جدليات الجسد في المسرح الأفريقي

جدليات الجسد في المسرح الأفريقي

العدد 531 صدر بتاريخ 30أكتوبر2017

احتل الجسد اهتماما شديدا في الدراسات الثقافية بوصفه «آلة للتواصل» على حسب تعبير «أمبرتو إيكو» وبوصفه منتجا للمعنى ومعبرا عن الثقافة والهوية الثقافية. كما يرى «فيكتور تيرنر» أنه من خلال الجسد فقط يمكن للإنسان التواؤم مع التوقعات المفروضة عليه أو مقاومتها.
من هذا المنطلق يمكن فهم أهمية الجسد في أفريقيا، فمن ناحية نجد أن الثقافة الأفريقية أدائية واحتفالية تقوم على طقوس وأداءات جسدية تعمل على التواصل بين المؤدي والمتلقي. ومن ناحية أخرى يحتل الجسد أهمية في تحديد الهوية الأفريقية التي عانت في ظل استعمار ثم إمبريالية. فقد عكفت الدول الاستعمارية على قهر الجسد الأفريقي عن طريق فرض ثنائيات أسود = همجي وأبيض= متحضر، أو أسود = قرد وأبيض = إنسان، علاوة على عبودية الأوروبيين للأفارقة؛ أي الامتلاك المادي للجسد، ثم لاحقا عن طريق الاستغلال الرأسمالي بتحميل العامل الأفريقي أعمالا جسدية تفوق قدرته. ذلك بالإضافة إلى التعذيب في السجون والتمييز العنصري الذي يقوم بالأساس على اعتبارات جسدية خاصة باللون. وفي مراحل ما بعد الاستعمار أصبح القهر الجسدي ممتدا من السود على بني جنسهم. لذا يعتبر الجسد مكونا ثقافيا أساسيا في الأدب الأفريقي عموما وفي المسرح بشكل خاص.
امتدت محاولات قهر الجسد الأفريقي إلى فرض القواعد الدرامية الأوروبية التي تعتمد بشكل كبير على اللغة المكتوبة واعتبار الأشكال الأدائية والدرامية التقليدية الأفريقية فيما قبل الاستعمار من طقوس ومسرح شعبي هي أشكال بدائية وغير مكتملة لأنها ليست نصا مكتوبا ويخاطب العقل، بل تعتمد على الجسد الذي يكون في حالة من الخروج عن التفكير العقلاني والانغماس في حالة وجدانية تتخطى الحدود لتجعل الجسد في حالة من النشوة خارج سيطرة المنطق. وإذا كان الخطاب في المسرح الغربي يتم إنتاجه بشكل أساسي عن طريق الكلمات ويخاطب العقل فإن الخطاب في المسرح الأفريقي يتم إنتاجه عن طريق الجسد الذي يحمل دلالات لانهائية ويخاطب وجدان الجمهور لا عقله. ومن هنا جاءت محاولات كتاب المسرح الأفارقة المعاصرين لفرض لغة الجسد شكلا وموضوعا في مسرحهم حتى لو كان النص مكتوبا في لغة وإطار المسرح الغربي كنوع من مقاومة هذا القهر المفروض وكمحدد للهوية الأفريقية.
فعلى مستوى المضمون نجد موضوعات المسرحيات في جنوب أفريقيا تنصب على فكرة مقاومة التمييز العنصري الذي يقوم على أساس اللون، ففي مسرحيات مثل «سيزوي بانسي مات» (1972) للكاتب «آثول فوجارد» والمؤديان «جون كاني» و«ونستون نتشونا» ومثل «ووزا آلبرت» (1980) كتابة كل من «بارني سايمون» و«بيرسي متوا» و«مبونجيني نيجما» نجد محاولات عكس الأدوار الاجتماعية والقهر العنصري عن طريق تأدية المؤدين السود لأدوار البيض بطريقة ساخرة أو عن طريق تبيان مهارة ودهاء السود لمناقضة الصورة السائدة بأن السود أغبياء ويفتقرون للطموح أو أنهم أدنى منزلة، فالأداء الحي يعطي سلطة للجسد عن طريق حضوره «هنا» و«الآن» ومسئوليته عن إنتاج الخطاب وتوجيه عقل ووجدان الجمهور. ويكون الجسد الحاضر هنا هو الجسد الأسود مما يمنحه سلطة على الجسد الأبيض الغائب.
وامتدت الموضوعات بعد الاستعمار لتشمل ممارسات السود ضد السود عن طريق استعبادهم واستغلال الأغنياء للفقراء، أو عن طريق قهر الجماعة للفرد فيصبح الجسد ملكا للجماعة لا الفرد تقرر هي كيفية التعامل معه: فمثلا في مسرحية «آنوا» (1970) للكاتبة الغينية «آما آتا آيدوو» يكون صراع الشخصية الرئيسية هو صراع ضد عبودية السود لبني جنسهم؛ إما من خلال فرض المعتقدات التقليدية التي تفرض على المرأة منح جسدها كزوجة لمن تختاره الجماعة وفق التقاليد لا من تختاره هي كفرد، أو من خلال الامتلاك المادي لمجموعة من العبيد السود الفقراء لخدمة السود الأثرياء. وفي مسرحية «وا أفريقيا» (2007) للكاتب الكيني/ تنزاني «نانا هاديكوا موالوكو» يطرح الكاتب الشاب سيطرة الجماعة التي ينتمي إليها على جسد الفرد (ذكر وأنثى) من خلال كتابته في النص عن الاضطهاد والعنف الذي يتعرض له مثليو الجنس لأن الجماعة لا توافق على اختياراتهم الجسدية، كما يطرح الختان بوصفه آلية الجماعة للسيطرة على جسد الفرد. بينما تناقش الكاتبة «ديبورا آسيموي» الأوغندية في نصها «غير المسموح (2012) فكرة الجسد الأنثوي مقابل الجسد الذكوري الذي يحدد موقع الفرد من التميز داخل الجماعة حيث يكون للذكر أفضلية اجتماعية على الأنثى في المجتمعات التقليدية، فتحاول بطلتها أن ترتدي ملابس الأولاد وأن تقوم بأداء الفنون التي لا يؤديها إلا رجال كنوع من مقاومة القهر الذي يمارس ضد جسدها الأنثوي الذي يعد علامة في وجهة نظر الجماعة على احتلالها مرتبة أدنى في السلم الاجتماعي، كما ترفض محاولات الأم فرض أنساق جسدية محددة عليها يجب أن تقوم بها لكي تكون أنثى بحق في نظر الجماعة مثل وضعية الجلوس أو الحديث أو خفض الرأس التي من شأنها أن تجعلها أنثى مثالية، أما في مسرحيتها «العالم المنسي» (2011) فتطرح استغلال أجساد الأطفال كوقود في الحرب بجعلهم يحملون السلاح والتضحية بأجسادهم الصغيرة؛ مما يستدعي في الذهن أيضا استخدام جماعة بوكو حرام في نيجيريا للأطفال وتفخيخهم كنوع من استغلال براءة الجسد الذي ينتج للجماعة علامة على أنه غير مشكوك فيه. وفي نصوص الكاتب النيجيري «فيمي أوشوفيسان» يكشف الكاتب محاولات قهر السود للسود من خلال التقاليد، فمثلا في مسرحيته «طوافة أخرى» (1988) يتعرض لطقس التضحية الذي تقوم فيه الجماعة بقذف جسد لضحية بشرية في النهر استرضاء للآلهة المسئولة عن نشاط المياه، كما يفضح الفساد السياسي الذي يجعل الأثرياء السود يمتصون جهد الفقراء السود عن طريق إنهاك أجسادهم في الأعمال الزراعية والصناعية لتحقيق مكاسب مهولة للأثرياء بينما تعاني أجساد الفقراء من الجوع والجفاف والمرض، وفي مسرحيته «ذات مرة كان هناك أربعة لصوص» (1978) يطرح فساد السلطة العسكرية التي سنت قانونا تتمكن بموجبه من إعدام اللصوص - أي التخلص من الجسد - ويتعاطف فيه مع هؤلاء اللصوص ويقدم السلطة العسكرية الحاكمة باعتبارها لصا يسرق مال الشعب متخفية وراء المظهر الجسدي العسكري الذي يلعب على وتر الوطنية ويذكر الشعب بتضحيات الجيش بجسده من أجل التخلص من الاستعمار.
أما على مستوى الشكل فأصبح استخدام الفنون الأدائية التي تعتمد على الجسد بشكل أساسي كمحدد للهوية الأفريقية في النصوص المسرحية المعاصرة. فمن ناحية نجد أن الاعتماد على جسد الممثل بشكل أساسي يطرح سهولة صناعة عرض مسرحي بدون تكاليف إنتاجية ضخمة حيث تعاني القارة من فقر الإمكانات المادية وقلة المسارح المجهزة تقنيا بالشكل الموجود في الغرب، ومن ناحية أخرى فإن ما يميز الفنون الدرامية الأفريقية هو تلك الأدائية المعتمدة على الجسد، ففنون المايم والرقص التقليدي والطقوس والشعائر الدينية والاجتماعية المتضمنة في النصوص تعطي كلها حسا أفريقيا للنص المكتوب باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، والمكتوب وفقا للقالب الأوروبي لكتابة المسرحية. هنا تستخدم الفنون الجسدية الخاصة بالأفارقة كدلالة على الهوية الأفريقية سواء ما قبل الاستعمار أو ما بعده، فوقت الاستعمار كانت تستخدم كنوع من مقاومة الأبيض عن طريق تجسيد الفنون التقليدية الخاصة بالسود ووضعها في بؤرة اهتمام المتلقي، أما في فترة ما بعد الاستعمار فأصبحت تستخدم كنوع من التفاخر بالثقافة التقليدية وإعادة تقديمها في شكل معاصر لنفي صفة البدائية وعدم الدرامية التي ألصقتها بها عصور من الاستعمار وفرض القواعد الدرامية الأوروبية باعتبارها معيارا للدرامية على مستوى العالم من ناحية، ومن ناحية أخرى كوسيلة تعمل على تقريب المسرح بشكله الغربي من الجمهور عن طريق «أفرقته» باستخدام الفنون الجسدية الأفريقية حتى يشعر الجمهور بالألفة مع ما يراه.
هكذا يلعب الجسد في المسرح الأفريقي المعاصر دورا جوهريا ويكون له حضور درامي قوي على مستوى الشكل والمضمون، كما يطرح جدليات ثقافية بوصفه علامة على الثنائيات الحاضرة بقوة في القارة: عرق (أبيض/ أسود) أو نوع (ذكر/ أنثى) أو هوية (أوروبية/ أفريقية) أو علاقات القوة الاجتماعية (الجماعة/ الفرد)، وما يستتبع تلك الثنائيات من أدوار اجتماعية وصفات تجعل تلك الثنائيات في حالة اشتباك دائم يحاول المسرح الأفريقي طرحها للمناقشة حتى يمكن فض هذا الاشتباك.

 


أسماء يحيى الطاهر