«حضرة البوح» لويزا ومارين أول مسرحية مغربية تتناول موضوع صناعة الإرهاب والإرهابيين في العالم

«حضرة البوح» لويزا ومارين أول مسرحية مغربية تتناول موضوع صناعة الإرهاب والإرهابيين في العالم

العدد 684 صدر بتاريخ 5أكتوبر2020

صدرت مسرحية (حضرة البوح) في طبعتها الأولى سنة 2020 لكن ظروف تفشي جائحة كوفيد 19 (كورونا) حالت دون تداولها وتوزيعها وهذه مقدمة ملحمة العصر كما تمت تسميتها.
عتبة
 عندما تصير الكتابة عصية لا تطاوع أفكاري ولا تساعدني على إظهار ما تفكر فيه معي، وأُفكر معها حول مدارات الحياة، و عندما لا تعطيني فرصة للتفكير والبحث عن جسور توصلني إلى ما أود كتابته عن هذه الحياة، والكتابة عن مظاهر انفراج الزمن أو تعثره، وعندما تنسد أمامي كل أبواب تحديد الدلالات التي يمكن أن تسعفني بمعانقة حلم في واقع، أو معانقة واقع في حلم، أو الاقتراب من كلام به يمكن بناء ما أودّ سرده في بنيات أجدها ـ دائما ـ  تحتاج إلى حياة، وحياة تحتاج إلى أنفاس، وأنفاس لا تودع امتداداتها الموجودة في المنتظر منها، فهذا يعني أن ما سأقدم عليه سيكون ولادة صعبة تحتاج إلى مخاضات تتفحص ألم ولادة الأفكار، وتتفحص وجع الغربة في حالات تحمل معاناة ضحايا الزمن العصيب، و تحتاج إلى مكابدة، وتحتاج إلى تأمل مغموس في بِشر يجب أن يبقى غارقا في حالات البحث عن مخرج من كل تشاؤم وتطيّر حتى أرى تشكله فيما ستسفر عليه تشكلات هذه الكتابة. 
 موضوع الإبداع يبقى دائما موجوداً في عالم مراوغ، ومخاتل، ومخادع، ملامحه موجودة، وضحاياه موجودون، وعناصره الفاعلة في التفكير تظل واقفة في انتظار من يدخلها إلى عالم الكتابة، أو أن الكتابة ستنقله بهدوء ـ من روتينية الوقوف في طوابير الفكر إلى تمظهراته الحقيقية ليبدأ الكلام في الكلام، و يبدأ توسّع النظر في النظر، ويبدأ البحث عن وجهة نظر لما سيُكتب.
 كلما أجلت البداية بدايتها في إنجاز ما تود إنجازه، فذلك من أجل تحمّل انتظار وضوح الأفكار حتى تنضج الفكرة أكثر، وتتوضح أعماقها أكثر لتكون أبلغ في سطوعها المؤقت  ليكون إشراقها ألمع، ويتحول ظهورها الخفوت إلى توقد دائم يُفصح عن معنى معاناة الكتابة  حتى تعينني على تجنب الدوران في دوامة الانتظار العقيم لكلام لا ينتمي بمعانيه إلى زمن التفكير في الإبداع لتوليد هوية هذا الإبداع وتحققه.  
   عندما يأتيني الموضوع بعنفه، وبجمالياته متسربلا في غموضه، طالبا مني قبوله، ويطلب مني وضعه ضمن آهتمامات همسي، ورؤيتي، فهذا يعني أنني سأكون أمام تجربة إبداعية جديدة تريدني أن أصبغ عليها رضاي بمسحة لافتة تكون أقرب إلى جنون الكتابة منها إلى التعقل المتكلف حتى تملك هذه الكتابة معي القدرة الممكنة على تأثيث الزمن المستحيل وصياغة زمن الإبداع المحتمل الذي لا أجد مثيله في الزمن الواقعي، ولا ألفيه ماثلا في الأحداث التي حدثت، أو الوقائع التي عرفها الزمن الحقيقي زمن الحروب، و الفتن والإرهاب، والتفجيرات، والعنصرية المحملة بالحقد، والمسيّرة بالفكر الإظلامي، لكن الكتابة بالإبداع تستحضر هذا العالم التراجيدي وفق رؤيتها وموقفها من أحداثه وكل غاياتها هي التمسك بزمن الوعي بمكونات تريد بها آمتلاك الوعي الحقيقي بعالمها حتى تدب الحيوية في فعل تغيير هذا العالم بما يوافق قيم الإنسان التي بدّدتها كل الأفكار الإظلامية التي توظف كل شيئ من أجل مسخ الجميل، والأبهى، والأنقى في الحياة.
 من هذا الزمن المخيف صار سر الكتابة الدرامية عندي كامنا  في حيوية الرؤية التي أتعامل بها مع عشق الاقتراب من هذا الموضوع وعالمه الممكن الناطق بحيوية التفاعل بحذر مع كل اقتراب ممكن و مستحيل  من مهندسي الارهاب لمعرفة مؤهلاتهم المسخرة لصناعة هذا الإرهاب، هذا المستحيل سيظل مستحيلا يزيد من أوار المعاناة  الملتهبة في الذات والمنطفئة في الواقع تحت تأثير التمويه الذي تمارسه الموانع، والتحريمات، والقوانين خادمة مصالح من له منفعة في إشعال الحرائق في العالم مدعومة بما تمارسه وسائل الإعلام المسخرة من قبل القوانين التي لا تريد أن ترى الإبداع حياً يفكر في عالمه بما يفكر به كل المبدعين ذوي الضمائر الحية، اليقظة، النبهانة، و لا تريد أن تترك التفكير حياً، والتساؤل حياً، وشعلة المعرفة متقدة بتحدي الذات والواقع لمعرفة الواقع.
  إن التحدي والتجاوز عند كل المبدعين في العالم  يظلان ـ كحالة وعي تاريخي ـ موصولين بشكل مباشر وغير مباشر إلى ما يجعل علاقتهيما بالأطروحة ونقيض الأطروحة عملاً إراديا غايته الكشف عن عالم الانكسارات في زمن العولمة وهم يتتبعون أسرارها، ويعيبون عنها ما تشيعه من مبادئ تحدُّ من معرفة المعرفة حين تذيع أفكارا هدّامة لا تبني مجدها إلا على أنقاض ثقافات أخرى، وحضارات أخرى، وفنون أخرى.
 من هذا التحدي أكتب دوماً ما يجعلني أعرف ما يضمره واقع هذا العالم وما يبطنه في ممارسته حتى أبوح بموقفي منه متتبعاً المكتوم والمخبأ فيه وأنا  أعيش دوماً على تقليص الأبعاد و المسافات الموجودة بين موقفي وممارسته، أو أعيش على إيقاع وجود ثبات حقيقي بين ما هو قار وبين ما هو متحول.
 الموضوع لا يقترب مني ولا أدنو منه إلا بغرض خفي أريد تحقيقه وأنا أكتب تاريخ ميلاد دلالات ما ستكتبه الكتابة عن العالم الذي أراه، وأفهمه بكل ما تمليه علىّ كل الانزياحات التي سترسخ ثقتها في الكتابة بعد أن تكون قد تحررت من كل تردد يؤجل الإظهار، والبوح، والعلن، لأن التردد يؤخر ميلاد التمثل الحقيقي لنبض العشق الأول للموضوع الذي سيرى النور لاحقا حين سيصير هو عشق العشق الرافض لكل أشكال العنف الذي يمارسه الأغبياء على العقلاء وهو يبيعون ويشترون أجمل ما في العالم، وأغلى ما فيه وهو حياة البشر.
في البيع والشراء في القيم، وفي تبادل المصالح، يبرمج زعماء العولمة، والمتجبرون، والدكتاتوريون، والوسطاء، والمتسلطون على رقاب الناس ما يقع في العالم من صراعات  ظاهرها كما تدعي خطابات إعلامهم الرسمي هو تحقيق استثباب الأمن في العالم، وإنقاذ الأبرياء من الأغوال المتجبرين صانعي الإرهاب، لكن هذا الإرهاب في كواليسه، وفي تجليات أفعاله، سيظل صناعة حقيقية لتضارب المصالح بين الأمبريايات الجديدة الساعية إلى كسب غنائم جديدة، والاستحواذ على المسلوب من خيرات الفقراء حتى ولو اختلفت إيديولوجياتهم، ولغاتهم، وظمأهم للكسب الثمين.
 هذا الظاهر اللامع المُلمع بصورة العولمة التي تدعي أنها المنقذ الحقيقي للعالم المتخلف من إعاقة التخلف، و تحريره من عاهة الجهل، و علاجه من داء الأمراض، و حمايته من خطر أسلحة الدمار الشامل، لا يخفي أنها عولمة تبحث عن نصرها بما تتوفر عليه من ترسانة تكنولوجية متطورة، وعسكرية متقدمة ومخابراتية متمرسة بها تغزو الجغرافيات الغنية بمواردها، وتحدد ثرواتها الباطية حتى توطد أرباح شركاتها في عالم المال والأعمال، والبرصات، وتنصب أتباعها الذين يُسبحون بآسمها إيديولوجيا على رأس المسؤوليات في الدول التي يحتلونها كاستعمار جديد مُسيّر بمخططات مدروسة تكرس العلاقات القائمة شكلا على تحرير الشعوب، والدفع بالتنمية الاقتصادية والثقافية نحو التدرج من الحسن الرائج إلى الأحسن المحتكر، لكن عمق هذا كله يخفي السياسة الاستحواذية المتجبرة التي تقودها الأمبرياليات الجديدة في العالم الجديد عالم العولمة الذي لا شرعية فيه إلا شرعية الأقوى، وشرعية المتجبر المهيمن، وشرعية الرابح، وشرعية المنتصر.
 إنه المعطى الجديد للعالم كما تصوغه النزاعات، وترسمه التوترات لزرعه بين أقطاب الصراع، وهوما يظل يحفز سؤال المبدعين على فهم مدارات هذا العالم، ويدفع بهم إلى استدراج وعيهم كي يقبض على جمر عمق الصراع وقعره المغطى بالمظاهر ليستخرجوا منه أدبا جديداً، وشعراً جديداً، ورواية جديدة، ومسرحاً جديدا، وسينما جديدة، كلها نتاجات تتوحد في تقديم رؤيتها للعالم بما يناسب التزامها بالمخاض الذي به تتحقق الولادة الجديدة للرؤية الجديدة للإبداع الجديد.
 هذا النوع من الترابط بين المعطى المادي للتاريخ، والعلاقة بين الواقع والإبداع هو ما دفع بالعديد من المسرحيين إلى  البحث عن تمثلات مغايرة عن التمثلات السائدة في الكتابة المسرحية العالمية، فظهرت تيارات، وتشكلت توجهات برؤى كلها نابعة من طبيعة الفهم الجديد لما يحكم الذات بعد أن أعْصر الواقع بكل التناقضات مُحدثا رجة عنيفة في الوعي التاريخي لدى المسرحيين، فكانوا كلما آقتربوا من فهم هذا العالم إلا ووجدوا أنفسهم متورطين في تسييس المسرح، وهم يكتبون بالسياسة رؤى يستنبتونها في بنيات النص لتكون بسياقاتها المتورطة في السياق الدرامي نزوعاً نحو الإعلان عن فهم جديد للعالم يفصحون بخطاباته عن مكونات نفسية المسرحي وثقافته، وتفاعله مع عنف العالم الذي ألغى التواصل في العالم بحجة عدم وجود قاعدة مشتركة بين ثقافات الشعوب يمكنها أن توحد الكلام بالتفاهم، والتقارب، والأخذ والعطاء.
 من هنا جاء البحث عندي على مسرح محمل بوظيفة التشكيل اللغوي للنص لصوغ كل تمثلاتي للأحداث في بناء الشخصية التي لم تعد هي الشخصية المألوفة والمعروفة في التجارب السابقة، بل صارت علامة شفيفة تحمل معنى النص وهو  يقتحم أسرار أوزاره، و ويندمج مع معانته كما حمل ذلك كل مؤلف مسرحي جدّد سؤال هذه الأوزار ليحوّلها إلى تراجيديا متخيلة لعالم واقعي.    
  من هنا أردت أن أعيد الاعتبار للكتابة النصية بما يمكّننا من أن أرسخ هذا التفاعل بين الكتابة ومتخيلها أثنا بناء الأحداث، والانفعالات بالسرد الملائم للتغيير المسيّس القريب من عالم السياسة، لكنه في نهاية المطاف ينتمي إلى عالم المسرح بجماليات المسرح، وببلاغة اللغة المسرحية التي أقتحم بجرأتها كل مسكوت عنه في هذا العالم إفصاحاً عن حالة العالم الساكنة في عمق أعماق ما أطمح إلى كتابته، من هنا ولجت هذا الشكل من الكتابة المسرحية حتى تكون كتابة متشابكة تشابكاً حقيقياً مع زمانها، وتكون رؤية تراجيدية تقدم صورة زمني الذي أنتمي إليه، وتكون صورة هذا الزمن الذي ينتمي إلىّ وأنا أعيد لنص المؤلف حياته التي ضاعت بين كل دعوة بدأت تتزعم ـ خطأ ـ إلغاء النص المكتوب لصالح عرض بدون نص.
 أول ما شبك عندي سؤال الكتابة بهذا الموضوع هو سؤال كيفية تمثل ما يمكن التعبير عنه، ورسمه بكل ألوانه، وبكل أشكاله، وبكل معاناته لوضعه في البنية الدرامية المناسبة التي تكون على مقاسه دون أن تكون صورته وتجلياته نقلا فوتوغرافيا لمقاس سابق، لأن المغاير في الأصل سيكون إغناء لحضور دلالات الواقع في دلالات الهوية الجديدة للنص، وسيتمخض عنه بهذا الاشتباك صوغ تعابير شاعرة بشعرية اللحظات على الرغم من انحباسها في ذاكرة النسيان، لكني أريد أن  أسعفها بكل نبض  يمكن أن يضع لحياة البنية الدرامية الجديدة إمكانية تآلفها مع الواقع الجديد الذي بناها أو التي آنبنت به في النص الدرامي.
 بهذا التشابك المكون عندي من حالة نفسية، ووعي تاريخي، ومعرفة بالوقائع ومداراتها، لم تعد الكتابة مترددة في الإقدام على الرجوع إلى موضوع الإرهاب، و الحديث عن المرأة كقضايا ساخنة لا تزال حيّة بتناقضها ومفارقاتها في المجتمع العربي،  وهو ما أتوخى به  إبقاء التطرق إلى موضوعيهما، ومقاربة كل حالتيهما المأساوية حديثاً جريئا عن أوجاع الإنسان، وآنكساراته، وجرأته الهلوعة، وخوفه المقدام، وتردده المحسوب بالأنفاس المكلومة حباً، وشوقاً، وتطلعا إلى الخروج إلى العلن، والمشاركة في حياة أفضل، وأهنأ، وأسعد.
من هنا فإن نقل ظاهرة الإرهاب إلى عالم الكتابة المسرحية، واستعراض حالة المرأة الواعية في هذه الدراما سيكون عندي مسنودا إلى استحضار المتناقض الموجود بين الظاهرة والمرأة التي آكتوت بحرقة المفارقات، وكل مرماي أن ألتمس وضع كل علامة على طرفي نقيض من الإرهاب ومن يصنعه، وبين الوعي ومن يشكله، وهي الإشكالية التي لا يجمع بينهما إلا الاختلاف بين الأطراف المتنازعة لأن سيطرة المسيطر لم يترك للمرأة والرجل فرصة التعبير عن حاليها وأحوالها كي يبوحا بالمقموع في دمعيهما، ويتحدثان عن المكبوت في رؤيتيهما، ويخرجان المنحسر في آهاتيهما للعلن..
 جاء هذا التشابك بين الظاهرة وموضوع المرأة وقرينها الرجل نتيجة حتمية لكل ما جمعته من حالات وجدتها كلها تصطدم بعالم تصنيع الإنسان بالإيديولوجية الانتهازية، وجاء ـ أيضا ـ من معرفة نقيضهما(قزح) الرمز في النص الذي لا يحيل على نفسه ـ فقط ـ بل يحيل على العالم الذي يريده أن يكون موجودا وفق هواه،  ووفق ما تمليه عليه مصالح المهيمن عليه.
 ومن تجميع الحالات وما يجري في الحياة العادية لهذه المرأة، الواضحة منها والمستترة وراء حجب العادات والتقاليد، والمعرفة، وجدت ملمحاً يمكن أن يشعل نار الفتنة بين الكلمات، و يظهر الحالات كي تتوافق، ويقدم حالات المرأة حتى تنسجم مع ما تكتبه الكتابة بكل أتعابها ووعيها وهي تودّع صمتها في الكلمات الناطقة بسيرتها بحثا عن كلام يليق ببلاغة بوحها من أول همسة تتمنى أن تكون قد وصلت إلى ما تشتهيه بعقلها، وبأنوثتها، وتطلعاتها، وصولا إلى أحلامها المجهضة مثل الأحلام المجهضة لصنوها الرجل، لفضح عالم (قزح) وعقليته، وشيطنته في تفريخ الأتباع/الأشباح.
هذا  ما جعلني أميط اللثام عن هذه المرأة (العروف) التي بمعرفتها لنقيضها تقوم بفضحه، وبعملها، وبعلمها نختصر أوجاع كل حالات النساء وبوحهن الذي يمزج القلق بالأمل في العيش حتى يداوين جروحا تطهرهن بالتفاؤل من أدران واقع صار عنيداً وظالماً، و مجحفاً لا يرتفع لأنه واقع مستبد و قاسٍ يعتدي على الكرامة حين يتجبر، ويفتري كذبا عن المرأة والرجل والمجتمع للحد من شكل وجودهما لاسيما حين يشعر بقوتهما الفكرية حتى يتمكن من صناعة الأتباع، والمريدين، والأشباح.
 المرأة التي آخترتها لهذه الدراما الجريئة بحمولتها الرمزية والمكتوبة بجنون العالم وبرزانة علمها تسعى لمعرفة هذا العالم، وسرت معها ومع فكرها الهادئ في طريق صار يشك في الشكليات، ويشك في الثرثرة الإيديولوجية المزعجة، فجعلت منها أيقونة لموضوعها بعد  أن صارت بفكرها، ومواقفها رمزاً لكل النساء، فصغتها صياغة رمزية قائمة على عمل في صالون تجميل كـ: (مُدلّكة) في إحدى القاعات الرياضية، والتي تلتقي في عملها اليومي بالنساء، والرجال، لكن ما يهم هو رمز عملها، ووظيفتها، وحياتها المتحركة في الظلمة على إيقاع الرتابة، وطقوس التحنيط المؤقت الذي يزيل التعب، والقلق، وتشنج الأعصاب من جسد كل من يخضع لعملية (الدعك) التي تخفف من خشونة الأبدان حتى يلين الجلد بعد دلكه وتمريغه في وهم العودة إلى الليونة، والرخاوة، والنظافة، والإغواء، وهو الرمز الذي راهنت عليه كتقنية فنية ـ لاغير ـ لأنفذ معها إلى نفسيات من يأتي عندها بغية معرفتهم أكثر تسهيلا لبوحهم بالحياة المخبأة في لا شعورهم، فكانت تستدرج على وجه الخصوص الحالات النفسية لـ : (قزح) كي يتكلم بما يريد كي يتحول من شكله المتهالك إلى الشباب المتجدد الذي يريد بناءه على فكر مهزوز، وأعمال مشكوك في سلامتها من أجل أن يكون له مظهر محترم كما يريد.
بهذه التقنية رسمت حقيقة (قزح)، و(داسم) ليكونا مدخلا لكتابة دراما الحالات، والبوح، والنزاع، بوظيفة هذه المرأة التي هي  ـ في الأصل ـ محللة نفسية وضعت لها عن قصد هذه الصفة لآستخراج ما يمكن آستخراجه من حقائق ممن يأتي عندها محملاً بالعقد النفسية، والأوهام، والشعور العميق الذي يتكلم بدون شعور عن المكبوتات، والرغبات، و والأحلام التي كانت في أحلامه أوهاماً يريد تحقيقها في الواقع. 
 أخذت هذه الوظيفة كتقنية  للتركيز الشديد على الشخصية المتحولة في سياق الكتابة الدرامية لهذا النص وهي شخصية (قزح) بكل ما تحمله من صور تموج بكل حالات اللبس، والمراوغات باللعب السياسي بحثا عن الخير المفقود، و التركيز على المظهر بين الأشباح ليكون هو الظاهر المعبود ، ويصير هو المُدنّس الذي يقدس الجشع الممدود، ويزين لنفسه كل شره بالطمع ليكون هو القد المقدود، والشرهان الودود، لكنه في سلوكه يزيل من المجتمع كل بحبوحة ورفاهة وقنوع وميسرة.
بهذا التناقض يتولى النص ربط شخصية (قزح) بعملية الكشف عن كل العقليات، والنزوات، والأهواء التي ترافق عملية التليين التي تقوم بها (المُدلكة) لمعرفة الظواهر التي تحكم المجتمع بوجود (قزح)، لكن هذه الوظيفة ستتخذ أبعاداً أخرى ستنقل الوظيفة من مستواها المحدود في (عملية الاسترخاء) لتطل على العوالم النفسية، والاجتماعية، والسياسية الفاعلة في تصنيع ذهنية العنف التي يتعلم فيها زحل والأشباح دروسا في العنف ثم بعد ذلك يصنع له (عيداً) خاصا يوافق هواه وهوى من يبرمج العنف وفق ما يريده من يحكم العالم، وهو ما كان يسمح لكلام العريف والعروف بأن يسهرا على رسم الطرق التي تصله بالرمز إلى ما هو مقصي، ومحرم، ومدنّس أثناء الحديث عن الأجساد التي تتمّ من خلالها عملية جس نبض البنيات العميقة لمجتمع لا تحكمه إلا النزوات، والمصالح الخاصة، والأنانية، ودعم المجتمعات الفقيرة الحيرانة بالخرافات التي تترك كل من يفكر في مجتمعه حيرانا تتقاذفه الطبقات المتحكمة في المال والأعمال والمنابر السياسية بأفكارها المحنطة التي تتحالف مع قزح / إبليس رمز الشر.       
 هذه الأجسام المتوافقة في اختياراتها يمثلها( قزح، وداسم)، أما المرأة الأيقونة (العروف) فهي المحركة لأحداث السرد، والمتحركة بالوقائع التي يبنيها فكرها في حواراتها مع نقيضها، والمتطلعة إلى فهم بواعث أحداث لا يحركها إلا عالمها المظلم الظالم الذي يريد السياسيون أن يسرقوا منها أنوثتها ليتاجروا بها طمعا في الربح والغنى الفاحش، وهو ما آخترت له أسماء لا تحتضنها دلاليا إلا السياقات الجديدة للنص الجديد و ما ترويه بكلامها مع شريكها (العريف) نصفها المفكر بفكرها، والسائر معها فوق جمر التناقضات لتعرية (قزح) لتكون داخل سيرورة الأحداث المتنامية برمزيتها لا تحيل إلا على حقائق تعيش في العالم ولا يرتاح لها الناس لأنها لا توافق انتظاراتهم، ولا تستجيب لتطلعاتهم، لكنها تبقى متداولة بينهم في زمن الغربة، وفي زمن الخوف، وفي حالات ذبول الأفكار التي كانت تراهن على التغيير لكن أي تغيير لأي تبديل.   
 من بين هذه الأسماء التي اختارتها الكتابة للكتابة الدرامية لتكون حاملة لمنطوقها شخصية (العريف)الذي سيصير مُكوناً رئيساً في إتمام شخصية العروف لأنه يدخل في تكوين الحالات النفسية لأيقونة هذه الدراما وهي (المدلكة) (العروف) التي تحولت من تخصصها في الدراسات النفسية إلى آمتهان مهنة شريفة تضمن لها ما تسد به رمق عيشها، وعيش أسرتها.
 في البناء الدرامي لسيرة هذه الأيقونة هناك من سيكون معها في كل أزمنتها المتوترة وهو العنصر المكمل للموقف والموقف المضاد، والرأي والرأي المخالف، والكلام ونقيض الكلام لـ(قزح)، لكن هذه المفارقة لا تبعد صفة التوحد بين الأيقونة ونفسيتها المتحدثة بكلام العريف الذي يتناوب معها الكلام، والحالات حتى أن كل طرف إلا و يصير شاهداً على ما يحكيه الآخر، ويعايشه، ويتبناه، ويدافع عنه لأنه موقف مسنود إلى مكون أساس لبناء البديل الذي يريده الاثنان اللذان هما إثنان في واحد، كلامهما واحد، وأسئلتهما واحدة، وموقفهما واحد، وفضحهما لنفاق (قزح) وأبنائه واحد، لأنهما يعيشون بفخر في عالم النفاق السياسي يعلّمون مبادئه، ويلقنونه لسواهم ليظلوا بأفعالهم تجسيدا للشر حين يكونون جندا يشنون حربا ضد الله والملائكة وأماكن العبادة والإنسانية. 
   وإذا كان النزاع هو أساس بناء بلاغة هذا النص الدرامي بالشخوص التي تعمل وفق صراع تبنيه المواقف، والاختيارات، والخلفيات النفسية، والاجتماعية، والسياسية، فهذا لا يبعد بعض القصديات في تسمية كل شخصية إخترتها قبل إدراجها في هذا النزاع تسمية خاصة حتى يغتدي بها فعل الاختلاف بينها وبين باقي الأسماء بالأعمال والمواقف المتباينة، وهذا لا يتأتى إلا بوجود الشخصية الفاعلة التي تتحرك بالكلام الصريح، والخطاب المرموز وتمارس فعل الكشف عن خلل الواقع، وفساده، و ترصد الوهن والصدع والضعف كسمات صار يوصف بها عالم الحضارة المتوحشة التي تلغي البعد الإنساني الذي لم يعد يتحمل الترهيب في ترهيبه، والتخويف بالتخويف، والتهديد بالتهديد، من هنا كانت شاعرية حب الحياة، وكانت شاعرية التعبير عن عشق الحياة شاعريات متبادلة بين العروف والعريف بآعتبار أن عالميهما يشكل بمعناه عالماً واحداً يتوخي إسقاط أقنعة باقي أبناء (قزح)، وأشباحه، وأفكاره.
 الحمولة الدلالية لكل شخصية لا تبتعد عن وظيفة أفعالها، ولا تنأى عن مواقفها وتفكيرها في هذا النص الدرامي، فالآسم هو الدلالة الصغرى للتسمية في سياق بنائي الدرامي يكمله حضور الدلالة الكبرى التي بها تحتل كل شخصية موقعها في بنية الحوار، وتشارك في بناء المواقف تمييزاً لها عن باقي الشخصيات، وهذا ما يمكن تبيينه من خلال ما تقوله الدلالة الأولى لكل تسمية ترسم معنى الشخصية كالتالي: 
• العروف    : هي العالمة بالشئ، وخفاياه، وأسراره، وهي تدرك الصالح والطالح، وتفهم، وتحلل، وتركب إدراكها بإدراك عمق العواطف الصادقة، وإدراك الكذب في العواطف الكاذبة.
• العريف    : هو العارف العالم بكل الأمور، وهو القيم بأمور القوم وسيدهم، وهو من يعرف أصحابه وأعداءه، وفي هذا النص المسرحي هو الطيف (shdow ـ shade  ـ idol) الذي يظهر ويختفي أثناء ذروة التوتر ليكمل قلق، ومعرفة، وواقع العروف. إنه جنونها المتكلم بغضبها وما تراه في النوم وفي الخيال وفي يومها الكئيب. وهو الطيف الذي يستجيب لنداء ما هو غائب أثناء تفكيرها وهي تبحث عمن يحاورها بنفس العواطف، وبنفس الأحاسيس أثناء معايشة توترات اللحظة ورفضها.
• قزح :    هو من أشراف الملائكة ،هو عزازيل، وطرد من الجنة فصار آسمه إبليس لأنه صار بعيدا عن رحمة الله لمعصيته لخالقة، وصات له مجموعة من المسميات فهو أعور، وآسمه الحارث، وكنيته أبو مرة، وهو الشيطان. المشتقة من فعل شطُن بمعنى بعُد وإبليس في الثقافة اليونانية القديمة تعني ديابوليس وتعني المشتكي زورا، والتي آستخدمها الكتاب المقدس في العديد من المرات، وفي العديد من السياقات للإشارة إلى الشيطان، وعزازيل إسم عبراني ظهر للمرة الأولى في النصوص الكتابية اليهودية الأولى في سفر اللاويين، وفي الثقافة التركية والفارسية جاءت التسمية بلفظ الدلمز، والخيتعور.
وتعني كلمة إبليس في الثقافة العربية الإبلاس : الإبعاد. ورمز إبلاس على الرغم من اختلاف الأسماء يبقى محملا بنفس الدلالات فهو عدو البشرية،    بسبب دوره في خروج آدم من الجنة، ونزوله إلى الأرض ليكابد أبناؤه المشقة والكبد عبر الأزمنة.
على الرغم من كل التعريفات التي قدمتها الكتب السماوية، وقدمها المفسرون فإن فكرة الشر تبقى مطلقة يبقى فيها إبليس رمزا للشر الأكبر، ويبقى حاضرا دوما في الوعي الجمعي، والمخيلة الجمعية ، وحاضرا في الأساطير والقصص الخرافية القديمة، وتمّ توظيف رمز الشيطان في العديد من الروايات والنصوص المسرحية.
• داسم : هو من أبناء إبليس مهمته في المسرحية أنه يبيع ويشتري بأجر.وهو وسيط يتعامل نيابة عن أعضاء آخرين في البورصة، يسهل الصفقات، ويكون سمسار الفاحشة حين يكون وسيطاً بين رجل وآمرأة في علاقة غير شرعية،  و مهمته ـ أيضا ـ إثارة الفتن في البيت بين أهل البيت.
• مطرش    : هو من أبناء إبليس ـ أيضا ـ ومهمته في المسرحية تكمن في إشاعة الأخبار الكاذبة، وتدريب أتباعه على نشر المصائب في الدنيا.
• هفاف : هم من أبناء إبليس ويمثلون أبناء قزح، فهم صداه، ومريدوه، وأتباعه، وهم الطبالون الهتافون المبرمجون لما يريد إنجازه وفق ما تريد شعاراته. وتكمن وظيفته ـ أيضا ـ في إيذاء الناس وتخويفهم بالظهور لهم بهيئات حيوانات.
ويبقى سلوك ومزاج وقرارات قزح في هذا النص المسرحي مسيّراً  بالصفات التي أعطيته إياها كصفات إبليس القائمة على (الحركة، والاضطراب حيث صوته صياح وضجيج، وعندما يصرخ على القوم فإنه يفرقهم، و يخيفهم، ويشتت شملهم، وهو الوسواس الخناس صاحب الشر المطلق .
كل هذه الشخوص المستمدة من عمق التراث سيصير لها في هذا النص دور فاعل في نفي أو قبول الواقع، أو توجيه الأحداث وفق الأهواء ووفق المواقف المعارضة، ووفق المصلحة، ووفق سياسة الاستحواذ الممارس على العقليات، والأحلام، والأنفاس، والتطلعات المجتمعية، وقد صغتها برمزية  أدخلتهم ضمن من يحضر عملية التجميل عند (المدلكة) العروف، ووضعت لكل شخصية صفات، وأفعالا، وميولات بها كنت أبني كينونتها  الخاصة التي ستلتقي ـ حتما ـ بكل كينونة ستدخل في تكوين هوية النص المسرحي مستعينا بمعرفة دلالات إبليس كما وردت في الكتب المقدسة.
شخصية قزح وأتباعه هم عبارة عن أشباح حربائيين تتعدد ألوانهم بتعدد أصواتهم التي لا تنتمي إلا إلى جماعته ذات الولاء الأعمى للمصالح الصغرى التي تصنع المصلحة العليا لمن يحكمها دعما لزعيمها الذي يطبل له المطبلون بصياحهم، ويقومون بتلميع جهله بجهلهم، وينفخون في خطابته الفارغة بنفاقهم بعد أن صنعهم على مقاس مصلحته، بعد أن أخضعهم لدورات تدريبية لتعلم النفاق السياسي.
تتوخى هذه المسرحية كتابة تاريخ المرحلة المحكومة بالعولمة، وتتبع أفكار من يصنع الإرهاب، والسياسية الجديدة في العالم، وهي كتابة لا تريد السقوط في المباشرة التي تحيل على المرجعية الواقعية، أو تقديم شخصية نمطية تشبه الواقع وتتماثل معه، إن التشابه والتماثل لا يكون إلا وفق متخيل الكتابة وليس وفق الاستنساخ البارد لما هو موجود في المعيش ذلك أن الإبداع سيبقى نقيض الاتباع، وسيظل الإبداع حتما القادر على أن يُكون لرؤيته نموذجها الخاص الذي تُوثق فيه الحالات، والنزاعات حتى لو ولم تأخذ محدداتها من الواقع لتكون هي الواقع.
بشكل واضح هناك العديد من الكلمات التي تتكرر في حوارات أيقونة الأحداث (العروف) وطيفها(العريف) وهو تكرار جاء ثمرة ما تتطلبه عملية الكتابة وما تفرضه طبيعة الموضوع، وتحدده طبيعة المكان المجرد، والمعرفة و التماهي بين الذات ولونها الداخلي، مثل كلمات: ( الظلام ـ الظلمة ـ الغرفة ـ) وكلها عوالم مغلقة للنفس في ظلمتها، والمكان في سواده، والرؤية في التباسها، من هنا جعلت البوح بالعالم النفسي لأيقونة المسرحية، وجعلت المكان (الغرفة) حضرة تتم فيها عمليات البوح، فجاء تسمية هذه المسرحية بالتسمية التالية: (حضرة البوح) حيث توخيت أن أعطي لبوح المدينة كل ما يقربنا من زمن العنف الداعشي الممارس على الناس والعباد من قبل مروجي الجهل، والغباء، والجنس، والمخدرات، والجهاد الجنسي، وتشويه الأديان، وتحريم التعاطي مع كل ما يفتح أمام الإنسان أمل العيش بكرامة، وحرية، و العيش بثقة كاملة بما تمنحه الحياة، والمجتمع المحب للسلام، والعدل، والعدالة، والمساواة.
يريد كلام النص في مسرحية (حضرة البوح) أن يكشف أكثر عن شخصية (قزح) الذي يريد أن يكون سيد العالم، وسيد الأخلاق، وسيد النفاق، وسيد الفتاوى، وسيد المصلحة العليا في البيع والشراء، وسيد الديموقراطية المزعومة، ويكون الفحل السياسي الذي يبيح لنفسه كل شيئ، وهذا ما باحت ببعض ملامحه خطابات هذا النص سرا وجهرا بغية الوصول إلى الصورة النمطية للإرهابي الذي قتل السائحتين (لويزا ومارين)، وفجر الكنائس، ودمّر المساجد، وقوض أركان التراث الثقافي المادي في أكثر من مكان، وزرع الإنتحاريين في الميادين العامة، وفي المقاهي، وفي القاطرات، ليكونوا قنابل بشرية موقوتة يتم تفجيرها عن قرب أو بعد لا فرق.  
 إن الإرهاب لا وطن له، ولا لون له، ولا عقيدة له إلا عقيدة العنف الذي لا يبقى ولا يدر، لأن همّه السادي هو اغتيال لحظات الفرح في مهدها وهذا ما قدمت أحواله أول مسرحية مغربية تتناول موضوع صناعة الإرهاب في العالم.  


عبد الرحمن بن زيدان