المسرح السودانى ....تجربة غنية تستحق الدراسة

 المسرح السودانى ....تجربة غنية تستحق الدراسة

العدد 681 صدر بتاريخ 14سبتمبر2020

كان رحيل عدد من اعمدة المسرح السودانى خلال شهر واحد بمثابة دعوة لتعريف القارئ المصرى بهذا المسرح وهو تاريخ عريق يستحق التعرف عليه.
فى مقدمة الراحلين “عز الدين هلالى” وهو كاتب وممثل وناقد مسرحى واستاذ للفن المسرحى  بعدد من الجامعات في السودان وخارجها . وله مسرحيات عديدة اشهرها “انقلاب للبيع “ عام 1987 الذى تنبا بانقلاب عمر البشير بعدها بعامين.
وهناك الشاعر “عماد الدين ابراهيم” مدير عام وزارة الثقافة   والذي عرف من خلال أعمال مسرحية كبيرة مثل “عنبر المجنونات”، و“ضرة واحدة لا تكفي”.
ويأتى ايضا مدير مركز مدني للآداب والفنون الدرامي “محمد الدّبُل” بعد أن خلف وراءه أعمال كان آخرها “زينب نبع لا ينضب”. ورحل أيضا المسرحي والممثل “ابراهيم دفع الله” الذي قضى سنوات طويلة بالولايات المتحدة.  ولاننسى الهادى الصديق الذى رحل فى حادث مرورى.
جزء من التركيب
ولاغرابة فى ان تكون فى السودان حركة مسرحية مزدهرة لان المسرح جزء من تركيب المواطن السودانى. ذلك ان  العروض الجماهيرية والتفاف الجمهور حولها لمشاهدتها    من السمات الراسخة لدى الشعب السوداني  سواء في الشمال والجنوب والشرق والغرب.  اعتاد  السودانيون    التجمع  في مناسبات عديدة مثل الاحتفالات الصوفية الدينية في حلقات الذكر والطقوس وحلقات المصارعة والعرضة  وليالي السمر وحلقات الحكي الشعبية.   واثبتت البحوث الحديثة وجود ممارسات تستوفى شروط الممارسة المسرحية عبر تاريخ السودان الطويل. فهى تشتمل على عرض متكامل وجمهور متلق محققة العلاقة التفاعلية بين مؤدٍ ومتلقٍ يتداولان رسالة (نص) وهو جوه المسرح .
واول عرض مسرحى رسمى يسجله تاريخ المسرح السودانى كان   فى بدايات القرن العشرين في مدينة رفاعة جنوب مدينة الخرطوم 1903 في احتفال المولد النبوي الشريف، حيث تم تقديم نص مسرحي وضعه الشيخ “بابكر بدري” الذى يعتبر ابا روحيا للعديد من المسرحيين السودانيين. وكان دخول هذا العرض بتذاكر يخصص  عائدها    لبناء مدرسة لتعليم البنات . 
ويرى بعض المؤرخين ان اول عرض كان عام  1899 بعد  احتلال السودان     اقيم عرض مسرحى عرف باسم “عرض التاتو”  فى مدينة “القطينة” ليتحدث عن ملابسات  احتلال السودان.
وشهد السودان بين عامى 1905 و1915 لجاليات اجنبية شامية وانجليزية ومصرية . وكانت منها على سبيل المثال مسرحية لضابط الشرطة المصرى عبد القادر مختار  التى تم تخصيص عائدها لبناء مسجد .
وكان المسرح وقتها نشاطا مقصورا على الجاليات والمثقفين من السودانيين الا ان رجل الشارع السودانى لم يكن مهتما بهذا الفن فى شكله الجديد.
وبعد ذلك نشات عدة فرق مسرحية سودانية منها فرقة “نادى  الزهرة الرياضي”  وفرقة  “خريجي كلية غردون” وفرقة “صديق فريد” وفرقة “اللواء الابيض” التى اسسها المؤلف المسرحى والممثل  “عرفات محمد عبدالله” الذي كان ممثلاً وناقداً وصحفياً . 
ويرى المؤرخون ان هذه الفرق ساهمت فى اذكاء الوعى الوطنى بين المواطنين فى السودان ومن عوامل ثورة 1924 . وكان ذلك من خلال مسرحيات ذات طابع وطنى وقومى مثل “صلاح الدين الايوبى” . كما ساهمت هذه الفرق فى نشر المسرح فى كافة المدن والاقاليم السودانية وعرضت اعمالا من عيون الادب المسرحى العالمى مثل مسرحيات شكسبير.
وكانت تتم صياغة المسرحيات  وتحميلها بمضامين وطنية وقومية على ايدى مجموعة من كتاب المسرح المتمكنين. وفى حالات متعددة كانت تتعرض للاغلاق او التحقيق مع مسئولى الفرق من جانب سلطات الاحتلال واعتقال المؤلفين والممثلين . وكان من اشهر كتاب المسرح وقتها    عبيد عبدالنور الذي تخرج في الجامعة الأمريكية بالقاهرة ، وأول مذيع سوداني في الإذاعة السودانية عام 1940 . وبرز وقتها اخرون مثل   خالد أبو الروس( 1908 1986) الذى   كتب ومثّل وأخرج العديد من الأعمال  وكتب  أكثر من 7 مثل “تاجوج” الماخوذة عن الاسطورة  الشعبية السودانية. وكان يطوف السودان مع عروض مسرحياته. ونافسه ايضا ابراهيم العبادى صاحب المسرحية الشهيرة “الملك نمر”. واثبت ذلك     أن الفنان المسرحي السوداني قادر على استيعاب الظاهرة المسرحية  وتوظيفها لصالح شعبه.   
نهضة
وبذلك تعتبر الثلاثينات من القرن العشرين هي فترة نهضة وانتشار فن المسرح السوداني تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً عبر الأندية الرياضية وحركة الرواد الأوائل أمثال خالد أبو الروس وإبراهيم العبادي وآخرين في أم درمان بؤرة النشاط الأدبي والثقافي والسياسي والفني، والذي امتد إلى أقاليم السودان المختلفة عبر رحلات منتظمة طابعها رياضي ولكن يصاحبها الغناء والمسرح، وقد انتظم كثير من فناني الجيل الأول من السودانيين في سلك الأندية الرياضية،  كما نشا المسرح المدرسى حقق ازدهارا كبيرا.
وبدأت الدراسة الاكاديمية للمسرح  فى السودان بانشاء  كلية الفنون الجميلة والتطبيقية مع الإنجليزي قرينلو ،1946 . وتم انشاء معهد الموسيقا والمسرح 1968 .
 وفى الاربعينيات نشأت   “فرقة السودان للتمثيل والموسيقا” والتي استوعبت كل تراث الأجيال السابقة من المسرحيين السودانيين، ودشنت مسرحاً وداراً مستقلة لعروضها وتدريباتها عبر مؤسسها وقائدها ميسرة السراج رائد المسرح الحديث . 
ويذكر للسراج (رحل فى 2018 عن عمر يناهز المائة) إنه بجانب إنشاء فرقة السودان للتمثيل والموسيقا وبناء مسرح خاص أنشأ مجلة فنية  لنشر الثقافة المسرحية باسم “الأفق” 1948 .   وعلى يديه صعدت أول امرأة سودانية في الأربعينات خشبة المسرح، وهي “سارة محمد” ما عرّضه لحملة شعواء في أم درمان لسنوات إلا أنه استمر يقدم العديد من الأعمال مثل مسرحية “غرس الأحرار” ،1940 و” زوجتان” ،1945 و”ضحايا الغرام” 1952 و”انتقام وغرام” في عام 1959 .
انتكاس
وشهدت الحياة المسرحية انتكاسة بعد انقلاب 1958 وصدور قوانين      مقيدة لعمل الأحزاب والحريات العامة وطالت الحياة السياسية الثقافية انتكاسة توقف على اثرها النشاط المسرحي وانزوى كنشاط في المدارس والأندية   رغم أن الحكم العسكري أشاد بدور المسرح  وأنشأ للمرة الأولى في السودان المسرح القومى على شاطئ النيل فى ام درمان.  
وكان المسرح السودانى موضعا لدراسات عديدة سعت الى الكشف عن الصفحات المجهولة من تاريخ التجربة المسرحية السودانية. 
ولحسن الحظ تم توثيق تاريخ المسرح السودانى من خلال” دليل المسرح السودانى” الذى صدر جزؤه الاول  و  يرصد عناوين النصوص وأسماء الكتّاب والمعدين والمخرجين على مدار مسيرة المسرح السوداني الحديث للمؤرخ المسرحى السودانى يوسف عيدابى.  
 وهناك  كتاب “ المسرح المقاوم للاستعمار في السودان”، للباحث عبد القادر إسماعيل   ويطرح  الكتاب  جملة من الأسئلة حول موقع أو دور المسرح في فترة الحراك الوطني المناهض للاستعمار في السودان . 
 وهناك  كتاب “ تجارب ما بعد الحداثة في المسرح السوداني 1980 – 2018” للباحثة ميسون عبد الحميد.   
وهناك كتاب “مسرح للوطن من 1900 – 1980” للرائد المسرحى محمد شريف الذى سبق اصدر كتابا بعنوان “سيرة ابو الفنون فى السودان.
ويرى مؤرخو المسرح ان المسرح القومى السودانى الذى انشأته الحكومة العسكرية على شاطئ النيل فى ام درمان كان يمكن ان يقدم الكثير للحركة المسرحية السودانية لولا القيود التى فرضت على حرية التعبير. 
  وبالفعل كان المسرح القومى السودانى فى بدايته  هو المقصد الاول والاخير لجميع المسرحيين والفنانين السودانيين والعرب وحتى الاجانب. ففيه تم عرض جميع المسرحيات السودانية لاول ومرة وفيه اقيمت مهرجانات الاذاعة والتلفزيون وفيه ايضا قدم الفنانون اعمالهم الخاصة لاول مرة وبداخله شدت ام كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ. لكنه تعرض للاهمال فى السنوات الاخيرة ولم يعد يشهد عروضا كثيرة.
وتتحدث دراسات اخرى عن شخصيات متميزة فى عالم المسرح السودانى مثل الراحل الفاضل سعيد الذى   برز نبوغه مبكرا وقدم الكثير من الاعمال الكوميدية التى لا تزال محفورة فى اذهان المشاهدين الى الان رغم رحيله عن دنيانا قبل بضع سنوات.  ولم يحقق نفس النجاح فى المسرح.
وتتحدث دراسات اخرى  عن فرقة   الاصدقاء المسرحية فى اوائل الثمانينيات, اعتقد الجميع انها فرقة عادية لن تحقق اى نجاح يذكر كعادة باقى الفرق المسرحية فى ذلك الزمان, لكن فرقة الاصدقاء اذهلت الجميع وقدمت اعمال خالدات فى تاريخ المسرح السودانى . وكانت فرقة الاصدقاء المسرحية هى الممثل الوحيد للسودان فى كثير من المحافل الدولية والمهرجانات المسرحية.ولها مسرحيات متميزة مثل حبظلا بظاظا ودش ملك والمهرج . ما زالت فرقة الاصدقاء تقدم الجديد والجديد وما زال معظم اعضاء الفرقة الاصليين متواجدون لكن تبقى شح الموارد وقلة الدعم من المشاكل التى تهدد الفرقة.   
ولعل المساحة لا تتسع لذكر العديد من الممثلين التاريخيين والكتاب المبدعين على طوال تاريخ المسرح السودانى . 
لا جدال أن المسرح السودانى يعيش هذه الايام ازمة حقيقية تتمثل فى قلة المسارح فى العاصمة وباقى الولايات وغياب الاهتمام الرسمى والشعبى، بل يكاد المسرح السودانى  يكون مهدد بالانقراض ما لم تتخذ خطوات جادة لإنقاذ ما يمكن انقاذه.
ونرجو ان نقدم رحلة اخرى مع المسرح السودانى الحديث فى مرة قادمة.


ترجمة هشام عبد الرءوف