الشاطئ..علاقة شرطية بين الوصول والانتظار

الشاطئ..علاقة شرطية بين الوصول والانتظار

العدد 680 صدر بتاريخ 7سبتمبر2020

يمثل العنوان العتبة الأولية للعمل الفني، التي توجه ذهن المتلقي لمحاور معينة قبل إقباله على العمل، فإذا أُطلق على عرض مسرحي اسم “الشاطئ” يأتي في الأذهان البر والوصول والبحر والاسترخاء، مما يبني آفق توقع أولي حول تلك المفاهيم باحثًا عنها المُشاهد مع أول جملة مُلقاة بعد إزاحة الستار.
ومع الدخول للعرض المسرحي الشاطئ الذي قدمه المعهد العالي للفنون المسرحية ضمن مسابقة عروض المسرح الحي بين فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته السابعة والعشرين، تقع العين على تكوين غير محدد المعالم بشكل واضح، فهو أشبه بالدائرة المجوفة التي تحوي بداخلها شئ خفي، وأقصى يمين المسرح هاتف، وأمام التجويف ثلاثة أشخاص، ثم أربعة، ثم يكتمل عددهما إلى خمسة بشكل رئيسي، تدور حولهما الأحداث، كونهم قاصدين سفينة للوصول إلى شاطئ ما وينتظرون اكتمال العدد ثم مجئ المراكبي ليقود بهم السفينة ويوصلهم للشاطئ، الشخص الأول منهم فنان، “كاتب، وشاعر، وقاص”، والثانية راقصة جميلة ممشوقة القوام، والثالثة طفلة صغيرة صوتها عذب ونقي، والرابع عالم وباحث في الكيمياء والجولوجيا، والأخير رجل صاحب نفوذ وأموال طائلة لا حصر لها.
يبدو مكان وقوع الأحداث مفتوح ورحب يأتي إليه بين الحين والآخر شخص جديد ينضم إلى سابقيه.
ووسط حالة من الشد والجذب حول هؤلاء المختلفين فكريًا وثقافيًا وماديًا يتضح أن لا يمكن لأي منهم الخروج عن حيز هذا المكان، وإنه منغلق عليهم لكن دون أن يعطيهم هم أنفسهم الشعور بذلك الانغلاق، وبين الاختلاف فيما بين الثلاث رجال  يوجد معهم إمرأة جميلة وطفلة صغيرة، يشتد الصراع في محاولة لكل منهم لإثبات ذاته بما يملك، حيث يحاول صاحب الأموال أن يفرض السيطرة الكاملة على الجميع بما يملك من حقيبين مليئتين بالأموال والذهب، ومحاولة العالم في إثبات وجوده بينهم بأبحاثه ونظرياته، بينما الفنان بأفكاره وكتاباته، والمرأة بما تمتلك من جمال وفراسة وخبرة في أصناف الرجال، والطفلة الواقعة بين شجارتهم تهدي الخلاف بين الحين والآخر بعذوبة صوتها أو ببراءة ضحكتها
وهكذا تسير دراما العرض إلى وصول الذروة والحدث المحوري، أنه لا أحد منهم يجد ما كان يملكه ويحتمي فيه ويقوى به، فلا يجد الكاتب كلامته بين صفحات كراسته، ولا يجد الغني أمواله في حقائبه، ولا يجد العالم أبحاثه ونظرياته في الكتب،..
وبعد نشوب التشكك بين بعضهم البعض، يصلون ليقين واحد وهو العدم أي إنهم أموات، ولا يملكوا الآن سوى “سيرة” تُذكر على لسان الأحياء
حيث يؤكد لهم الباحث العلمي أن للإنسان ميتتان، الأولى هى فناء الجسد، والثانية هي انقطاع السيرة من على لسان الأحياء، ليكتشفو إنهم ما زالوا على قيد الحياة الثانية وماتوا الميتة الأولى فقط، أي إنه مازال لكل منهم من يذكره من الأحياء
فيتأكد الفنان إنه أثر بأعماله وكتاباته في كثيرين لدرجة وصلت بهم إنهم تذكروه بل وتداولوا سيرته بعد موته، فما لم يلقاه في حياته لقاه بعد الموت.
وكذلك لكل منهم، ولكن سرعان ما ينتهي ذلك الوجود الثاني مثلما انتهى الأول، يبدأ بالبنت الصغيرة التي آتت وهي تعلم إنها جاءت للقاء والداتها ليجتمعا معًا ويذهبا في ذلك التجويف الخلفي وما به من عالم خفي يسحب الشخصيات لمكان لا أحد يعلم مداه.
وتتوالى الميتات إلى أن يتبقى الفنان والعالم ويأتي عليهما شخص جديد وتستمر عجلة الفناء في دورانها حتى النهاية
وبين كل فناء وآخر يكون مؤشر زوال السيرة هو “جرس الهاتف” نقلًا عن إصدار طلب للفاني أو إنذار لمن هم باقون السيرة أن الدور قادم لا محالة.
ومن هنا يتضح أن عنوان العرض كان ينم عن طريق الوصول الحتمي وهو “الموت” ولكن ما من صور ذهنية حياتية عن الموت لكي تداعب الأذهان فيتوقع أحد أن يكون الشاطئ وبر الوصول هو الموت!
شغل ممثلي العرض الخشبة قرابة الساعة والربع بأداءت حركية وتكوينات متكتلة في رقصاتهم تنم عن ترابط المصائر وتشابهها رغم الاختلاف بين كل منهم.
كما ألقت الإضاءة بين ألوان الحياة والموت ما يكفي لتكون مكملة لحالتهم الوجدانية في كل مرحلة من مراحل وصولهم المتتابعة.
لتعتلي ذروة الحدث أقصى حدودها في لحظات تكشف المصير وتتبع لحظات الكشف عن العلاقة بين الوجود والعدم، وأي بقاء يمثل الوجود، وثبوت العدم وهم على قيد الحياة، والسيرة وأثرها على التعجيل بفناء البعض وبقاء آخرين، ويبقى الموت بين تشككاتهم هو الحقيقة المطلقة التي بات الجميع ينتظر فيها دوره.
فحتى وإن وجد البعض منهم قيمته بعد موته وأدرك عظمة إرثه ولكن أجراس الهاتف بين الحين والآخر تذكره دائما إنه لقادم وإن الأحياء لناسيون.
ليعود الشاطئ من جديد ليس كعتبة أو مدخل تمهيدي للعرض، بل أساسه ومحوره، حيث ينقسم العرض بفكرة الوصول إلى مراحل عدة، المرحلة الأولى هي المرحلة التي تتكشف فيها الشخصيات ليبدوا وكأنهم قد وصلوا إلى وسيلتهم الناقلة لهم للبر، ومن ثم انتظار وصولهم عن طريق الأمل في مجئ المراكبي، ومن بعدها تيقنهم في الوصول للموت، ومنها لانتظار وصول الهاتف كمؤشر للفناء الأبدي..
ويشترك مع مستويات الوصول سمة الانتظار، فبات الجميع ينتظر تحقيق آماله في حياته، وجاء لينتظر قدوم من ينقلهم لمواصلة الرحلة، حتى وإن بلغوا اليقين المفقود لهم في حياتهم وأدركوا موتهم وقيمتهم باتوا في انتظار الأدوار، ليختفي الانتظار تماما ببلوغ الوصول الحقيقي، فعندما تصل كل شخصية لفنائها الأخير لم تعد تنتظر شيئا ، ولا تظهر من جديد بعد غوصها في ذلك المجوف المجهول، أي أن العلاقة بين الوصول والانتظار هي علاقة شرطية، لا يمكن وجود إحداهما دون الأخرى، 
حتى وإن تصور البعض إنه قد بلغ الوصول، ولكن سرعان ما يدرك من جديد أن ذلك لم يكن الوصول المُنتظر، وينتظر من جديد إلى أن يتحدا معًا، فباتحادهما يكون بذلك قد بلغ الشاطئ.


منار خالد