الجسد بين المفهوم التقني والاجتماعي

الجسد  بين المفهوم التقني والاجتماعي

العدد 531 صدر بتاريخ 30أكتوبر2017

تأثرت فنون الأداء المختلفة ولا سيما فن التمثيل المسرحي بتلك النظرة المتطورة في التعامل مع الجسد وإمكاناته في القرن العشرين، التي أدرجت الجسد بمفاهيمه ووظائفه في علوم شتى كعلوم التشريح، وحركة الأجسام، وعلوم الميكانيكا، وعلم النفس، والفلسفة.. إلخ، حتى أخذت تتعامل كل العلوم مع جسد الإنسان باعتباره نظاما معقدا من الطاقة يستخدم الطاقة المستمدة من الطعام لأداء عمليات عضوية، مثل الدورة الدموية والتنفس والهضم والتوصيل العصبي والنشاط العضلي والغدي بوجه عام، وقد أضاف فرويد إلى هذه الأشكال المختلفة من الطاقة شكلا آخر هو (الطاقة النفسية) وافترض أنها علة نشاط العمليات النفسية الخاصة بالإدراك والتذكر والتفكير، كما ظهرت الكثير من النظريات المتعلقة بالجسد، مثل الطبيعة التطورية الأساسية التي أقام أبحاثه ودراساته عليها كل من داروين وفشر وويتمان وكريج وآخرون. وقد خضع جسد الممثل للتجارب المعملية الدقيقة، من تدريب لإمكانات الممثل الجسدية، والبحوث العملية حول الجسد حتى يتجاوز حدوده وإمكاناته التشريحية والدلالية الشعبية المتوارثة وأصبح لحركة جسد الممثل فلسفاتها الخاصة التي تتسم بحالة من الجدل والتساؤل، ومن ثم انتقلت المفاهيم الجسدية من مفاهيم “حركة الجسد” إلى مفاهيم “التعبير بالجسد”؛ أي الانتقال من الجانب الوظيفي إلى الجانب الدلالي، وهذا يعد تطورا نوعيا لأن التعبير دائما مرهون بمفهوم الفن؛ إذ إنه في جوهره شكل من أشكال القيمة الفنية، التي ندركها من خلال تقصي رموزها وإيحاءاتها.. وبذلك أوجد الإنسان الفنان المسرحي قدرته الجسدية والحركية ووظفها ونمى آلياتها. ولهذا أصبح هناك رؤيتان للجسد؛ الأولى تقوم على المفهوم العلمي والمعرفي للجسد في إطار العملية الفنية. والثانية: تعتمد على المفهوم الاجتماعي للجسد كأداة علاماتية، ونوضحهما فيما يلي:
أولا: المفهوم التقني للجسد
يعتمد هذا المفهوم على العمليات التشريحية الفيسيولوجية، وقد ارتبط بالعلم والمعرفة التي فجَّرها القرن العشرون، ومن ثم فقد تنوعت الرؤى الخاصة بفلسفة الجسد في الدراما المسرحية حتى أصبح الجسد يملك التعبير في حالة من الاستقلالية بعيدا عن قيود الكلمة؛ أي أن الشخصيات في العمل المسرحي أصبحت تعبر عن ذاتها جسديا حتى قبل أن تتلفظ. وقد خضع جسد الممثل للتجارب المعملية الدقيقة من تدريب لإمكانات الممثل الجسدية، والبحوث العملية حول الجسد حتى يتجاوز حدوده وإمكاناته التشريحية والدلالية الشعبية المتوارثة. وأصبح لحركة جسد الممثل في المدارس الحداثية فلسفاتها الخاصة التي تتسم بحالة من الجدل والتساؤل، الأمر الذي يتضح في تلك المناهج الإخراجية التي أدمجت تقاليد المسرح الشرقي وسعت إلى استبعاد الكلمة لصالح اللغة الجسدية. كما كانت هناك بعض التوجهات الفنية التي شرعت في توضيح عملي لاكتشاف قوانين التعبير الجسدي المسرحي، مفترضين أن مظاهر التعبير الجسدي يمكن صياغتها في قوانين دقيقة أشبه بصياغة المبادئ الحسابية، وقد أدت هذه التوجهات الجسدية في المسرح إلى تغيرات جوهرية متعلقة بجسد الممثل، التي تتمثل فيما يلي:
1- إعادة النظر في الممثل باعتباره كائنا إنسانيا وآلة فنية قادرة على التعبير والتواصل.
2- الاهتمام بالإعداد والتدريب من خلال مناهج تعتمد على أسس فنية ترتبط بالتربية البدنية من خلال الحركة الحسية والإيقاعية والدرامية.
3- محاولة التجاوز بحدود إمكانات الجسد عن طريق الرقص، المايم، الرقص الإيقاعي، الأفعال الأكروباتية، والجمباز.
4- اللجوء للمفاهيم الجديدة التي تتناول الطقس والممارسات الشعبية، وطرق الأخذ منها وتقليدها عبر الرجوع لأصولها أو محاكاتها.
5- مزج مفاهيم الجسد مع تصورات العلوم التقنية المعاصرة والتكنولوجيات.
6- البحث عن صيغ جديدة تجريبية لها علاقة بالحركة وعلومها، وارتباطها بكل نشاطات الإنسان وتجاربه الانفعالية والفكرية، وانتقالاته الجسدية من حركات غريزية وحركات انعكاسية ونفسية.
7- تحفيز العالم الداخلي للممثل وجعله يلتقي بالجسد لتفجير طاقاته من إيماءة وإشارة وتكوينات في الفراغ كي يعبر عن كثير من المعاني.
كان لتأثير المفهوم التقني للجسد على مناهج الإخراج الحداثية عظيم التأثير، فقد (عني المخرجون المعاصرون بالغ العناية بجسد الممثل، ليس كأداة منفصلة عن الكلمة، ولا كأداة مكملة لها، بل كلغة موازية في الأهمية وقد تفوق أهمية الأولى، وحتى في العروض التي يكون للكلمة فيها دور كبير، فلا بد من إطلاق جسد الممثل قبل إطلاق حنجرته، وتحريره قبل تحريرها. ولهذا ظهرت الكثير من الرؤى التي تضع حدودا فنية فاصلة بين الفعل الفيزيقي Physical act وحركة الجسم الحياتية، التي تقتضيها البواعث العادية المرتبطة بالحركة الوظيفية للإنسان، والمرتبطة بشكل عضوي بالكلمة المنطوقة.. ووضعت سياقا آخر مناهضا للواقعية يضبط العلاقة بين التعبير الجسدي والكلمة أو الصوت من حيث الفكر والتقنية. ولهذا خرجت الكثير من العلاقات التشاركية بينهما مثل: الصوت المستخدم كمرافق للفعل الجسدي، الصوت كذروة للحركة التعبيرية، الصوت غير الواقعي/ المفاجئ للتعبيرات الجسدية، والصوت المناقض للفعل الجسدي. وقد عنيت الدراسة بتحليل تلك العلاقات التقنية التي شكلت الفكر الحداثي للتعامل الجسدي/ الصوتي للممثل. وعلى الرغم من رفض المناهج الحداثية للمذهب الواقعي، فإنهم لم يرفضوا العلاقة الحيوية بين الجسد والجهاز الداخلي (النفسي/ العقلي) للممثل؛ فلا يمكن فصل جسد الممثل عن جهازه الداخلي، إلا أنهم أوجدوا بينهما علاقة فنية مغايرة، قدمت معها مجموعة من المفاهيم المختلفة، مثل: العقلية الجسدية Mental Physical والجسد النفسي Psychosomatic والقدرات الذهنية الجسدية Mental abilities of physical.. إلخ. الأمر الذي فرض أيضا الكثير من التقنيات الجسدية القادرة على تحقيق تلك المفاهيم، ولهذا بات ضروريا دراسة تقنيات التعبير الجسدي الحداثي في سياقها النفسي والذهني.
حصل الجسد على مزيد من الصلاحيات على مستوى عناصر العرض المسرحي، فبعد أن كان مجرد عنصر من عناصر العرض البصرية، أصبح العنصر الأكثر أهمية، وبات الجسد وتحركاته على خشبة المسرح وسيلة التعبير الأولى والرئيسية، وهو أداة الاتصال مع المتفرج والنص المكتوب بالنسبة له ما هو إلا سيناريو أو وصف للحركات الجسدية للشخوص وبقية العناصر من ديكور وملابس وموسيقى.. إلخ، دخلت مع الجسد في علاقة جدلية شغلت فيها المساحة الفارغة والجسد العاري والموسيقى البشرية دورا بديلا أكثر تخليا وتكثيفا لعناصر العرض وشديد التأكيد على الجسد التشكيلي.
ثانيا: المفهوم الاجتماعي للجسد
ارتبط هذا المفهوم بالمفهوم الشعبي للجسد، الذي استخدم فيه الجسد في الطقوس الشعبية من كرنفالات ورقص ومناسبات اجتماعية، ومن ثم أصبح الجسد خاضعا للثقافة السائدة في المجتمع ولمفهوم التوارث؛ كوسيلة لنقل مشاعر الإنسان الشعبي وأحاسيسه، وكذلك للتعبير عن أفكاره، وتنمية طاقاته. وبهذا قدم الجسد في إطاره الشعبي الإنسان عبر التاريخ والزمن، وعبّر عن إرادته ومخاوفه ورغباته وشهواته، وظل وسيطا للغة حية قادرة على تحقيق التواصل، لذا خضع الجسد في هذا المفهوم لعنصرين:
الأول: هو ماديته في إطار المفهوم الشعبي الطقسي، والثاني: هو خضوعه لعامل الطبيعة.
يظهر هذا المفهوم الجسدي في كل العروض الاحتفالية التي تعتمد على الطقس الشعبي، في العالم القديم، مثل عروض الدراما الإغريقية، وعروض الشرق الأقصى القديمة، وكذلك العروض الدرامية الأفريقية. تتناول تلك الدرامات موضوعات متعددة تدور في معظمها حول الأساطير والحكايات والخرافات والعادات والبطولات وأمجاد الأسلاف. ولقد أحال هذا المفهوم الشعبي للجسد إلى مفهومه الاجتماعي، الذي يضع الجسد في إطاره البيئي والثقافي، وما يتضمنه من تقاليد وعادات وسلوكيات وأخلاقيات وعقائد ومعتقدات، ومن ثم التوجه إلى مشاركة المتفرج الذي أصبح - تبعا لهذا المفهوم - جزءا من المكون العلاماتي للعرض المسرحي. ولقد أدركت مناهج الإخراج الحداثية أن عملية الاتصال والتواصل العلاماتي بين جسد الممثل والمتفرج، لا تتم بمنأى عن المكون الثقافي والمجتمعي لكليهما، فكل من الممثل والمتفرج ينتمي إلى سياق مجتمعي يقدم نفسه من خلاله، ومن ثم فإن نظام العلامات الجسدي يختلف باختلاف النطاق المجتمعي المقدم من خلاله، واستناد المناهج الحداثية إلى المفهوم الاجتماعي للجسد ودراسته؛ جعلت مفهوم نظام العلامات الجسدي يتصف بالشمولية، ويهتم بخلق علاقة تفاعلية تأثيرية تبدأ بين «مرسِل» يمثله جسد الممثل، و«مستقبل» يمثله المتفرج. ويتطور لعلاقة تبادلية تأثيرية لا يستأثر فيها الممثل بدور المرسل أو المتفرج بدور المستقبل، بل يتبادل في أثنائها الطرفان التفاعل والتأثير، ومن ثم تبادل دوري المرسِل والمستقبل.
ولهذا عني كتاب “الجسد المقدس” بدراسة “علاقة المشاركة” أو “العلاقة التفاعلية” أو”العلاقة الاشتباكية” بين جسد الممثل والمتفرج، وفيما تقدمه من نظام علاماتي مجتمعي، وطبيعة العلاقة القائمة بين شطري العلامة: الدال (حركة جسد الممثل) والمدلول (إضفاء المعنى من المتفرج).

 


فريد النقراشي