في مسرحية اليوبيل في المنديل كلنا مذنبون ومعذبون

في مسرحية اليوبيل في المنديل كلنا مذنبون ومعذبون

العدد 680 صدر بتاريخ 7سبتمبر2020

تثير مسرحية اليوبيل في المنديل , ردود فعل عالية باعتبارها كوميديا استثنائية متميزة , تموج فنا وفكرا وإبهارا , تمتلك خصوصية فريدة تمنحها دلالات جمالية مشاغبة , فهي تنتمي إلى الفودفيل حيث الهزل بمفهومه العلمي , الذي يرسم ملامح اللحظة المتوترة الضاغطة التي نعيشها الآن , بعد أن أصبح وجودنا الإنساني نوعا من الكاريكاتير المثقل بالخطايا والتناقضات . 
هذه المسرحية هي التجربة العاشرة والأخيرة , التي تأتي ضمن المبادرة النوعية لوزارة الثقافة , وهي ترتكز على مسرحية تشيكوف «اليوبيل” , قام بإعدادها وإخراجها الفنان محمد عمر , الذي يواجهنا بنموذج عبقري للإعداد بمفهومه العلمي والفني , الحالة الإبداعية تحمل بصمات تشيكوف وروحه ورؤاه - - , تبدو كابنة  شرعية لعالمه الثري المثير, الذي دخله المخرج وصاحب الإعداد  مدركا أن تشيكوف هو النجم الذي سيظل مضيئا في سماء البشرية كأحد عمالقة العصر الذهبي للأدب الروسي , والإبداع الإنساني العظيم , آمن أننا جميعا مذنبون معذبون - - , فالطغاة استبدوا وطغوا ولم يردهم أحد عن طغيانهم , والضعفاء ركعوا وأهينوا وعاشوا الذل وعجزوا عن مواجهة القهر والاستبداد , لم يدافعوا عن حقوقهم ولم يقولوا لا - - , وآخرون باعوا وعيهم للغياب والاستلاب , والكل مذنب ومسئول عن السقوط إلى حضيض الحياة  . 
في هذا السياق كان تشيكوف يتجه إلى الفكاهة ليدفع بها عن نفسه كل ما يثير الأحزان , استطاع أن يصور ببراعة الكثير من الظروف والحالات الاجتماعية مثل العلاقات بين الأغنياء والفقراء , بين كبار المسئولين وصغار العاملين , وطبيعة العلاقة الهرمية الشرسة التي تحكم السلم الوظيفي , وكذلك علاقات الرجال والنساء والزواج والأبناء , وبذلك رسم تشيكوف بانوراما شديدة العمق والثراء للمجتمع والإنسان , وظل محتفظا برونق التحليل النفسي الدقيق للأعماق والطباع والأخلاق والتصرفات , وامتلك سحر توصيل الصور الموجعة بأسلوب عذب يكشف ببساطة عن بشاعة أعماقها المأساوية . 
ينتمي نص مسرحية اليوبيل إلى كوميديا الفودفيل ,  التي يتطلب بناؤها سرعة الحدث وتطوره بإيقاع لاهث , كل شخصية من الشخصيات المسرحية لها طابعها الخاص من حيث الحركة ولغة الجسد والأداء وإيقاعات الجروتسك الساخر , الأحداث تدور في بنك الاعتمادات  المتبادلة  بمكتب رئيس هذه الإدارة , والمؤلف يجسد تلك اللحظات الحية من الحياة في يوم الاحتفال باليوبيل , حيث مرور خمسة عشر عاما على تعيين «شيبوتشين” مديرا لإدارة الاعتمادات , ملامح الفودفيل المدهشة تفرض نفسها بقوة , فاليوبيل لم يكن فضيا ولا ذهبيا ولا ماسيا , لكنه اليوبيل الخاص بتلك الشخصية المراوغة المسكونة بالزيف والخلل والتناقضات  , استطاع أن يحقق صعودا لافتا عبر أقنعة  اللياقة واللباقة والنعومة الظاهرية , كان يؤمن بمقولة هاملت - - أكون أو لا أكون , فاندفع إلى أقصى درجات البراجماتية ليحلق بعيدا في الآفاق , ظل يدعي الإيمان بالمثل العليا والقيم والأخلاقيات الرفيعة , لكن الحقيقة كانت مفزعة وفاضحة , اندفع  إلى السقوط الأخلاقي السافر- -  وفي ذلك اليوم كتب بنفسه خطاب الشكر الذي سيلقيه أحد الموظفين أمام الوفد المفوض , اشترى لنفسه الإبريق الفضي والمنديل الوردي ليكونا هدية الموظفين له و وضع خطة شديدة الإحكام لكل تفاصيل الاحتفال ليصبح نموذجا للثراء والبهاء والأناقة والإبهار , وأخيرا كلف المحاسب الخبير بالإدارة العليا “كوزما نيكلايفتش” بكتابة التقرير ووعده بنيشان ذهبي رغم سلوكه الفظ وكراهيته للنساء - - , وهكذا تمتد الأحداث والتفاصيل والمفارقات والأخطاء , وتحدث حالة من الهرج والصراخ لحظة وصول العضو المفوض , وينهار حفل اليوبيل المخطط له بإتقان  , ونصبح أمام تيارات من الكوميديا , التي تكشف عن أبعاد غزيرة الدلالات تشاغب في أعماق المتلقي مشاعر البهجة والفرح حينا  والأحزان حينا , لكنها تظل محتفظة بحرارة الوعي والنقد اللاذع لوجودنا الإنساني المعقد .
بعث العرض المسرحي المصري اليوبيل في المنديل للمخرج محمد عمر - , بعث حالة كوميدية خلابة متوترة ولاهثة , الأداء التمثيلي  العالي رفيع المستوى امتلك التصاعد والإيقاع , خطوط الحركة تنتمي إلى جماليات الفودفيل , والحوار البديع يكشف أن المخرج المتميز قد درس النص بعناية لافتة , ودخل عالم تشيكوف وهو يعرف أسراره , فجاءت الشخصيات منسوجة من الكوميديا والجروتسك والنقد وشاعرية المأساة , أسماء الأبطال تأتي كتكثيف رمزي لطبيعة حضورها الأخلاقي والسلوكي والإنساني , فعرفنا الأستاذ كادح مطحون , السيدة بواكي  , والمدير العام فايز الكسبان , الزوجة لاكي ماكي , والسيدة عليلة التبت خبيرة الزلازل والأبراج  , ويذكر أن الإعداد قد منح العرض ملامح مصرية معاصرة تشتبك بقوة مع وقائع وجودنا الحالي , فكانت شخصية كادح مطحون هي النموذج المثالي للقهر وعذابات الاستلاب والرضوخ , لامسنا صراعه الداخلي المخيف عبر إدراكه لخبراته وتميزه  وإصراره على رفض الظلم ومحاولة امتلاك الذات , وهكذا قدم المخرج عرضا مدهشا يمتلك  كل جماليات الفودفيل  فتصاعدت الأحداث في حركة لاهثة بسيطة ومدهشة , الالتباس يسبق دائما حل العقدة , والمفارقات  تتوالى وتتشابك بجموح , والتفاصيل الدقيقة محسوبة برشاقة هندسية , ويذكر أن صياغة محمد عمر لشخصية المفوض الدولي جاءت عالية الدلالة فهو يتحدث لغة غير مفهومة , بسعد بالهرج الذي يحدث , ويتسلم أوراقا بيضاء ويمضي دون أن يتساءل عن التقرير المطلوب . 
جاء التشكيل السينوغرافي متوافقا  مع سحر وبهاء المسرح القومي العريق , تقاطعات الضوء تشتبك مع الموسيقى والإيقاع والدقات , والحركة السريعة  اللاهثة في الظلام تقودنا إلى بنك الحظ للتعاملات المرئية والغير مرئية , بينما يعلن الصوت الجميل عن الاحتفال الضخم باليوبيل , وهكذا تنطلق الحالة المسرحية ونتعرف على الموظفين الشباب , وعلى الآنسة الخليعة  بواكي التي تشاغب المحاسب كادح مطحون - - , يراها تتحرش به فتطلب منه أن يضحك ولا يفكر , وأن يكون فرفوش وليس قفوش - - - , خطوط الحركة تبعث وهجا جميلا وعذابات المطحون تتصاعد ويقرر أن بغير واقعه , وحين يأتي المدير فايز الكسبان , تتفجر تيارات الزيف وتتبعثر أمنياته الكاذبة لكل العاملين معه , اللحظات تكشف عن حقيقته الشرسة وعن رغبته النارية في امتلاك أحلامه الذهبية بكل الوسائل المتاحة , ليعيش الشهرة والحب والثراء , وعبر حرارة مفارقات كوميديا الموقف تأتي لاكي ماكي زوجة المدير التي تمثل نموذجا براقا لبطلات الفودفيل , تتكلم بجنون وتحكي بشكل هستيرى عن كل الأشياء , يصيبها الهلع عندما  تعلم أن زوجها سيتسلم اليوبيل في المنديل البمبي  , تتذكر حكاياتها مع الهوت شورت البمبي , والسيارة البورش البمبي والحادثة التي عذبتها , وتظل تشاغب الجميع حتى يضيع الأمل تماما في كتابة التقرير المطلوب ,   وفي سياق متصل تأتي السيدة عليلة التبت لترسم ملامح نموذج آخر فريد لشخصيات الفودفيل , نراها خبيرة في التعامل مع الآخرين , وتمتلك إستراتيجية خاصة لتحقيق رغباتها والخروج من الأزمات . 
ينتهي العرض الضخم المتميز , الذي شارك فيه فريق عمل من كبار الفنانين مثل النجم مفيد عاشور صاحب البصمات الفريدة المتميزة , الفنان الجميل يوسف إسماعيل الذي لعب أحد أجمل أدواره المسرحية فكان مختلفا مغايرا , مع النجم اللامع محمد على , إبراهيم جمال , مصطفى مجدي , مايا سعد , يوسف عمر والجميلة أمل رزق التي انطلقت  إلى آفاق جديدة رحبة , وكذلك الفنانة لبنى ونس صاحبة الخبرة والموهبة المتدفقة , مع الفنان المتميز سامح  بسيوني , الذي منح التجربة دلالات غزيرة متوهجة  
كان التأليف الموسيقي لكريم عرفة , والديكور لمحمد عزام , والإضاءة لحسن رشاد ,  والماكياج لإسلام عباس   . 


وفاء كمالو