العذراء والموت ثورة نسوية مقنعة

العذراء والموت ثورة نسوية مقنعة

العدد 582 صدر بتاريخ 22أكتوبر2018

«ثمة أناس يموتون من أجل أن نستمر نحن على قيد الحياة. فلزامًا علينا أن نقدّم لهم شيئًا ما، كيف يمكننا أن نفعل ذلك؟ كيف بوسعنا أن نتحدث إليهم، نحكي قصصهم، ومن أجلهم».
دورفمان

العذراء والموت.. اسم أطلق على إحدى رباعيات المؤلف الموسيقى النمساوي «فرانز شوبرت» بعد وفاته، التي قام بتأليفها عام 1824 قبل وفاته بأربعة أعوام، وبعد إصابته بمرض الزهري لتعبر عن مشاعره حيال تلك التجربة المأساوية، في ما بعد استخدمها الكاتب التشيلي «أرييل دورفمان» كدليل على جريمة في مسرحيته «الموت والعذراء» التي اقتبس اسمها من المصدر نفسه أيضا.
يقوم النص بتفعيل «الذاكرة التاريخية» عن طريق استحضار إحدى جرائم النظام الديكتاتوري بعد فنائه ومحاولات ترميم الديمقراطية الحديثة لما تم تحطيمه من خلال النظام البائد، وهي جريمة الاختفاء القسري والاغتصاب داخل معتقلات الفاشية، التي يسردها بشكل درامي ثلاثي بين المجني عليها «باولينا» وزوجها «اسكوبار» والطبيب «ميراندا»، وتدور الأحداث حول الخلافات بين الزوجين التي تسببها عصبية الزوجة التي تحطمت نفسيتها نتيجة للاعتقال منذ خمسة عشر عامًا، ومحاولات زوجها لمساعدتها على تخطي تلك الأزمة وهو محامٍ جاءه قرار تعيين في هيئة المحلفين للبحث في قضايا النظام السابق، ثم يدخل الطبيب إلى الأحداث عن طريق مساعدة الزوج بعدما انثقب إطار سيارته، ثم يأتي لزيارته في المنزل بعد إعلان تعيينه في الإذاعة، من ثم يحدث فعل التعرف بين الزوجة والطبيب الذي تعتقد أنه من قام باغتصابها وممارسة التجارب عليها في المعتقل، وتقوم بالاتفاق مع زوجها بإعادة تمثيل الجريمة لإثارة مشاعر الطبيب ليعترف، وبالفعل يتدخل الطبيب ويقول أسماء المساعدين بطريقة صحيحة على عكس خطأهم بها أثناء التمثيل، ليتم العفو عنه ولكن بعد الاعتراف.
أما عرض “العذاء والموت” الذي تم إنتاجه على خشبة المعهد العالي للفنون المسرحية، والذي قامت فيه المخرجة «سماء إبراهيم» بإعداد النص المسرحي «الموت والعذراء» ليتم عرضه في إطار فعاليات «المهرجان العالمي»، وكانت معالجة العرض على الرغم من اقترابها وبشدة للنص الأصلي، إلا في شكل تمثيل الجريمة التي تمت في العرض عن طريق السرد غير المتفق عليه بين الزوجين، فالزوج هنا أيضا ضد زوجته وعلى العكس يتم الاتفاق بينه والطبيب، ليظهر شكل العرض بشكل نسوي بدلاً عن أصله السياسي، فنجد الطبيب الذي هتك عرضها ودمر حياتها والزوج الذي يهدف للحفاظ على شكله أمام المجتمع، ولا يتحرك إلا لتخيله أن تلك الزوجة تحتل جزءا من شرفه وعرضه وأن هذا الطبيب أذى هذا الشرف، لكن لم يتحرك الزوج من أجل نفسيتها المحطمة ولم يسمع لصوتها كعاقل.
أما باولينا التي قامت بأدائها «رنا خطاب» فهب صوت الثورة والتمرد تمسك بالسلاح وتهدد طوال العرض للحصول على حقها فقط، وقد عبرت الممثلة عن التغييرات النفسية التي تمر بها المرأة ببراعة، كما أنها وضحت أن ما لديها مجرد خلل نفسي ليس لدرجة عدم التمييز كما اتهمها الزوج، وطوال أحداث العرض تظهر الزوجة في المنزل لا تقوم بالخروج إلا للعثور على شريط «العذراء والموت» في سيارة الطبيب، أما غير ذلك فهي تلتزم بفضاء المنزل، على عكس الزوج الذي يتميز بفعلي الدخول والخروج الحر الذي قام بدوره «إيهاب محفوظ» بشكل حيادي مثير للشكوك أحيانا حول كونه هو الجاني وليس الطبيب، لتوضح النهاية أن الجريمة ذكورية عامة.
تميز ديكور «محمود هاشم» عن بقية عناصر العرض، فكان موضحًا لمكان سير الأحداث وهو منزل الزوجين، الذي يأتيه الطبيب كدخيل ولا يستطيع الخروج منه، وكان الديكور عبارة عن حوائط معلق على بعضها أحبال كجزء من ديكور المنزل، وكان في خلف المسرح ومركزه نافذة تطل على حديقة لكنها محاطة بالقضبان الحديدية، فأضافت مع الأحبال والتزام الزوجة للمنزل أجواء من القيود والكبت، واحتوى الديكور على قطع بسيطة من الأثاث التي استخدموها للجلوس والنقاش واستخدمتها الزوجة لتقوم بتقييد الطبيب على إحداها، قام بدور الطبيب «محمد يوسف» الذي عبر عن التنقلات بين البراءة والاعتراف بالذنب من حين لآخر بشكل مقنع محير للمتلقي بين كونه الجاني وباولينا امرأة مجنونة، أو أنه الجاني وباولينا المجني عليها، وكان في بداية ظهوره صعوبة في فهم الجمل الحوارية التي ينطق بها بسبب زيادتها في وقت قصير، وتعد تلك مشكلة إعدادية قوية.
تنوعت الإضاءة بين الأزرق والأحمر، بين الطمأنينة وأجواء الجريمة التي قامت بتصميمها المخرجة «سماء إبراهيم» أيضا، كما الموسيقى والتعبير عن أجواء الإثارة والحيرة وكان التأليف الموسيقي «لمحمد صلاح».
قامت أجواء العرض بالتركيز على الصرخة الأنثوية لباولينا، بين اغتصابها من شخص وقهرها من الآخر، وذلك على غير الهدف السياسي من النص الأصلي ويمكننا إرجاع عملية التلقي هنا للثقافة السائدة، فعندما تمت كتابة النص كانت مرحلة ما بعد الديكتاتورية فطبيعة التلقي تثير ذكريات ماضي البلد والجرائم التي حدثت فيه، أما نحن هنا والآن فيمكننا تلقي صرخات باولينا على أنها تمرد نسوي ضد التحرش والاضطهاد الخارجي، وبين عدم الاحترام والشكوك والقيود الداخلية مقابل النقود والراحة والطمأنينة، وينتهي العرض نهاية مفتوحة بصوت طلقة من المسدس الذي تقوم الحرب عليه من الثلاثة أطراف فلا نعلم هل انتصر التمرد أم تم إجهاضه.
يذكرنا العرض والنص كلاهما بأجواء «باييجو» المميزة في نص «القصة المزدوجة للدكتور بالمي» حيث يدور كلاهما حول فكرة ضحايا النظام الفاشي، وبين الثلاثي الزوج والزوجة والطبيب النفسي، وأن الضحايا ليسوا فقط المجني عليهم بل الجلادين أيضا وذلك ما وضحه الطبيب أثناء اشتعال عاطفته عن أبيه وكيفية قتله على يد الثوار، فالحرب والديكتاتورية والكبت أيضا يقتلان الإنسانية عامة وليس أفراد بعينهم.
 


أماني الشناوي