مناهج الأداء المختلفة من واقع التجارب المسرحية في المسرح البريطاني الحديث

مناهج الأداء المختلفة  من واقع التجارب المسرحية في المسرح البريطاني الحديث

العدد 531 صدر بتاريخ 30أكتوبر2017

«في البدء كانت الكلمة» جملة مستوحاة من الكتاب المقدس وكثيرا ما يستخدمها فنانو المسرح للتدليل على أهمية النص والكلمة في العملية المسرحية، قد لا يختلف اثنان على أهمية النص فهو النواة التي يقوم على أساسها أي عمل مسرحي.. إلا لو أن العمل نفسه مغاير لما هو سائد.
في هذا المقال أحاول أن أنقل إليكم تجارب مسرحية مغايرة ومختلفة عن شكل المسرح التقليدي، يربط تلك التجارب رابط واحد وهو استخدام الممثلين أدوات أخرى غير الكلمة للقيام بأداء تلك التجارب، ومن المهم الأخذ بالاعتبار أن تلك التجارب هي عروض مسرحية وليست عروضا راقصة.

«في البدء كانت الكلمة» جملة مستوحاة من الكتاب المقدس وكثيرا ما يستخدمها فنانو المسرح للتدليل على أهمية النص والكلمة في العملية المسرحية، قد لا يختلف اثنان على أهمية النص فهو النواة التي يقوم على أساسها أي عمل مسرحي.. إلا لو أن العمل نفسه مغاير لما هو سائد.
في هذا المقال أحاول أن أنقل إليكم تجارب مسرحية مغايرة ومختلفة عن شكل المسرح التقليدي، يربط تلك التجارب رابط واحد وهو استخدام الممثلين أدوات أخرى غير الكلمة للقيام بأداء تلك التجارب، ومن المهم الأخذ بالاعتبار أن تلك التجارب هي عروض مسرحية وليست عروضا راقصة.
(1)
اسم العرض: MISSING
الفرقة: GECKO
سنة الإنتاج: 2012
سمعت عن حريق هائل التهم المسرح الذي كان يعرض فيه هذا العرض (BATTERSEA ARTS CENTRE) وتسبب هذا الحريق في تدمير كل ديكورات وملابس هذا العرض، ولكن الجمهور الذي شاهد هذا العرض وأعجبه وأحبه استطاع من خلال تبرعات مالية أن يعيد إنتاج كل ديكور العرض في ثمانية أيام فقط، وفي الوقت نفسه تم تقديم العرض في مسرح بديل وبديكور بسيط وكأن المسرح يأبى أن ينصاع لأي ظروف قد تضطره لعدم التواصل مع الجمهور.
MISSING أو (مفقود) هو عرض مسرح جسدي (Physical theatre) وهو فن يختلف عن الرقص الحديث أو الرقص المعاصر، حيث إن المسرح الجسدي يعتمد بالأساس على توظيف جسد الممثلين لإيصال القصة، الفرق الرئيسي بين المسرح الجسدي وعروض الرقص هو أن المسرح الجسدي يسعى لإيصال سياق معين وعرض قصة من خلال استخدام جسد الممثلين، بالإضافة إلى عناصر العمل المسرحي التي قد تتضمن الحوار، ولكن عروض الرقص تستخدم جسد الممثلين من أجل خلق عرض راقص قد يهدف إلى إيصال فكرة أو هم أو موضوع ما، لكن ليس بالضرورة يهدف إلى سرد قصة أو مسرحية بها كل عناصر العمل المسرحي.
الجدير بالذكر أن مفهوم المسرح الجسدي يختلف تماما في بريطانيا عنه في أمريكا، حيث إن المسرح الأمريكي يميل أكثر إلى الإشارة لعروض المسرح الجسدي على أنها عروض رقص.
MISSING يعرض قصة امرأة ناجحة ورغم كل نجاحها فإنها ما زالت تفقد شيئا ما وتحيطها ضغوط تتعلق بتاريخ عائلتها ونشأتها وعلاقتها العاطفية، ويتم التعبير عن ذلك كله خلال مشاهد يؤديها جسد الممثلين المحيطين بتلك المرأة، فتارة نجد الممثلين يجسدون مشاهد لعائلتها وكيف كانوا يعاملونها وهي طفلة، وتارة نرى علاقتها بشريك حياتها من خلال مشاهد تجمعهما في بيتهما، وتارة ثالثة نجد مشاهد تجمعها بالطفلة التي كانت عليها تلك المرأة في الماضي. الجدير بالذكر أن في كل تلك المشاهد نرى فصلا جسديا واضحا بين المرأة والعالم المحيط بها، هذا الفصل دائما ما يتم خلقه عن طريق الحركة والإضاءة وديناميكية الممثلين على المسرح وكأن إحساس الفقد الذي يسرده العرض هو نابع بالأساس من هذا الانفصال.
حين رأيت هذا العرض علمت من الممثلين أن الديكور والتجهيزات الخاصة بالعرض قد دمرت بالكامل، ولكنهم ذكروا أن الديكور الأصلي تضمن سلالم كهربائية ومصاعد تعمل على مستويات على المسرح لتساعد في نقل الممثلين بشكل أفقي ورأسي في العرض، الأمر الذي أتخيل أنه ساعد في خلق هذا الانفصال بين بطلة العرض وعالمها المفقود.
(2)
اسم العرض: THE DROWNED MAN
سنة العرض: 2014
الجهة المنتجة: PUNCHDRUNK + NATIONAL THEATRE
THE DROWNED MAN هو تجربة مسرحية عظيمة وفارقة في تاريخ المسرح البريطاني الحديث، ويكفي أن تعرف أنه من التجارب التي اختلف عليها النقاد بشكل واسع المدى، فمنهم من رأى أنه عرض مبهم صعب الفهم ومنهم من رأى أنه عرض سابق لوقته علقت جريدة London Evening Standard عن العرض قائلة (تخلى عن كل معتقداتك عن الشكل الذي يجب أن يقدم به المسرح واستمتع بمسرح متعدد الطوابق)، لن يسعني الوقت والمساحة المتاحة للتطرق لشكل العرض من حيث كونه مسرحا تفاعليا ومسرحا تجوالا وSite Specific (وهو نوع من المسرح يقدم في المكان الفعلي للأحداث وليس على خشبة المسرح)، ولكنني سأتطرق لشكل الأداء المسرحي للممثلين في هذا العرض.
الممثلون في هذا العرض لم ينطقوا بكلمة واحدة طوال العرض الذي امتد على مدار 3 ساعات وعلى مساحة خمسة طوابق في مبنى وسط لندن، ولكن ماذا يمكن أن يفعله الممثلون طوال تلك الفترة لو أنهم لم يتحدثوا؟
استخدم الممثلون جميع أدواتهم الأخرى مثل أجسادهم ووجوههم وأحاسيسهم ليخلقوا لوحه فنية عظيمة لا ينقصها شيء أبدا، بل أضافت غموضا ساعد الجمهور على تتبع الممثلين بشغف، واللهث وراءهم صعودا ونزولا ليفهموا أحداث العرض.
وقد يظن البعض هنا أن البديل عن الكلمة في هذا العرض كان رقصات معينة أو حركات كيوريوجرافية مصممة، ولكن الواقع غير ذلك حيث إن على الرغم من وجود بعض المشاهد التي تتضمن رقصات مصممة، فإن معظم المشاهد كانت مشاهد تمثيلية خالصة، ولكن بلا حوار لا تندرج تحت تصنيف المايم أيضا.
أذكر من تلك المشاهد مشهدا عبقريا تم رسمه ببساطة شديدة حيث تدخل (Mary) إحدى ممثلات العرض غرفة نومها وتغير ملابسها ويتبعها (William) الذي على علاقة بها ويتم بينهم جدال ونقاش، بل وعراك معين يتم التعبير عنه بوجوههم وأحاسيسهم وأوضاعهم الجسدية التي تتغير بلا أي شكل راقص بل بالتقارب والتباعد واستخدام موتيفات موجودة داخل الغرفة، ثم تتم بينهم علاقة جنسية كاملة بلا وجود لجنس حقيقي، ولكنه مشهد تم تقديمه ببراعة دفعت الكثيرين لحضور العرض أكثر من مرة لفهم كيف يمكن أن يسيطر إحساس وأداء وجسد ممثلين على عقول الجمهور لإقناعه بوجود علاقة جنسية كاملة دون وجود لهذه العلاقة.
بخلاف هذا المشهد يتابع كل مشاهد العرض من خلال أداء «الفعل المسرحي» وهو فعل لا يصاحبه حوار ولا يتم رسمه عن طريق رقصات، ولكنه فعل إنساني طبيعي بحت مثل مشاهد الأكل والاستحمام والجنس والعراك والحميمية والرومانسية، وتكمل الموسيقى المصاحبة الصورة لتنتقل للمشاهد صورة وقصة كاملتين بدون كلمه واحدة، وفي النهاية تكتمل تلك الصورة لتقدم قصة كاملة عن رجل وامرأة تربطهما علاقة. THE DROWNED MAN تجربة فريدة ومختلفة بكل ما تحملهما الكلمتان من معانٍ.
قامت الشركة المنتجة نفسها بتقديم تجربة مماثلة في أمريكا عن مسرحية ماكبث لشكسبير تحت عنوان (sleep no more).

تجارب أخرى في الأداء
إذا أردنا التطرق إلى تجارب مختلفة في الأداء المسرحي لن يسعنا الوقت أو تكفينا المساحة، ولكنني أعتقد أن سرد تلك التجارب بشكل سريع وخاطف للقارئ قد يساعده في معرفة المزيد عن تلك التجارب، وقد يدفعه أيضا للبحث والقراءة عنها وفي ذلك السياق أود أن أذكر سريعا التجارب التالية:
•  تقديم العنف المفرط كجزء من العمل المسرحي دون اللجوء لحوار مسرحي، وفي هذا السياق أود أن أذكر تجارب 1984 لجورج أوريل التي تم تقديمها على مسرح Playhouse وCleansed للمخرجة كاتي ميتشل على المسرح القومي البريطاني.
•  الانتقال في الزمان أو المكان أو الحالة الشعورية من خلال توظيف جسد الممثلين بدلا من استخدام الإضاءة، وفي هذا السياق أود أن أذكر تجارب Dr Faustus على مسرح Babrican وعرض Les Miserables على Queen’s Theatre.
•  التعبير عن أزمات نفسية ووجودية غاية في التعقيد من خلال العلاقة بين الممثل وماضيه ومستقبله بشكل ديناميكي على المسرح، وأود في هذا السياق ذكر تجربة (Everyman) التي تم عرضها على المسرح القومي البريطاني في 2016.
بعد النظر إلى تلك التجارب وغيرها في المسرح البريطاني الحديث يسعني القول (إن في البدء كانت الكلمة) حين تقوم التجربة في الأساس على الكلمة، ولكن في مواقع كثيرة أستطيع القول إن في البدء كان الإحساس والجسد والشعور.


محمود سيد