الأسانسير .. عالم غريب وحدا فاصلا بين الحياة والموت

الأسانسير ..   عالم غريب وحدا فاصلا بين الحياة والموت

العدد 697 صدر بتاريخ 4يناير2021

« الإيمان شعلة لا تنير شيئا .. لكنها تبعث الدفء»
لعلها الجملة الأبرز  وهي خاتمة مسرحية فندق العالمين للمؤلف إيمانويل شميت، والتي قدمها المخرج فادي نشأت بعنوان (الأسانسير)  تحت رعاية نقابة المهن التمثيلية ضمن فاعليات مهرجان المسرح القومي  في دورته الثالثة عشر (دورة الأباء)
المسرحية من عنوانها (فندق العالمين) تشكّل عالما غريبا وحدّا فاصلا بين عالم الحياة وعالم الموت، لتطرح لنا أسئلة فلسفية حول الموت والحياة و جدليات أخرى عديدة  تشتبك معها،  فهل  الحياة منحة؟ والموت هو العقاب؟ أين يكمن النعيم و أين الحجيم؟ من نحن؟ ومن أين أتينا؟ و إلى أين نحن ذاهبون ؟! هذه التساؤلات ليست جديدة ورغم ذلك فهي تفرض نفسها وبقوة على الجنس البشري بأسره، وستظل مطروحة، رغم كل المحاولات الفلسفية والدينية  التي طرحت هذه التساؤلات و خاضت فيها و حار فيها المفكرون   عبر التاريخ البشري بأسره، إلا أنها ستظل مطروحة لا تنتهى.
ومن هنا انطلق شميت في مسرحيته والتي  تدور أحداثها  داخل مكان غير معروف، عبارة عن  فندق  يحوي خمسة نزلاء، هم: جوليان بورتال، والمنجم رادجبور، والرئيس دلبيك، ولورا وماري، جميعهم لا يعلمون كيف انتهى بهم المطاف إلى هذا المكان، ولا إلى أين سيؤول بهم الأمر في النهاية،  مكان غريب عجيب،  ولا أحد يعلم متى سيغادره وإلى أي جهة سيرحل..
ومن الجدل حول  تفسير الحياة والموت إلى المساواة بين البشر، فالرئيس ديلبك يرفض أن يكون البشر متساوون و إلا صاروا أنماطا ونسخا متشابهه بينما المنجم رادجبور يرى أن ما يصنع قيمة الإنسان هو الإنسان نفسه، ثم قضية الغني والفقر، و ما إن يفتح باب المصعد معلنا عن وصول لورا إلى المكان فيفجّر قضيته الأساسية وهي (الحب) فنكتشف أن قلبها مريضا  وأنها تحتاج قلبا آخر.
إن شخصيات المسرحية على تنوعها داخل الفندق جميعهم لا يعرف إين هو ؟ وما الذي أتى به إلى هنا؟ فيخمن جوليان أنهم في مستشفى أو بالأحرى مصحة للأمراض النفسية، ولكن دكتور s تخبرهم أنهم في مكان انتظار بين الحياة والموت، وتكشف لكل واحد منهم عن سبب وجوده هنا، فكل من يتعرض لحادث أو ما شابه يدخل للمستشفى وتظل روحه في هذا المكان بين الحياة والموت فإن شفى يركب المصعد ويعود للحياة، و إن مات فإنه يصعد للسماء.
المسرحية هي لحظة انتظار، أو بمثابة وقفة مع لحظية مع النفس، تثير العقل والتساؤل لندرك كنه الحياة والغاية منها.
إن تعامل المخرج فادي نشأت مع النص كان حاذقا و واعيا فهو كثف في اتجاه الفكرة الكلية، فلم يستعرض عضلاته الاخراجية بل تعمّد البساطة والتأكيد على الأفكار التي يطرحها النص، و رغم أن طبيعة العرض تتعرض لقضايا فلسفية بل و جدليات شائكة ولاسيما في  مجتمع متدين -كمجتمعنا-  إلا أنه كان حذرا و واعيا واعتمد على البساطة في تمرير الجدليات الفلسفية و طرحها، في صيغة درامية سلسلة وبسيطة.
وقد ساعده على ذلك الممثلون بوعيهم الشديد و أدائهم المتقن، فقد لعب إيهاب محفوظ دور جوليان وهو الشاب الذي قضى حياته في مواعدة  الفتيات والمغامرات النسائية واللعب بقلوبهن، فالحياة بالنسبة له لا تعني سوى لحظات المتعة والحب، لا يؤمن بدين ولا إله، أو بالأحرى لم يشغل باله بالتفكير في هذه الأمور، فهو يعيش حياة اللهو والعبث والمجون، إلى أن عمل حادثة بسيارته حين كان مخمورا و اصطدم بشجرة وتم نقله إلى المستشفى ودخل في غيبوبة، ليجد نفسه في فندق العالمين، في البداية كان مندهشا و متوترا لكنه بعد مقابلة دكتورة s, تفهم الموقف و تحولت أفكاره بعدما أحب ماري والتي كان حبها صادقا وأكسب حياته معناها وما كان يفتقده من إيمان .
أما المنجم رادجبور والذي قام بدوره محمد هاني وهو ممثل من طراز فريد، فهو يكسب شخصياته روحا وخصوصية شديدة، و قد لعب شخصية رادجبور بتركيباتها النفسية  بسلاسة وخفة ظل  شديدتين .. فلا تملك إلا أن تغرم به وبالروح التي أضفاها على الشخصية التي يؤديها، خاصة وهو يضحى بقلبه من أجل أن تعيش ماري وكيف استقبل الموت بابتسامة هادئة هانئة مدركا أن  السعادة في وهب السعادة للآخرين.
أما الرئيس دلبيك أو المدير كما كانوا يسمونه في العرض والذي لعب دوره أحمد ابوعميرة بخامة صوته الجهور المميزة .. والذي جسد صاحب السلطة و رأس المال، و دليبيك هو رجل مسيحي تقليدي، لكنه يعتبر أي سرقة أو عمليات احتيال إنما هي ذنوب طفيفة.. وقد كان مصيره العودة الحياة مرة أخرى، ليؤكد المؤلف والمخرج على أن الحياة نفسها قد تكون منحة و قد تكون  عقابا أيضا، وأن الموت ليس هو العقاب.
أما هنادي عبدالخالق في دور دكتور اس، فقد كانت رمانة الميزان التي تحافظ على ايقاع العرض على مستوى الأداء الراسخ الواثق وعلى مستوى الدراما، فهي الشخصية التي تتحكم في سير الأحداث وهي التي تكشف عن مفاصل الدراما تحولاتها وصيرورتها، وقد جاء أداءها هادئا، مشوقا و ممتعا.
وتميز كذلك كل من منه حمدي في دور ماري والتي لعبت دور فتاة تبدو تافهة و ثرثارة رغم أنفها، كالكثيرين والكثيرات ممن يعيشن حياتهن ويمتن دونما هدف و معنى
 و هدير عبدالناصر في دور لورا حيث  كانت ملائكية الحضور، برشاقتها وبرائتها، فقد جسدت قيمة الحب والذي كان سببا في تحول كل من جوليان و رادجبور .
و مصطفى خالد في دور المساعد الذي كان مميزا بصمته الذي اكسبه غرابة، ونظرات عينيه المخيفة وحضوره الذي يؤكد على غرابة المكان ذي القوانين الخاصة.
وتميزت موسيقى مارك اسكندر إذ لا تشعر بوجودها كما لو كانت من نسيج المكان، ويحسب للمخرج إنها كانت محدودة ولم تمثل عبئا على العمل
وباقي عناصر السينوغرافيا من ديكور هاجر سعيد  واضاءة وليد درويش جاء ملائما متناغما مع حالة العرض .. فقد راعى غرائبية المكان عبر كتلة دائرية ضخمة مضيئة في عمق منتصف المسرح وبداخلها باب تدخل منه دكتور s و على اليمين واليسار بابان وشكلهما غير منتظم مما أكد على غرابة المكان، والبابان مزودان  بإضاءات ليد حداثية .. يضيئان بمجرد العبور منهما ..
إلا أن وجود كاميرا للبث المباشر على الخلفية في لحظات وجود الشخصيات امام باب الاسانسير كان زائدا .. لأنها تعرض ما نراه بالفعل حاضرا على المسرح، و لا تعرض شيئا مخفيا لا نراه، كداخل الاسانسير او داخل الغرف وخلافه .
و يمكن القول أن الاسانسير هي تجربة شديدة التميز في موضوعها و الرؤية التي تبناها العمل، و إن كان قد انتصر للإيمان في النهاية .. لكنه كان إيمانا و اعيا بأننا نحن من نملك الاختيار ونحن من نُكسب الحياة قيمتها بوجودنا فيها.


عماد علواني