التغريبة.. ومغامرة التجريب على التراث

التغريبة.. ومغامرة التجريب على التراث

العدد 717 صدر بتاريخ 24مايو2021

 حين تلتقي فكرة المؤلف مع رؤية المخرج يكون الرابح هنا المتلقي وهو ما حدث بين الكاتب بكري عبد الحميد والمخرجة منار زين، ليخرجا لنا العرض المسرحي (التغريبة «بنت الزناتي») المستمد من السيرة الهلالية وهي من أشهر السير الشعبية العربية المتمثلة في ملحمة طويلة تحكي تفاصيل هجرة بني هلال وخروجهم من ديارهم بنجد وتغريبهم في تونس، ولذلك فالعرض مغامرة كبرى اقدما عليها معًا، فكان المؤلف مجربًا حين نسج صراعًا خياليًا مع شخصيات تركوا الحياة ورحلوا، بينما الصراع الحقيقي بين طرفين هما: دياب وسعدة، لكنه استدعى كل شخصيات السيرة من مرقدهم ليقوموا بحماية سعدة التي تستنجد بهم وهي تعلم أنهم أموات، ومن خلال هذا الصراع الوهمي تتكشف كل تفاصيل الحكاية للمتلقي، فسعدة خانت أبوها ليقتل على يد دياب، من أجل حبيبها مرعي المعتدي والمغتصب لبلادها، لتلقى في النهاية جزاء خيانتها لأبوها وبلدتها تونس التي سلمتها بإيديها للهلايل، هذه فكرة المؤلف الذي رسم الشخصيات وكتب الحوار وأدخلنا دائرة هذا الصراع الوهمي الذي نسجه ببراعة.
 واستخدمت  المخرجة أيضًا المنهج التجريبي مع العرض حين أطلقت العنان لخيالها وفكرها المختلف لتجعل المتلقي ينتقل معها في رحلة مدهشة عبر الأزمنة والأماكن المختلفة، فلم تجعله يرى ما يحدث عادة في المسرح من تغيير المشاهد والديكور وحركة الممثلين، فأجلسته على قرص متحرك يدور به كالرحاية، ليرى بنفسه ما حدث في الماضي ويعيشه مع أبطال الرواية وهم يكشفون أوراق اللعبة والفخ الذي نسج لسعده باسم الحب، ويعود ليستكمل تفاصيل الأحداث الحالية، من خلال توظيف تقنية الفلاش باك، كما يدور القرص أيضًا بينما يتم دخول وخروج الممثلين، وقد تلائم هذا التكنيك مع تقديم العرض في قاعة وليس على خشبة مسرح، فاستفادت من كل المساحات وقدمت عرضًا مسرحيًا متميزًا، مزجت فيه بين التراث المتمثل في كل مفردات السيرة الشعبية المتمثلة في الشخصيات والأحداث واللهجات والملابس، وقد بدأت وانتهت وتخللها راوي السيرة الشعبية الذي اصطحب الجمهور من الخارج ليدخلهم عالم الحكاية، مع الاعتماد على الدراما الحركية لتعيد إنتاج السيرة الشعبية بشكل جديد ومختلف يتماشى مع تقنيات العصر ويحمل بصمتها، وبصمة الفنان المتميز مناضل عنتر الذي صمم عدة حوارات بين سعدة وحبيها مرعي، وسعدة ودياب، وسعدة ودياب ومرعي، دياب وأبو زيد وجميعها بحضور الأغبر الذي يجسد دور الشيطان في تحريض دياب على سعده، تنتهي بسقوط سعدة بين أنياب دياب والتعبير عنه بصلبها، كذلك الأداء الحركي الذي قُدم في إطار لوحات تشكيلية نفذتها الفنانات: «نعمة ، نور، شيماء، مني، چني ، چولي» ببراعة، مع موسيقي هاني عبد الناصر، والذي قام بتوزيعها مصطفي حافظ، غناء: فاطمة عادل مع أغاني السيرة المصاحبة للأحداث ل هاني عبد الناصر وهبة سليمان، وقد تميزت الملابس التي قامت بتصميمها شروق سامي، بالجمع بين زمكانية الأحداث وطبيعة كل شخصية من خلال الألوان وما تمثله من دلالات، على سبيل المثال ملابس دياب والأغبر وهما الأكثر شرًا. سعده وردائها الأخضر الذي يعبر عن تونس، كذلك مكياج الفنانة وفاء داود الذي يجعلنا نرى مافي داخل الشخصية.
  الديكور الذي صممه عمرو الأشرف والذي اعتمد فيه على التقصيم حيث قصر الهلايل من جهة، والجهة المقابلة تونس حيث منزل سعده و أهم ما يميزه الشجرة الجرداء التي توحي بالخراب والدمار الذي أحل على البلاد بعد تسليمها للهلايل وكذلك السجن، والذي قام بتصميم الإضاءة أيضًا.
 ووفقت المخرجة أيضًا في اختيار الممثلين وتوزيع الأدوار خاصة فاطمة عادل «سعدة» التي قدمت عدة تابلوهات غاية في الروعة والإتقان مع الراقص عبد ميدو آدم الذي جسد شخصية مرعي، ومع محمد حفظي الذي جسد شخصية دياب، خاصة مشهد التحطيب، والمشهد الأخير الذي جسد نجاح دياب في إيقاع سعده بين أنيابه والنيل منها بصورة غاية في العبقرية وهي صلب سعده، كذلك الآداء التمثيلي والغناء، بينما نجح محمد حفظي في تجسيد الشخصية الشريرة بملامحه وأداءه المتميز جدًا ومرونته الجسدية، عبد الباري سعد الذي جسد شخصية «الأغبر» وهي شخصية من أصعب الشخصيات حيث حركة الجسد المعتل والتعبير المحير للعيون التي تستمتع بالشر، أحمد شومان «الزناتي»، أحمد يحيي «رزق»، هبة سليمان «شلقامية»، هدي عبد العزيز «خضرة»، سارة مصطفي «الجازية»، أحمد عصمت «حسن»، محمد علاء «أبو زيد»، مصطفي يوسف، هاني عبد الهادي، أحمد مهدي، ضحي محمد، محمد أشرف، جميعهم متميزون وعلى قدر المسئولية رغم تفاوت أهمية الشخصية وحجم الدور.
 عرض التغريبة «بنت الزناتي» إنتاج الفرقة القومية للموسيقى والآلات الشعبية بمسرح البالون التابع للبيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية بقيادة الدكتور عادل عبده، تأليف بكري عبد الحميد، إخراج منار زين.


نور الهدى عبد المنعم