رحلة المهرجانات المسرحية من كرفان الفرح إلى بيداء التباعد الاجتماعي

رحلة المهرجانات المسرحية من كرفان الفرح إلى بيداء التباعد الاجتماعي

العدد 672 صدر بتاريخ 13يوليو2020

رسخت العديد من مهرجانات المسرح العربية وجودها عربياً، بشكل واضح، مع مشاركات دولية متفرقة. فقد شكّل كل من المهرجانات المعروفة، بدءاً من مهرجان أيام قرطاج المسرحية، ومهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، ومهرجان الهيئة العربية للمسرح وإنتهاءً بمهرجان ليالي المسرح الحر في الأردن.
شكّل كل من هذه المهرجانات ظاهرة مسرحية لافتة، وإن كانت الى حدّ كبير مهرجانات للنخبة، سواء بمفهوم الإنتقائية أو بمفهوم المعنيين بالمسرح. والنخبة هنا، تعني غالباً، غياب الجمهور العام الحقيقي للمسرح. هذه المهرجانات هي الآن أحد الضحايا الرئيسية لوباء كورونا. فمهرجان المسرح الحر في الأردن قرر تأجيل دورته هذا العام، ولم يتبق سوى مهرجان قرطاج المسرحي الذي قرر الاستمرار بالتحضيرات الاعتيادية لعقد المهرجان في تواريخه المعتادة، أما مهرجان القاهرة التجريبي فقد أعلن إنسحابه من خشبة المسرح والذهاب، ربما “تجريبياً” الى عقد المهرجان على منصته في الإنترنيت بشكل “جاري ومباشر” أي بتقنية أون لاين.
غير أن الخيارات المطروحة لاتقتصر على ماذكرت (اي بين خيار مهرجان المسرح الحر في التأجيل، وخيار مهرجان قرطاج في الاستمرار وخيار ومهرجان القاهرة في الأون لاين)، فهناك خيارات عديدة منها أن تفتح المسارح بنصف طاقتها، أو أقل من ذلك، وهناك خيار العروض المسرحية في الفضاء المفتوح، وخيار عروض المونودراما أو المسرحيات محدودة الشخصيات، وهناك أيضاً مسرح الشارع. إضافة الى إمكانية الاستفادة من جمع المسرحيين والنقاد والأدباء والمفكرين، عن طريق إحدى منصات الإنترنيت، بندوات متسلسلة المواضيع مرة كل شهر لبحث موضوع واحد محدد في كل ندوة. النتائج الجدية لهذه الندوات وماتوصي به من إقتراحات عملية وقابلة للتنفيذ، يمكن ان تغيّير كثير من الممارسات المسرحية الشائعة. وغير ذلك من خيارات أخرى غير معلنة او غير مكتشفة. وأعني بذلك الخيارات التي تنتظر جهات مبدعة لصياغتها. لعل من أصعب القرارات حقاً، هي تلك التي يُترك فيها المرء وحيداً في زنزانة “الاختيار”، على العكس مما هو شائع.
“فالحرية” في هذا “الإختيار” هي مما هو متوفر من معطيات او حلول. ولكن إذا رفعنا نظرنا الى الأفق البعيد لعلنا نجد مساحة للإختيار فيما هو غير ظاهر. لإن “الإختيار هو الحرمان مما هو متاح” كما يقول أندريه جيد في “السمفونية الرعوية”. والحرمان هنا مقصود به صعوبة إمتلاك كل ماهو متوفر، فالخيار سيشمل أحد الحلول او المعطيات أو الدروب المتاحة وإهمال كل ماسواه. إلمجازفة إذن تبرز في حصر جميع الخيارات بخيار واحد، هو فيما يخص موضوعنا عن الشكل القادم لإقامة مهرجانات المسرح في البلاد العربية، وأعني الشكل الذي يعتمد على تقنيات “التواصل المتباعد” أي “أون لاين” بسبب وباء كورونا. وانا هنا، في هذا المقام بالذات، لا أودّ تسمية كورونا “بوباء” بل “بثقافة خاصة” قائمة على فلسفة التباعد الاجتماعي، والعزل القسري. ومن اللافت للانتباه، بل والمؤسف، أن يتحول المهرجان المسرحي من قاعدة ابداعية تنويرية، وفضاء للتعارف وتبادل الآراء والتجارب بين المسرحين والمعنيين في المسرح الى قاعدة تكرّس هذا الفكر وهذا السلوك لثقافة كورونا التي هي في طور التشكيل.
 وسأبحث ذلك في مكان آخر. ولكن لنتمعن أكثر بما متاح من تقنيات وكيفية إستخدامها ومدى صلاحيتها للمسرح ولجمهوره. من المعلوم أن فضاءات التقنية تمتاز بالمرونة ومنفتحة على كافة تنوعات العلوم والآداب والفنون، ولكنها في ذات الوقت تمتلك خصوصياتها التي، غالباً ما، تؤثر على أي عنصر يشاركها فضاءها الخاص. وبلغة أخرى، أن التكنولوجيا فضاء قائم بذاته، وان من يرغب ان يدخل هذا الفضاء عليه تغيير “سلوكه وخواصه” بشكل يتوافق وهذا الفضاء. وبذات السياق فإن تكنولوجيا الاتصالات بما فيها الاتصالات الجارية والمباشرة المسماة أون لاين Online سيكون لها إشتراطات أساسية لأي عنصر “دخيل” عليها ليتوافق ومستلزمات حيز وفضاء هذه التقنية. وذلك ببساطة، لأن الطبيعة التي تتحكم بمفاصل كل ماهو حي وموجود، تتحكم أيضاً، بفيزياء الكون، والفيزياء لها قوانين تتحكم بخواص العناصر الدخيلة. في هذا السياق، يصبح المسرح، وهو المحتفى به في مهرجان، يصبح فجأة “عنصراً دخيلاً” وفق قوانين الفيزياء الطبيعية. مع أن للمسرح أيضاً خواصه الفيزيائية والتي أهمها، على الإطلاق، ثلاثة خواص، الاولى هي “خشبة المسرح”. فهي العمود الفقري الذي به ترتفع قامة المسرح. والثانية هي “الحضور الجمالي للرؤية الإخراجية شاملة كل عناصر العرض المسرحي اضافة الى بهاء حضور الممثل”. اما الثالثة، والأهم، فهي “الجمهور”.
فإذا كان لابد للمسرح من الدخول في تكنولوجية الاتصال الجاري والمباشر (أون لاين) فعلى المسرح، “كعنصر دخيل”، أن يتخلى عن بعض عناصره وبعض خواصه، ليتوافق وفضاء هذه التقنية التي لم يحسب لها أرسطو (أو ايٌا من آباء ومؤسسي المسرح، ولا من المنتفضين على تلك القواعد، بل وحتى المنظرين الحداثيين للمسرح اليوم) أي حساب. أي بتعبير أكثر وضوحاً، يجب أن تغيّر من خواصها المسرحية الارسطية وتحافظ على الشكل التوافقي الجمالي (مع كثير من التحفظ) ومع تعديل جوانب النص والتمثيل والإخراج لكي تتوافق وفضاء الأون لاين. الى هذا القدر من التغيير المطلوب على العروض المسرحية لكي يمكن تأطيرها ضمن تقنية أون لاين. يقول الروائي المعروف جوزيف كونراد “إن أي عمل يطمح، مهما كان بتواضع، إلى حالة الفن يجب أن يحمل تبريره في كل سطر”. هنا يجب التأمل قليلاً. هل حافظت هذه العروض المسرحية على “الروح” المسرحية كما لو كانت على خشبة المسرح، اذا وجدنا بأن هذه العروض أبتعدت عن تلك الروح المسرحية فأن إيماني بالمسرح سيمدّني بالجرأة لأقول اذن ماهو “أون لاين” هو “شكل آخر” من العروض ولكنه ليس “بعرض مسرحي”. واذا اتفقنا على ذلك، فجرأتي ستمتد الى التشكك بجدوى إقامة مهرجانات مسرح أون لاين. ولكني،بالطبع، سأُعيد كل حساباتي حال حذف كلمة مسرح من عنوان المهرجانات المقصودة. بمقابل المسرح، “كعنصر دخيل” في تكنولوجيا الأون لاين، لنتفحص اذن سريعاً بعض التكنولوجيات المستخدمة حالياً في المسرح، بما في ذلك الفيديو والسينما والشرائح الفلمية اضافة الى استخدام المنصات الإلكترونية القائمة على الإنترنيت. كل هذه التقنيات تتحول الى “تقنيات دخيلة” في المسرح لانها تفقد خواصها الاساسية، ولأنها جميعاً أُستخدمت كوظائف مساعدة لخدمة العرض المسرحي. فلا الفيديو حافظ على خواصه وعلى وظيفته الاساسية، ولا المادة الفلمية تحافظ على خصائص السينما وهكذا، لانها كلها تخضع لقانون الفيزياء المذكور اعلاه. قانون لايرحم الكيانات التي تفقد او تغيّر خصائصها. التساؤل المشروع هنا هو : لماذا كل ذلك؟ لماذا تجريد المسرح مما هو مسرحي؟
ولي في ذلك ثلاث إجابات، ولكنها ليست إجابات على هذا التساؤل، بل إنها إجابات لمساندة السؤال. الإجابة الاولى تتعلق بمهرجانات عريقة عالمية امتدت لعقود طويلة وأضطرت ان تلغي إحتفالها هذا العام، بسبب وباء كورونا (مع إعتماد إقتصاد المدينة الى حد كبير على هذا المهرجان) ولكنها تحضّر من الآن الى العام القادم. أعني بذلك مهرجان أفنيون المسرحي الشهير على سبيل المثال. والجواب الثاني يتعلق بافتتاح عدد من المسارح الأوربية، ولكن بطاقة استيعابية تصل الى ربع العدد الكلي للصالة أو أكثر قليلاً. والجواب الثالث وهو الأهم بإعتقادي، يتعلق بماهية الثقافة العربية التي أراها تتناقض وثقافة كورونا ومن ضروراتها المعلنة وأعني بذلك ثقافة الأون لاين التي تُدهش الجميع لسببين متناقضين، السبب الاول لانه يجد فيها حلولاً سحرية سهلة المنال في التواصل عن بُعد. والسبب الثاني لأنه ينتصر لروح المسرح ولايجد سبباً يمنعه من التأجيل، وعينه الحذرة على إكتمال كل الظروف الصحية والاجتماعية لإقامة المهرجان بإكتمال شروط تلك الظروف. أعود الى “ثقافة كورونا” وتناقضها مع الثقافة العربية. وقبل الدخول بخصوصيات الثقافة العربية سيكون من المفيد التذكير “بالقيم العامة” التي تدعو لها “ثقافة كورونا” بدأً بالتباعد الإجتماعي، مروراً بالعزلة القسرية وإنتهاءً بتبني “الماسك” كقناع يُستعاض به عن الوجه. فالفلسفة القائمة وراء ذلك كله، أن يُعالج الجميع، اي كل إنسان على هذا الكوكب، بوضع شريحة دائمة تحت الجلد، تبعث المعلومات والأعراض وغير ذلك، عن بُعد، الى جهة مركزية. هذه الجهة لن تحتاج الى شكل الوجه او لون العينين أو بصمة الإبهام، فلديها كل مالايعرفه الإنسان عن نفسه عبر تلك الشريحة. اليست هذه كلها ثقافة خاصة في طور التشكيل؟ وآليست هذه الثقافة متناقضة مع مانعرفه، ولو سطحياً، عن الثقافة العربية؟ الثقافة العربية، في هذا المقام، تنبثق من مجموع القيم الإيجابية التي تجمع مجتمع ما، ثم مجموع المشتركات بين هذه القيم التي تربط مختلف المجتمعات الوطنية (أو القومية) ببعض. اي مشتركات القيم التي تشكّل المجتمع العربي. وهنا نتحدث أولاً عن التضامن كقيمة أخلاقية، ودينية رسمت ملامح المجتمع العربي، أكاد أقول، منذ تكوينه. هذا التضامن يجّر وراءه قيم أخرى مثل الترابط الإجتماعي والاهتمام بالحي وبالجيران .. الخ. هذه الثقافة المبنية على التقارب معادية الى ثقافة العزلة ومعادية الى ثقافة التباعد الاجتماعي. انها ثقافة إجتماعية مبنية على التواصل الحي بين جميع خلايا المجتمع. وبالاستنتاج الاخير، فإن إقامة مهرجانات المسرح أون لاين لاتبتعد فقط عن “روح المسرح” بل تخاصم وتعاند المجتمع العربي الذي تتوجه اليه. إضافة الى أن المهرجان سيقدم عروضاً تفتقد بالضرورة للخصائص المسرحية المذكورة سابقاً. في حين ان إقامة مهرجان مسرحي حي سوف لن يبذل أي جهد إضافي سوى أنه سيراقب بحذر الظروف الصحية والاجتماعية في البلد، ولعله يخفض من نسب الزائرين للمسرح ولكنه سيحتفظ بجميع خصائص المسرح وبكل تنويعاته وبذا فقط يمكن تكريس ثقافة مسرحية وجمهور مسرحي واعي ومتابع. وهنا أود أن أذكّر وأختتم بالمقولة الهامة للفيلسوف، والكاتب والمخرج المسرحي البير كامو في كتابه الانسان المتمرد “ إن الطريقة الوحيدة للتعامل مع عالم غير حرّ، هي أن تصبح أنت مطلق الحرية، وأن يكون وجودك (في هذا العالم) فعلًا من أعمال التمرد”.


علي ماجد شبو