المسرح المصرى «سؤال النشأة».. مقاربة أولية (1-2)

 المسرح المصرى «سؤال النشأة».. مقاربة أولية (1-2)

العدد 703 صدر بتاريخ 15فبراير2021

إلى الآن والتأريخ لنشأة المسرح المصرى لا يتجاوز حدود السرد الإخبارى المتعلق بالظهور المتوالى لعروض الفِرَق المختلفة، وكذلك الرواد الأوائل... وعدا التفسيرات الإجتماعية المُعَمَّمة، الخاصة بنشأة البرجوازية المصرية بتطلعاتها واحتياجاتها الجمالية الجديدة وسعيها الدائب لإشباع تلك الإحتياجات، لا توجد لدينا تفسيرات وتأويلات أخرى...
السرد الإخبارى للتاريخ، على أهميته، إلا إنه لا يزيد عن اشتغال على «المَتن الحكائى- التاريخى” المتتابع زمنيا، دون التفكير فى «المبنى الحكائى- التاريخى” ذاته، المتعلق بتحولات النسق الثقافى، بما يتضّمَّنه من عناصر «قديمة متحوِّلة وظيفيا»، وجديدة «مفجِّرة للنسق الثقافى القديم».
 ومما هو جدير بالذكر هنا، أن التفكير فى «التأريخ للمسرح المصرى” فى إطار التحولات النسقية المتعلقة بالثقافة المصرية ككل، هو الضامن الوحيد لإنتاج مرجعيات نظرية، تكون بمثابة «وعى جمالى- سوسيوثقافى”، يبديه المسرحيون بأنفسهم تجاه الفن الذى يزاولونه، تقنينا لمسيرته، وللأطر العديدة والمتنوعة الحاكمة له.
إنطلاقا من هذا- سأحاول هنا تقديم «مقاربة أولية»، هى فى حقيقتها دعوة لإعادة النظر فى عملية «التأريخ للمسرح المصرى”، إذ ليس فى المستطاع فهم واستيعاب أبعاد «الأزمة» التى آل إليها المسرح المصرى الآن، دون العودة إلى النشأة ذاتها، والعوامل التى ألحَّت بظهوره لدينا.

المرجعية المسرحية الغربية:
فى الدراسة التى نشرتها جريدة مسرحنا، على مدار الثلاثة أعداد السابقة مباشرة على هذا العدد، حاولت تقديم مقاربة أولية ذات طابع بانورامى لتاريخ المسرح الغربى «نصا وعرضا»، مستعرضا التحولات المفصلية التى قطعها عبر مسيرته الطويلة، بالإستناد إلى فلسفة اللغة والسيميولوجيا، فى الأساس، وانتهيت إلى التالى:
1 ــــ الإنسان البدائى لم يعرف مشكلة اللغة، فلدية كانت الكلمات هى الأشياء ذاتها، هذا التطابق بين العلامة اللغوية والمرجع كان يعنى أن نظام اللغة هو نفسه نظام الأشياء... وهو ما أدَّى إلى ظهور السحر «وفيه يهيمن الساحر على الأشياء باللغة» ، وكذلك الطقوس الجماعية «الدينية»، وأيضا عالم الأساطير...
وحين إزدوجت دلالة العلامة اللغوية، تحولت اللغة إلى «مشكلة»، فظهرت الفلسفة، وكذلك الدراما- يتحدث «جان بيير فرنان» فى كتابه «التراجيديا والأسطورة»، عن أن الإزدواج الدلالى للعلامة اللغوية هو الذى سمح بانبثاق الدراما من الطقس القديم  «ويضرب مثلا بأدويب ملكا»...
ـــ وبمراجعة تاريخ المسرح الغربى ، تبيَّن لى الآتى :
(الإزدواج الدلالى- الخاص بالعلامة اللغوية) ظل هو قوام الدراما الغربية، حتى منتصف القرن 19 تقريبا. وبالعودة إلى شيكسبير ، سنجده يشير على لسان مكبث إلى إشكالية الإزدواج الدلالى تلك مباشرة... «فهى الصانعة لسوء الفهم».

2 ـــــ التعدد الدلالى وظهور المخرج الحديث:  
مع صعود البرجوازية، وفى أعقاب الثورة الصناعية، تخلخل نظام المعنى القديم برمته، وظهرت المبادئ الثلاثة المؤسسة للحداثة: «مبدأ الذاتية، مبدأ الواقع، مبدأ التاريخانية)، وكما يقول ماركس فى البيان الشيوعى: تتميز الحضارة البرجوازية بأن [كل ما هو صلب يذوب فى الهواء]، ويعنى أن التغير الدائم والمستمر هو قوام الحضارة الغربية الجديدة.
مع الرومانسية- المذهب الأدبى والفنى المرافق لتلك المرحلة- كان قد تم تجاوز الجماليات الكلاسيكية والكلاسيكية الجديدة الملازمة لعصر النهضة. فبعد أن انتهى الغرب من إرساء التقاليد الجمالية الكلاسيكية، جاءت الرومانسية لتدشِّن أسطورة «الذات»- تلك التى دافع عنها ديكارت ومن بعده عصر التنوير، وسنلاحظ أن الرومانسيين هم أول من أشاروا- بعد شيكسبير- إلى الفولكلور “أو الثقافة الشعبية”، فى مقابل الثقافة الرسمية...
وهكذا تعددت الطبقات الإجتماعية والثقافات والأيديولوجيات والجماليات... من هنا، فى تلك المرحلة، كان قد تم تجاوز «الإزدواج الدلالى” الخاص بالعلامة إلى «التعدد الدلالى”، ولأن الواقع تغير؛ بفعل الثورة الصناعية، والثقافة ونظم الحكم البرجوازية، فقد تحولت المسرحيات القديمة «ومن ضمنها أعمال شيكسبير” إلى إشكالية؛ من حيث علاقة طرفى العلامة اللغوية- أى الدال بالمدلول- بالمرجع ..
لذا ظهر «ساكس ما يننجن” أول مخرج فى المسرح الحديث، بواقعيته المتحفية- التى كانت تعنى وضع النصوص الشيكسبيرية فى سياقها الزمكانى “التاريخى”، كى يتمكن المتفرج من استيعابها والإمساك بالمعنى...
لاحظ هنا أن «السياق الزمكانى” كان هو “الواقع” الخاص بالحدث المسرحى، كما يتجلى من خلال النص اللغوى، وهاهو «ما يننجن” يضعه بين قوسين، داخل سياق تاريخى جديد، مختلف...
قفى ذلك الوقت ظهرت إشكالية «زمن كتابة النص وزمن تقديم العرض»، وهى الإشكالية التى أدَّت إلى ظهور «الدراماتورج”؛ الذى يعمل على تكييف النص القديم بما يتوافق مع متطلبات العصر الجديد...

3 ـــــ بعد ذلك ستتوالى النظريات والمدارس الإخراجية فى الظهور مترافقة مع تطور العلوم والتكنولوجيا والأيديولوجيات أيضا.
لكن كل هذه التطورات كانت تصب فى “العلامة اللغوية وعلاقتها بالمرجع»، مما حول «العلامة اللغوية- النَّصِّيَّة» إلى إشكالية أكثر تعقيدا، حتى أن «كريج» طالب بإلإستغناء عن النصوص...
تلك الإشكالية هى نفسها التى جعلت «باختين” يقرر بأن “العلامة اللغوية حقل صراع عقائدى”، مع ملاحظة أن الشكليين الروس - وكان باختين واحدا منهم- كانوا معاصرين لـ «مايرهولد”؛ الذى تمرد على واقعية أستاذه ستانسلافسكى...
قبل باختين، كان «دى سوسير” قد أنتج نظريته- التى تفصل نظام اللغة عن نظام الأشياء، لتتحول العلامة اللغوية إلى «تدل- على الشئ” بدلا من “تمثل- الشئ”، كما أن “نيتشه” كان قد حول الفلسفة من “مشكلة الشئ- الديكارتية” إلى “مشكلة المعنى”؛ ذلك عندما أعاد تعريف العلامة اللغوية وقال بان الدال لا يخفى مدلولا محددا، بل عددا كبيرا من المدلولات هى مجموع إستعمالاته...
4 ـــــ تعدُّد المدارس الإخراجية، كان يعنى تعدد السياقات المرجعية المقترحة- تلك التى يستطيع المتفرج من خلالها «تأويل النصوص» ومن ثم استيعابها...
هذا وأهمية السياق المرجعى فى العرض المسرحى تعود فى الأساس إلى أنه هو الضامن للإمساك بمعنى العرض؛ وهذا يتعلق بالإستعارة التى يتأسس عليها العرض المسرحى.
فكل عرض هو إستعارة كبرى، أى أنه يتكون من عدد هائل من العلاقات الثنائية الناشبة بين أطراف متنافرة أو متضادة، يتم الجمع بينها مجازيا عبر «وجه شبه ما» هو المعنى، لكن المعنى لا يوجد بداخل الإستعارة ذاتها، بل خارجها، فى الواقع المشترك بين صانع الإستعارة ومتلقيها، هذا والمتلقى عادة ما يفهم معنى الإستعارة وفقا لمبدأ «الإحالة»، ذلك انه يحيل الطرفين اللذين جمعت بينهما الإستعارة إلى الواقع، ثم يعقد مقارنة بين وضعهما الواقعى ووضعهما الإستعارى، وفى المسافة الفاصلة بين الواقع والإستعارة يولد المعنى؛ بما هو إنحراف عن الأصل الواقعى.
من هنا يبدو واضحا أن «الواقع» هو السياق اللازم لفهم الإستعارة...
كل استعارة تتضمن بالضرورة الإشارة إلى الواقع الأصلى الذى انحدرت منه، أعنى أنها تحدِّد لنا ذلك الجزء من الواقع الممتد بلا نهاية الذى علينا الإحالة إليه.
هذا وإستعارة العرض «المصاغة بلغات خشبة المسرح»، إن هى إلا تركيب إستعارى جديد من إستعارات قديمة متداولة هى ما نطلق عليه إصطلاح «الواقع»- أى أن الواقع الذى تحيلنا إليه الإستعارة ليس هو الأشياء والوقائع المادية، بل هو السياق المرجعى الذى تواضعنا ثقافيا على أنه الواقع...
وتجدر اللإشارة إلى أن «كتاب : الإستعارات التى نحيا بها- للايكوف وجونسون» هام جدا فى الكشف عن هذا المنحى الذى تحدث عن نيتشه وهيدجر ودريدا بغموض، حين قالوا بأنه لا وجود لثنائية «الواقع / المجاز»، وما يوجد هو المجاز فقط ، إنطلاقا من قول «هيجل» بأن [تسمية شئ ما هى إماتة لذلك الشئ].
ما يعنينى مما سبق هو أن الإستعارة تتضمن عادة إشارة إلى الواقع الأصلى الذى انحدرت منه، بما هو السياق المرجعى الحاوى لمعناها.
السياق المرجعى، الذى تتضمنه الإستعارة، هو [البنينة التصورية الكامنة فى الذهن على هيئة نماذج إستعارية أساسية، هى مرجعيتنا فى توليد الإستعارات الجديدة]، وهو ما يعنى أن الواقع يتمثل فى أذهاننا على هيأة «إستعارات”.
من هنا فما يفعله «المخرج المسرحى” فى صناعة العرض كـ «إستعارة كبرى»، هو تفعيل النماذج الإستعارية الكامنة فى ذهن المتفرج، ودفعه للإشتباك بها مع «إستعارة العرض»، بغرض توليد المعنى.
وحين تعدَّد الواقع - بما هو مواضعة ثقافية- تبعا لتعدد الأيديولوجيات؛ إذ ظهر المخرج المسرحى فى عصر التعدد الأيديولوجى- كما أشرت من قبل. أقول حين تعدد الواقع، تحول “السياق المرجعى- الذى يستحيل علينا الإمساك بالمعنى بدونه- إلى إشكالية»، من هنا تعددت المدارس والمذاهب الإخراجية، وبطبيعة الحال لعب التطور التكنولوجى دورا هاما فى هذا المجال...

5 ـــــ بالبحث فى هذا المجال، تبيَّن لى أننا نتناول الإستعارة المسرحية المجسدة «المرئية»، وفقا للنموذج الإستعارى اللغوى- هذا على الرغم من أن هذا الأخير يسير فى إتجاه واحد من المستعار منه إلى المستعار له، أما الإستعارة المجسدة فتسير فى إتجاهين متضادين، أى أنها «إستعارة مزدوجة»؛ فحين أقول «زيد أسد»، فإننى أخذ من الأسد إحدى خواصه، وهى هنا «الشجاعة» وأخلعها على زيد، أما حين أرى زيدا على خشبة المسرح مرتديا فروة الأسد، فبنفس القدر الذى تأسَّد به زيد، سنجد أن الأسد قد تأنسن أيضا. لكننا لا ننتبه إلى أن تلك الإزدواجية- فى إطار العرض المسرحى المتشابك الإستعارت- هى التى تجعلنا نختلف مع بعضنا البعض بل ومع أنفسنا أيضا فى تحديد المعنى الكلى للعرض.
وهكذا، تعدَّد دلالات العرض صار ظاهرة ملازمة للعروض المسرحية قاطبة، بل إنها ستزداد تعقيدا بمرور الزمن لاسيما بعد تحول العلامة اللغوية من «التعدد الدلالى” إلى “الإنتشار الدلالى”- مما جعل البعض- كدريدا، على سبيل المثال- يتحدثون عن «تدمير العلامة اللغوية».
هذا التدمير الذى أصاب العلامة اللغوية، هو الذى أدَّى- فى السياق التطورى الذى شهدته تكنولوجيا الصورة، إلى التحول إلى «المسرح ما بعد الدرامى- أو مسرح الصورة»؛ فى محاولة للإمساك بالأشياء، هى نفسها... أما النص اللغوى، فهو ما ينبثق من تأويل المتفرج، أى أن العرض فى «مسرح الصورة» صار سابقا فى الوجود على النص.
مع ملاحظة أن تعدد النصوص «الخاص بالمتفرجين»، فى «المسرح ما بعد الدرامى” هو المقابل الذى تحول إليه المسرح راهنا؛ المقابل للعروض العديدة التى كان ينتجها «المسرح الدرامى” فى مخيِّلة المتفرجين، نظرا لأن اللغة التى تنحدر من أفواه الممثلين أثناء العرض؛ تلك المتعددة الدلالات، كانت تحمل فى طياتها «تمثيلات، أو تجسيدات أو مرجعيات» عديدة. 


محمد حامد السلامونى