن مسألة النساء المصريات والتمثيل فقال: «إن الموضوع سابق لأوانه ويجب أن نتركه للتطور الزمني. ولا ضرر من الاتكال على السوريات مؤقتاً حتى تستعد المصريات له».


سيد علي إسماعيل