الإيهام وفقدان الثقة في المسرح(1-2)

الإيهام  وفقدان الثقة في المسرح(1-2)

العدد 667 صدر بتاريخ 8يونيو2020

في الولايات المتحدة الأمريكية، بداية من الخمسينيات مرورا علي الأقل بمنتصف السبعينات، حدثت مجموعة هائلة من التجارب المسرحية قال عنها الكاتب المسرحي (آرثر سينير Arthur Sainer):
 “ أصبح كل شيء موضع سؤال : مكان المؤدي في المسرح ؛ ومكان الجمهور، ووظيفة الكاتب المسرحي، وفائدة النـص المكتوب، وبنية قاعة المسرح، وبعد ذلك، الحاجــة لــنوع المسرح، وفي النهاية الوجـود المسـتمر للمسرح كقوة وثيقةالصلة بثقافة متغيرة “.
 اختلفت دوافع هذه التجارب مثلما اختلفت التجارب نفسها. فقد كانت هناك خيبة أمل جمالية واقتصادية مصاحبة لعروض المسرح التجاري. اذ كان المشاركون في الأنشطة السياسية خلال فترة فيتنام يبحثون عن طرق لحشد قوة المسرح في تلك الأنشطة في بيئة جديدة للجمهور، وأراد بعضهم المشاركة في الأحداث المسرحية، وقد رغب بعض منهم في مواجهتها. وكان هناك أيضا فقدان ثقة أخلاقي في الشكل المسرحي والدراما التي مالت أكثر إلى الصور النفسية للشخصية دون إشارة واضحة للحياة الاجتماعية. وفي النهاية كان هناك ميل إلى فقدان الثقة في تقاليد المسرح نفسها.
 وقد اندمج هذان الاثنان الأخيرين – وما زالا مندمجين. فقد علق (سينير) في عام 1975 علي عرض عام 1959 لمسرحية “ العلاقة The Connection” بقوله “ لقد تجاوزت سلبية المدمنين الذين يتوقع إصلاحهم الشخصية. وبالمعنى الأكثر تطرفا، لم تكن سلبية على الإطلاق، ولكن غياب الدراما... لا علاقة له بالشخصية التي يتم صنعها، ولكن له علاقة بتوقف المؤدين عن تقديم العروض. ولماذا نسأل هل ينبغي أن يفعلوا ذلك ؟ فيخبرنا ( سينير ) :
 “بدأنا نفهم في الستينيات أن الكلمات في المسرحيات، والكائنات المادية في المسرحيات، والأحــداث، كانت أيضا مراوغات ، وحيل لا علاقة لها بالحقائق بل لها علاقة بالمظاهر الخارجية.
 إذ كانت في أفضل الأحوال تدور حول شيء فضلا عن أنها شيء شيئا بعينه : كانت أشياء تصف تجارب، فضلا تقديـم التجارب نفسها “
 تبدو لي هذه الفقرة غريبة من ناحيتين. فهي لا تخلط فقط الشك في الدراما (ولاسيما الدراما التي تؤكد علي الشخصية ) بالشك في المسرح، بل إنها تركز أيضا الشك في المسرح علي ما أعتبره صورة مضللة لطبيعة المسرح : فالمسرح بطبيعته معطى في أغلب الأحوال إلى المظاهر الخارجية، وأفكار تصف التجارب، فضلا عن الحقائق، والتجارب نفسها. ( البديل الآخر لهذه الصورة هو أن تلك الحقائق نفسها هي مجرد مظاهر أيضا ).
 تحوم هذه الصورة في تجلياتها المتعددة حول حدود نظرية المسرح المعاصرة – وهي مركز هذه النظريات في بعض الحالات. إنها الصورة التي شكلت تطور أحداث مسرحية معينة وحركات مسرحية معينة. إنها أيضا صورة لها أصل معروف ومن السهل تبنيها. فمن ناحية، يعد ( برتولت بريخت)، من نواح كثيرة، أكثر منظري المسرح تأثيرا في عصرنا. ومن الناحية الأخرى، يكاد يكون من الشائع أن نسمع من يتحدثون عن المسرح باعتباره إبداعا للإيهام ؛ وأنه من السهل أن نفكر في المظاهر الزائفة أو المخادعة عندما نواجه كلمة “ الإيهام”. ولكنها أيضا صورة مضللة.
 وبالتالي فان ما يلي هو مناقشة لمفهوم الإيهام في المسرح. ولأسباب واضحة وضعت المناقشة داخل إطار توضيح هذا الجزء من نظرية (بريخت) التي هاجم فيها الإيهام في المسرح. والغرض من هذا التوضيح والعديد من الاستطرادات فيه هو تتبع الخيوط في استخدامات الكلمة من خلال رؤية. وأخيرا الاستفسار عما إذا كان هناك سبب وجيه لافتراض أن هذا المسرح، بطبيعته، يعمل من خلال مظاهر زائفة أو خادعة. وسوف تكون الإجابة هي كلا.
 أولا – في كتابه “ الأورجانون الصغير في المسرح The Short Organon for Theater “ عام 1948، حاول (بريخت أن يصف ويشرح ما يجب أن يكون طريقة جديدة في أداء المسرح، حيث لم يعد من واجب الممثل، من بين أشياء أخرى، إقناع الجمهور بأنه شخصية في نص المؤلف وليس هو بذاته الذي يقف أمامهم علي خشبة المسرح، حيث لا يوجد إيهام يتطابق من خلاله المؤدي مع الشخصية ويتطابق الأداء مع الحدث الفعلي. ويوضح أن هذا سوف يمنح مصمم الديكور حرية كبيرة لأنه لم يعد مضطرا لإعطاء الإيهام مساحة أو مكان وهو يبني مشاهده. ويقول لنا أيضا. ويخبرنا أيضا، أننا سوف نجد أن هذا يعني مع ذلك إلغاء إيهام آخر : أن يتصرف الجميع مثل الشخصيات المعنية. وفي النهاية، ما أراد (بريخت التخلص منه هو المسرح حيث كل ما يهم هو إيهام لقوة الدفع الإجبارية في القصة المروية.
 كيف نفهم هذه الملاحظات، ولاسيما استخدام كلمة إيهام فيها؟ من المفيد أن نبدأ بالملاحظتين الأخيرتين. لأن أساليب التمثيل وإعداد المشهد اللذان سعى (بريخت) لبديلهما كانا جديدين نسبيا. فأسلوب التمثيل الطبيعي، مثلا، الذي أكد علي الصور النفسية للشخصية، تناغم تاريخيا وفكريا مع مسرحيات ابسن وشو وهوبتمان وتشيكوف وآخرين في أواخر القرن التاسع عشر. ولكن يمكن تتبع الفكرة الأساسية لما يجب أن يفعله المسرح ذاته والتي رفضها بريخت من خلال التقاليد الدرامية ككل. وهي علي وجه التحديد اعتراضه علي تركيز التقاليد الدرامية علي فكرة القدر أو المصير : فكرة أن البشر يتصرفون ويتفاعلون وفقا لأنماط ( نفسية ) قابلة للتغير معطاة في الطبيعة ومستقلة عن الترتيبات الاجتماعية التي يجد فيه المرء نفسه. ففي عام 1927 لاحظ ( بريخت) أن جانب من الاختلاف بين المسرح الدرامي وما سماه آنذاك المسرح الملحمي هو أنه يتم تناول الإنسان في النوع الأول كما هو دون تغيير بينما في النوع الثاني يكون الإنسان هو موضع السؤال، فهو متغير وقادر علي التغير. وفي هذا السياق ينبغي أن نفهم ملاحظاته حول الإيهام بقوة الدفع الإجبارية وإيهام كل شخص يتصرف مثل الشخصية المعنية.
 فما نوع هذا الإيهام ؟ هل هو إيهام غريب عن المسرح ؟ أعتقد أنه من الواضح أن (بريخت) يستخدم كلمة “ إيهام “ في هذه الملاحظات بافتراض خاطئ بجهل الدليل المضاد الواضح والمتاح. وهذا هو المعنى الذي نقول فيه للناس أن لديهم إيهام. ( أفترض أننا لو وجدنا أن الالتزام بالعالم المزيف غير قابل للتحقيق، كما أنه مقدم بشكل مباشر في مواجهة الدليل، فمن الممكن أن نستمر في القول بأن الشخص مخدوع أو يخدع نفسه ). علي أية حال، هذه طريقة منطقية لاستخدام (بريخت) لكلمة “ إيهام “ هنا، فمن الواضح أنه لا علاقة لها بالمسرح. بمعنى أن إيهام قوة الدفع الإجبارية ( القدر غير القابل للتغير) أو الشخصية النفسية عموما قد تتورط في النكات والحكايات والصور والروايات، وأيضا العروض المسرحية. علاوة علي ذلك ( وربما الأكثر أهمية كما سنرى فيما بعد ) فان هذه ليس إيهاما يعتمد بأي شكل حاسم علي مظهر زائف أو مخادع. بمعنى أنه الإيهام ( الافتراض الزائف) بأن الناس لديها تركيبه نفسية غير قابلة للتغير ومصائر غير قابلة للاختزال إلى أي مظهر بعينه. والمطلوب هنا هو قصة وهمية – وليس بمعنى أنها قصة خيالية – ولكن بمعنى أننا لكي نقبل القصة يجب أن نقبل فرضياتها (دون نقاش عادة) ضمن ما سوف يكون افتراضات زائفة (وهمية) محل سؤال.
 وقد انتشرت صيغ المسرح التي هاجمها ( بريخت)، علي الرغم من أنه كان يؤمن بأسلوب يعزز الافتراضات الخاطئة التي ناقشناها للتو. وهذا يعنى أن هذه هي الطريقة التي كانت تٌروى بها القصص ( الوسائل التي قٌدمت بها ) ساعدت في إخفاء زيف الافتراض الذي استندت عليه. وضمت من بينها الوسائل المستخدمة في ذلك مثل الإضاءة والملابس وإعداد المشاهد والتمثيل بالطبع، واستخدم (بريخت) أيضا كلمة “ الإيهام “ في هذه العلاقات.
 ثانيا – ولعلك تتذكر أن مصمم المشاهد لم يعد يعطي مساحة أو مكان للايهام عندما يبني المشاهد. واللغة في هذه الفقرة توحي بفكرة أن تصميم المشاهد من نوع المسرح الطبيعي كان مناظرا لظاهرة الإيهام البصري. وهنا نتحدث عن تقاليد الحائط الرابع : وهو تقليد ارتبط بإطار خشبة المسرح الايطالية التي يرى من خلالها المشاهدون، وكأنهم يشاهدون من خلال حائط رابع مفقود في بيئة شخص ما حية فعليا. وليس هناك شك في أن بعض إعدادات المشاهد الناجحة من هذ النوع علي الأقل، وربما الكثير منها، تستخدم إيهاما بصريا لكي تنجح. ومع ذلك من المهم أن نتذكر علي حد سواء أن ما لدينا هنا هو تقليد واحد من بين عدة تقاليد لإعداد المشاهد وأن مثل هذه الإعدادات يمكن أن تنجح حتى لو لم يستخدم فيها أي إيهام بصري. ومن المفترض أن يكون هذا واضحا للجميع. ولكن ما الذي يفسر فكرة أننا يجب أن نستمر في التفكير في شيء بمثل هذه الطريقة ؟.
 يبدو أن الأمر علي النحو التالي. الإيهام البصري هو أحد أشكال الإيهام ؛ يتم تخصيبه بطرق ملائمة، ويصل مفهوم الإيهام إما إلى مظهر زائف أو مظهر مخادع ( بمعنى المظهر الذي يؤدي إلى اعتقاد خاطئ ). ولذلك، في النهاية، الإيهام البصري هو نموذج مثال لمفهوم يتم إثراءه. وإذا فكرنا في المسرح الآن، فربما نقول أحد شيئين. (1) مشهد خشبة المسرح هو مجموعة من الصيغ التي تقودنا إلى رؤية ( أو اعتقاد أننا نرى) غرفا، بينما ما نراه أمامنا في الواقع هو قماش وخشب وطلاء وليس غرف على الإطلاق، فهي مظاهر زائفة. وربما نجد أيضا هذا الأمر خادعا ؛ حتى عندما لا نٌخدع، لأنه يجب مطالبة المتفرج بعدم التصديق، وهذا يتطلب جهدا من الإرادة ( في النهاية يجب علي المتفرج عدم التصديق ). (2) عندئذ ربما نتذكر قصصا مثل قصة “ جوناثان” في تباتين “رويال تايلر”، الذي لم يعرف أنه في المسرح، ولم يسبق له أن ذهب إلى المسرح، واعتقد أنه كان ذاهبا إلى الساحر، ويصف لنا ما حدث له كالتالي : لماذا، أتعهد، بينما كنت أبحث عنه، رفعوا قطعة قماش خضراء وجعلونا ننظر الي منزل الجيران. فهل صنعت لك العديد من المنازل الجيدة في نيويورك بنفس هذه الطريقة؟. ( الرد عي هذا السؤال هو الإجابة الجافة “ ليس كثر من المنازل “ ). وبالتالي يبدو أن “ جوناثان” يصور مدى خداع خشبة المسرح، بحيث تؤدي إلى اعتقاد خاطئ.
 ولكن أنظر : لنفرض أن مصمم الديكور شعر بالقلق من تقديم مظاهر زائفة، يمكن أن تؤدي إلى اعتقادات خاطئة، فقال “ بدلا من تقديم إيهام بغرفة، سوف أقدم الغرفة الحقيقية ! “. فهل يمكن أن ينجح ؟، في ظل (1) تذكر أن الإيهام بالغرفة هو مظهر زائف ؛ فهي ليست غرفة فعلا. ولكن مشهد في لوحة. وبافتراض أننا نفكر بهذه الطريقة فيمكن أن نقول ان نجاح هذا النوع سهل ( رغم أنه مكلف ويستغرق وقتا). ثم إذا فكرنا ثانية، يمكن أن نعتقد أنه، لأن الغرفة مرصعة، فسوف يتم بناء اللوح والجص علي خشبة المسرح من أجل الأداء، فان الإصرار علي هذا النوع مستحيل تماما. وبالمثل، في ظل (2) يمكن أن يقال ان “ جوناثان” لديه اعتقاد صحيح – أنها غرفة. ثم مرة ثانية، عندما نتذكر أنها عي خشبة مسرح ومن أجل الأداء، يمكن أن تظل غرفة “ جوناثان” ذات اعتقاد زائف – وأنها غرفة فعلا. فمن أي نوع هي ؟.
 أعتقد أننا إذا واصلنا التفكير بهذه الطريقة فلن نزعج أنفسنا أبدا. ورغم ذلك مازلنا نستطيع أن نفعل شيئا. لأن الحجج المؤدية إلى النتائج الثانية في المعضلات السابقة خاطئة. وبالنظر الي الشروط التي تصور بها مصمم الديكور المتخيل، فان لدينا مشكلة، لأن معيار “ حقيقي “ مقابل “ وهمي” هو الشيء الذي تصنع منه الغرفة. إذ يتم التسليم بأنها غرفة علي خشبة المسرح ومن أجل الأداء. لذلك فان التماس هذه الحقيقة هو طرح سؤال عما إذا كان بوسعنا تجنب الإيهام وتقديم الشيء الحقيقي. بالطبع نحن مع الأفكار المقلقة التي مفادها أن مجموعة الأزرار والألواح والجص أفضل بطريقة أو بأخرى (من حيث المبدأ) من نظيرتها المصنوعة من القماش،ان غرفة “ جوناثان” في هذه الظروف ليست مضللة. هناك شيء صحيح في لفت انتباهنا نحو خشبة المسرح والأداء.
 تقونا الطريقة الصحيحة لفعل ذلك إلى رفض الطريقة التي نفكر بها في كلمة “إيهام”. فما نحتاج أن نتذكره أولا هو أن المذهب الطبيعي هو تقاليد تصويرية. وفي داخل التقاليد لا يوجد المعيار الذي يجب أن نميز به بين “ الغرفة الوهمية “ و”الغرفة الحقيقية”. وهذا يعني أنه سواء كان المشهد الطبيعي مصنوع من الأزرار والألواح والجص أو مصنوع من القماش والخشب والطلاء، فان هذا الأمر لا علاقة له بأصول التقاليد. وهذا لا يعني أن ننكر أنه ربما تكون هناك أسباب عملية وجمالية مهمة لها علاقة باختيار المواد – مثل حجم المسرح، وحاجات الممثلين، والميزانية.. وما إليها. والتذكير الثاني الذي نحتاجه هو أن مشكلة “ جوناثان” مرتبطة أيضا بفكرة التقاليد. ف(جوناثان)، لجهله بتقاليد المسرح، يتم تقديمه الي مشاهد طبيعية وتمثيل طبيعي، أساء فهمه. لقد أخطأ موقفا لم يكن مألوفا له تماما بموقف آخر ( وهذا مألوف ( وان كان غريبا). فلم يقدم له ببساطة مظهر زائف ولم يتم خداعه لتصديق الزيف. فهو ببساطة لم يعرف ما الذي يحدث : من الأفضل أن يوصف بأنه حضر بينما فشل في رؤية “مدرسة الفضائح School for Scandal” فقد كان جاهلا، ليس بما يعتقده بشأن ما رآه في المقام الأول، ( علي من أنه كذلك أيضا بشكل مهم) ولكن بشأن كيفية رؤية ما رآه. اذ لم يتعرف علي علة ما رآه. لقد كان غير معاد علي تقاليد المسرح مثل عدم اعتياد الطفل في سن الرابعة علي الأسئلة البلاغية. وعلي الرغم من أن هذا الطفل قد يتم تضليله إذا سألته “ هل تحب الموز حقا ؟ “ بينما يلتهم واحدة، فقد يبدو في حيرة ويفكر في إجابتي، وسوف يمتد الأمر تماما إلى التأكيد علي أنني قدمت المظهر الزائف في طرح السؤال.
 وقد يكون التذكير الأخير هو أننا لا نستخدم كلمة “ إيهام “ في تصميم المشاهد التي تنتمي إلى المذهب الطبيعي فقط. ولنتأمل الوصف التالي لبريخت في نموذج تصميم المشهد في مسرحيته “ الأم شجاعة “ إذ يقول : “ لاشك أن السيكلوراما خلف خشبة المسرح الخالية تماما ( في الافتتاحية وفي المشهد السابع وفي المشاهد الأخيرة ) تخلق إيهاما بمنظر طبيعي مسطح ذو سماء ضخمة “. والآن، إذا كان هذا مناسبا، وأعتقد أنه كذلك، فانه لا يجب فهم فكرة خلق الإيهام في إطار المظاهر الزائفة، أو المظاهر المخادعة. فمن العبث أن نفترض أنه يمكن لأي شخص أن يخطئ السيكلوراما ( الستارة الخلفية) علي أنها سماء ضخمة، أو أنها تشبهها. بالطبع، بالنسبة ل (بريخت)، من المهم ( في مسرحية الأم شجاعة ) أن يواجه المشاهدون خشبة مسرح عارية من الديكور حتى يتمكنوا من المشاركة في الفراغ الأولي الذي يبدأ منه كل شيء، من خلال رؤية خشبة المسرح الخالية، والتي سوف تيم شغلها فورا. ويدرك المشاهد أن هذه هي الخلفية التي يعمل عليها الممثلون لعدة أسابيع ويختبرون التفاصيل الواحدة تلو الأخرى. “والآن نبدأ، تدخل عربة الأم شجاعة الى خشبة المسرح “.
 في هذا السياق من الواضح أنه من الخطأ القول إن السيكلوراما وخشبة المسرح العارية تبدوان الآن كاذبتين فجأة بطريقة غامضة علي اعتبار أنهما منظر طبيعي وسماء ضخمة وأن رواد المسرح المتمرسين يختبرون الآن ظهور الأرض والسماء (علي الرغم من عدم خداعهم). ومع ذلك نقول فعلا أن السيكلوراما وخشبة المسرح العارية يخلقان الإيهام موضوع السؤال.
 هل هذه مجرد طريقة مضللة أو خاطئة في الكلام ؟. أعتقد أننا عندما نتحدث بهذه الطريقة لن يكون لدينا شيء واحد في ذهننا بل عدة أشياء : ربما نعني فقط أن الحالة المزاجية تنشأ، أو أن يتحقق شعور مكاني معين ( مزدحم مقابل فارغ.. الخ) أو أن تحدث بعض المواقف، أو توليفة منها، جنبا إلى جنب مع حقيقة أن ما هو موجود علي خشبة المسرح يتم تناوله كأداة تقليدية لتمثيل مكان ما. وربما هناك أشياء أخرى معنية هنا أيضا. ولكن من الواضح مع وضع هذه الأشياء في الاعتبار أن يكتب (بريخت ) قائلا “ بفضل السهولة التي تم بها ابتكار الإيهام يمكن أن يقترح الممثلون في البداية أن هناك أفقا واسعا مفتوحا الاستثمار التجاري للعائلة الصغيرة مع مقصفهم، ثم في النهاية يواجه الباحث المنهك عن السعادة خرابا لا حدود له “. فربما لا يكون هذا استخداما مباشرا لكلمة “ إيهام “ ؛ وأعتقد أنه ليس كذلك. ولكننا إذا فهمنا الظواهر يشكل صحيح، فلن نتوه بجد.
 وهذا يقودنا في النهاية الي السؤال : ماذا كان لدي بريخت ضد إعداد المشهد الطبيعي ؟. اتضح بشكل مثر للاهتمام أن اعتراضاته الرئيسية لا علاقة لها بابتكار الإيهام في حد ذاته ولا حتى بالمعنى الذي يوضحه للتو ( إذا كان ذلك بالفعل معنى كلمة “ إيهام “ ). بدلا من ذلك، يزعم (بريخت ) أن التوجهات، والتوقعات والحالات المزاجية التي أقيمت بواسطة تقاليد المذهب الطبيعي هي الخاطئة. وأن ما يعترض عليه بريخت هو إعداد المشهد وفقا لتقاليد المذهب الطبيعي والإضاءة الخفية وأسلوب تمثيل ستانسلافسكي.
 “ولنذهب إلى إحدى هذه الدور ونلاحظ تأثيرها علي المتفرجـين.
 وإذا نظرنا حولنا فسوف نري كم هي شخصيات غريبة جامـدة :
 يبدو أنها تعمل بقوة لشد جميع عضلاتها، باستثناء الحالات التي تكون فيها مبتهجة ومرهقة. ونادرا ما تتواصل مع بعضها البعض ؛ علاقاتهم عي علاقات كثير من النائمـين، وكأنهـم في حلم لا يهدأ، لأنهم كما يقال عموما من الذيـن يعانـون مــن الكوابيس، وهم مستلقون علي ظهورهم. صحيـح أن عيونهــم مفتوحة، إلا أنهم يحــدقون فضلا عن أنهم يرون، كمــا أنهــم ينصتون فضلا عن أنهم يسمعون. وينظرون إلى خشبة المسـرح وكأنهم في نشوة : تعبير قادم من العصور الوسطى وأيام السحرة والكهنة. تعد الرؤية السمع فعاليات، ويمكن أن تكون ممتعة ، ولكن يبدو أنه هؤلاء الناس يشعرون بالراحة من الفعالية، مـثل الرجال الذين يتم القيام بشيء لهم. هذه الحالة المنعــزلة، حيـث يبدو أنه يتم إعطائهم مشاعر غامضة ولكن عميقة، تنمو بشكـل أعمق في عمل الممثلين في أفضل الأحوال، ولذلك يجب علينا، مادمنا لا نوافق علي هذا الموقف، أن نكون سيئين بقدر الإمكان مثلهم “.
 تكمن المساهمة التي تقدمها تقاليد إعداد المشهد في المذهب الطبيعي، والتي يسميها ( بريخت) أحيانا “ القداسة” أو “ التنويم المغناطيسي”، في تحفيزها للإحساس بالمألوف والواضح عند الجمهور. ويسمح هذا للجمهور في المقابل بالافتراض الزائف بأن البشر غير قابلين للتغير. فكيف يكون ذلك ؟ إنها جزئيا مسألة نفسية/اجتماعية : فمن خلال تقديم مشهد مألوف، يقوم المتفرج بدور في المظهر السلبي العام. ولكن العنصر الأهم هو العنصر المنطقي : ما يدهشنا ما يبدو مألوفا وواضحا ولا يحتاج الي تفسير علي وجه التحديد. وبالتالي، بقدر ما نقبل المشهد باعتباره يقدم ما هو مألوف نكون عندئذ مستعين أيضا لقبول ما يحدث في داخله بنفس الطريقة. وفي المقابل يكون لدينا من ( بيخت ) ما يلي :
 لكي يحول الشخص نفسه من القبول السلبي العام إلى حالة   التطابق مع الاستفسار الشكوكي، فسوف يحتاج إلى تطوير تلك العين المنفصلة التي لاحـظ بها جاليليــو العظيم الثريــا المتأرجحة. فقد أدهشته حركة البندول، وكأنه لم يتوقعهـا تحدث، ولم يفهم سبب حدوثها، وهذا ساعده أن يصل إلى القواعد التي تحكمها. وهنا التوقع المحــير ولكــنه مثمــر، والــذي يجــب علي المســرح أن يثيــره في تمثــيل الحيــاة الاجتماعية. ويجب أن يثر دهشة جمهوره، ويمكن تحقيــق هذا بأسلوب تغريب المألوف.
 وبالتالي نرى أن (بريخت) لا يشكو أساسا أن إعداد المشاهد وفقا للمذهب الطبيعي يبدو حقيقيا عندما لا تكون فعلا كذلك، ولا يشكو من أنها تبدو لنا بهذه الطريقة التي تؤدي بنا إلى اعتقادات خاطئة تجاهها. اعتراض (بريخت ) هو أنه ؛ نظرا لأنها تبدو حقيقية فمسموح لنا ألا نفكر فيها مطلقا، ولاسيما أنه مسموح لنا ألا نستفسر عنها مطلقا. فهل يمكن أن تكون الأشياء علي خلاف ذلك ؟ ويمكن أن تكون التقاليد التي سعى إليها والتي تبناها إعداد المشهد توجها نحو الأحداث علي خشبة المسرح والتي تصنع مقولة أعظم في الفائدة الاجتماعية والتاريخية من إعداد المشاهد الحقيقية. المشكلة في خشبة المسرح التي تنتمي إلى المذهب الطبيعي هو مزيجها الخالي من الأشياء التافهة ذات الصلة والتي تتيح لنا أن ننظر دون أن تقودنا إلي فهم أي شيء من كل القوى الاجتماعية والتاريخية التي تكمن وراء الحياة الإنسانية التي يجب تغييرها ما شاء لها أن تتغير.
ثالثا – ربما يحدث الاستخدام الأكثر حيرة لكلمة “ إيهام “ من جانب (بريخت) في علاقة مع ظاهرة التمثيل. أعتقد أننا نستطيع أن نفهم تعبيرات جيدة مثل “ المؤدي متطابق مع الشخصية “ (في تقاليد الأسلوب الطبيعي الذي رفضه بريخت ) ولكن الأمر لن يكون واضحا بمجرد توضيح معنى تعبير “ لماذا كان ينبغي علي بريخت تسمية تلك الظاهرة “ إيهام “. ومرة أخرى، هناك طريقة مباشرة لفهم الفرق بين التمثيل وفقا للمذهب الطبيعي الذي يدخل فيه المؤدي إلى الشخصية، والتمثيل الملحمي حيث يوضح الممثل الشخصية، ولكن ليس واضحا علي الإطلاق ماذا يمكن أن يعني قول انه في مسرح (بريخت) لم يعد يجب علي الممثل أن يقنع الجمهور أنه شخصية في نص المؤلف وليس هو بذاته الذي يقف علي خشبة المسرح.
 بالطبع، ليس (بريخت) وحده الذي يتكلم بهذه الطريقة. في الواقع، من الممارسات الشائعة استخدام كلمة “ إيهام “ والمقصود منها معنى المظاهر الزائفة أو الخادعة، مهما كان ما يفعله المؤدون، وهذا بشكل خاص، وليس حصريا، في حالة أسلوب التمثيل في المذهب الطبيعي. والأكثر من ذلك أن عدة طرق مختلفة التي قد تؤدي ( وقد دفعت) الناس أن تتكلم بهذه الطريقة. وفيما يلي، وقبل أن نعود إلى ( بريخت )، سوف أحدد بعض هذه المسارات.
أولا، يعتقد غالبا أنه في أسلوب المذهب الطبيعي في التمثيل بوجه خاص، يتظاهر المؤدي بأنه ليس ما هو عليه ( بمعنى أنه يقدم مظهرا زائفا وأنه يتصرف بشكل مخادع ). ورغم ذلك، هناك حقائق مهمة فيما يتعلق بظاهرة التمثيل وفقا لتقاليد المذهب الطبيعي التي تدور علي عكس هذه الصورة، مهما كان قصد بريخت. فمثلا، برغم حقيقة أن المحاكاة تلعب دورا حاسما في إعداد الدور، فعندما يدخل الممثل الذي يؤدي بأسلوب ستانسلافسكي الي الشخصية يحدث مقدار كبير من المحاكاة. ويتعلق هذا جزئيا بتطوير تاريخ يجعل لأنماط الاستجابة العاطفية معنى بالنسبة للشخصية. وعندئذ نتذكر أيضا مواقف من حياتنا الخاصة التي أتت بردود فعل عاطفية متشابهة لتكييفها وبالتالي نصنع الحياة العاطفية لشخصياتنا. نستطيع في الحقيقة أن نقول إن هدف هذا المنهج هو اختزال مقدار المحاكاة التي تحدث علي خشبة المسرح إلى الحد الأدنى، عن طريق مجموعة من التقنيات التي تساعد المؤدي ليس فقط للتعبير بشكل محاكاتي عن مجموعة من المشاعر، ولكن لكي تكون جاهزة في الواقع. وعند نقطة ما هنا أعتقد أننا نواجه صعوبة في اعتبار هذا بمثابة التظاهر. ولكي نرى كيف يكون ذلك، نحتاج فقط أن نتذكر كيف يمكن أن يبدأ الطفل في التظاهر بأنه خائف. وفي اللعب التخيلي الذي يجعل اللعبة مستمرة، يخيف نفسه بالفعل. وإذا تمكن من إيجاد تقنية لفك ذلك وللسيطرة عليه يمكنه أن يعيد اكتشاف أسلوب ستانسلافسكي ( أو شيء قريب الشبه منه). على أية حال، عند نقاط مثل هذه يقول أحد الوالدين للآخر “ انتبه، انه لم يعد يتظاهر !”. الأمر لا يتعلق فقط بطريقة الكلام عندما يمكن أن نقول عن الممثلة إنها “ لا تمثل “هيدا جابلر “، فقد كانت “هيدا جابلر فعلا “.
...................................................................................
• المؤلف: جيمس هاميلتون يعمل أستاذا للفلسفة في جامعة ولاية كنساس ومن أبرز كتبه  “ فن المسرح The Art of Theater “ عام 2009. وقد سبق أن قدمنا له عدة مقالات في أعداد سابقة لجريدة مسرحنا.
• نشرت هذه المقالة في مجلة Journal of Dramatic Theory and Criticism. العدد 41  المجلد 1 – الصفحات 39 - 50


ترجمة أحمد عبد الفتاح