قراءة في لغات الجسد المنسية

قراءة في  لغات الجسد المنسية

العدد 531 صدر بتاريخ 30أكتوبر2017

اللغة الجسدية تعتبر لغة حسية، لاشعورية، وكاشفة عن الجوانب المسكوت عنها، لغة تعتمد على قراءة المشهد عبر وضع الجسد والإيماءة وتعبيرات الوجه الانفعالية، والاتصال بالعين، لغة تظهر الجوانب المكبوتة، وتظهر كجسر لعالم آخر مكمون، خفي، كأنها وسيلة للتنقيب عن ذلك الجانب المظلم داخلنا، هذا الآخر الصغير، الذي لا يملك الكلمة المنطوقة، كأنه طفل صغير تائه يتلعثم أثناء الحديث، يجد ضالته في هذا الجسد من خلال إيماءاته وتعبيراته الحركية المختلفة، وهنا يشير “إريك فروم” عن أهمية تحرير المرء لذاته من خلال تواصله مع جسده، إذ إن كل تعبير جسدي، هو تعبير عن أرواحنا.
كانت الصرخات تعلو وتتزايد عندما كان (ملك البوب) المغني والراقص الأمريكي «مايكل جاكسون» يقدم استعراضا، حيث كان يوظف لغته الجسدية بخفة تجعله طائرا فوق خشبة المسرح، فتجلّت حركاته شديدة المرونة، وكأن كل عضلة تتحرك بشكل منفصل، فتدريجيا نتخيله وكأنه إنسان آلي أو دمية تتحرك ضمن خيوط تتدلى من أعلى المسرح، فلقد نظرت بعض الدراسات الفنية والمسرحية إلى أن قراءة لغة الجسد، هو أن ننظر إلى ما هو أبعد من الإيماءات، أي النظر إلى الأوضاع الجسمية وانفعالاتها المختلفة، وفق الثقافة الخاصة بها.
فلقد بدأ الفن صامتا بدون كلمة، في البدء عبر الإنسان من خلال الرسومات وحركة الجسد، في البدء كان الجسد هو الجسر ووسيلة للتعبير عن الحزن، السعادة، الغضب، القلق وخلافه، وتم صياغة هذا الفعل الإنساني دراميا عبر الحركة والكلمة، تدريجيا في العصر الحديث، صار للجسد قوة تقارن الكلمة وأحيانا تتغلب عليها.
هنا تستدعيني الجملة الكوميدية التي قالها “عادل إمام” في فيلم “واحدة بواحدة” الشهير بـ(الفنكوش)، عندما كان يتقمص شخصية عالم كيميائي يشاهد راقصة للمرة الأولى في حياته، حينها عبر عن إعجابه قائلا: “شيء مدهش.. تحكم عظيم في العضلات”، ورغم أنها ظاهريا تبدو دعابة ساخرة فإنها في الحقيقة تعبر عن الإمكانات الكثيرة والمُدهشة التي يمتلكها الجسد، سواء كان في فنون الرقص الشرقي أو فنون شعبية أو استعراضات أو فن الباليه أوالفنون الأدائية والراقصة المعاصرة.
فالجسد يمتلك طاقة ولغة تعبر عن الجوانب النفسية والاجتماعية، تتشكل خلال تعبيرات وإيماءات داخل فضاء المسرح، فإن قراءة الجسد عبر سياق ثقافي وفني تجعله وسيلة واضحة للتواصل الإنساني، والكشف عن مساحات الصمت والانفعالات المسكوت عنها، وتجلّى لغات أخرى متنوعة ومتعددة، جسد يتفاعل مع الإضاءة ويتناغم ويتضافر مع الموسيقى ومع العناصر المسرحية الأخرى من حوله، ليكوّن فنا بصريا ذا دلالات متجددة ومغايرة.
ففي أولى مشاهد فيلم “Modern Times” لمخرجه وبطله الفنان العالمي “شارلى شابلن”، يبدأ الفيلم بمشهد داخل مصنع كبير، ومن خلال اللغة الصامتة وحركات «شابلن» المدهشة، يصور لنا كيف أصبح الإنسان أشبه بآلة تدريجيا، عبر تكرار الحركة الآلية التي يقوم بها «شابلن» مؤديا دور عامل بالمصنع، فبدت حركاته أشبه بالآلة السريعة، التي تتحرك بدون وعي وإرادة، فالجسد يختصر الكثير من اللغات المنطوقة، وهذا ما جعل حلقات الرسوم الكارتونية والمتحركة الشهيرة ‘’Tom & Jerry’’ تستند أيضا إلى الحركات التعبيرية وإيماءتها المتنوعة للقط وللفأر، باعتبار هذا محركا للحواس المتنوعة بخلاف اللغة المنطوقة.
في قديم الزمان كان الأغريق على وعي بأهمية الجسد والرقص كوسيلة للتعبير، إذ يحتوي على طاقة تكمن داخل الكرنفالات والحفلات الجماعية، التي تشير إلى ملامح الاندماج والذوبان، إذ يشير “جلين ويلسون” في كتابه “سيكولوجية فنون الأداء”، من ترجمة د. شاكر عبد الحميد، أن الإغريق القدامى وصفوا الشخص غير المتعلم، بأنه الشخص الذي لا يعرف الرقص، كإشارة لأهمية إدراك المرء إلى جسده، فكلما كان الشخص على تواصل مع جسده ولغته، يمنح الفرصة لاكتشاف الذات ومكنوناتها عبر عوالم أخرى، لا تستطيع اللغة المنطوقة التعبير عنها، بحيث تخلق مساحات من التواصل والهارموني بين أجساد الراقصين وذلك عبر تفاعل متناغم.
أتذكر مشهدا في عرض «نصف ساعة قبل العرض» من تصميم وإخراج تامر فتحي، أحد عروض مدرسة الرقص الحديث، عندما قام الراقصون بقذف فتاة بالورق، كإشارة لتجسيد الخطيئة، فيكون رد فعلها من خلال حركات راقصة، تتحدى خلالها هذا الآخر وتكشف عن الرغبات السجينة بداخلها، إذ إن فن المسرح يرتكز في الأساس على الدلالة الجمالية للأداء الجسدي وإيماءاته الحية والمباشرة التي تتفاعل مع الجمهور (هنا الآن)، في اللحظة الآنية، فهو يشكل صورة مرئية محسوسة، وكأن الجسد يصنع حالة كرنفالية وشبكة متفاعلة من الأنساق الثقافية، وجسرا للتواصل الجماعي، فالجسد يقوم بتذويب الثوابت المتعارف عليها وتفكيك المسافات الزمنية التقليدية.
شاهدت من فترة عرض “أوبو ملكا” تأليف “ألفريد جاري” معالجة درامية «محمد محروس» ورؤية إخراجية “محمد هاشم” على خشبة مسرح الفلكي، ولم يُثِر دهشتي سوى الممثل الرائع “ناجي شحاتة” الذي قام بالبطولة وأدى شخصية “أوبو”، وكيف نجح بقوة في أداء الجوانب الوحشية والبرية لهذه الشخصية، وإبراز شراستها واضطرابها، من خلال إيماءته ولغته الجسدية، التي كانت تواكب لغته المنطوقة، بل واستطاعت أن تستكمل شخصية “الأب أوبو”، حينها خرجت من العرض وأنا أقول لنفسي هذا هو «أوبو» كما تخيلته منذ قراءتي للنص الأصلي.
ففي سبعينات القرن الماضي، تجلى نوع من الفنون البصرية يقوم بصياغة وتضمين الأداء الجسدي، أو بمعنى آخر صار الجسد البشري عنصرا جوهريا داخل تلك الأعمال، فيمكننا قراءته بوصفه قصدية التفاعل الحي، فكثير من الفنانين كانوا ينسجون لوحاتهم الفنية بصورة حية وارتجالية أمام الجمهور، هدفا في حالة من التجاوب وتسجيل ردود أفعال الجمهور، وكأن المتلقي صار هو الآخر دلالة مسرحية، وليس مجرد متفرج يَستقبل في صمت.
فلم تعد اللغة المنطوقة عائقا بين خشبة المسرح والجمهور، فلقد أصبحت اللغة الجسدية للمؤدين وحركاتهم، سبلا جديدة للتواصل والتقاط الإشارات المسرحية والتفاعل معها، وقد أثبت ذلك عروض المسرح التجريبي، التي لطالما استضافت مسرحيات وفنونا أدائية من دول مختلفة، تحمل لغات مغايرة وتجمع بين جمهور متنوع؛ ورغم ذلك كان الجمهور/ المتلقي، باختلاف ثقافاته، قادرا وما زال، على التجاوب مع العروض عبر اللغات الجسدية ودلالاتها الحركية.


أميرة الوكيل