التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (14) العروض المسرحية الأولى لطلاب المعهد

التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر (14) العروض المسرحية الأولى لطلاب المعهد

العدد 664 صدر بتاريخ 18مايو2020

قرأنا في المقالتين السابقتين الآراء التي انقسمت حول المعهد، وتحويله إلى قاعة للمحاضرات؛ ولكنني احتفظت برأي أهم شخص، ولم أشأ أن أذكره، وأرجأت رأيه لهذه المقالة!! هذا الشخص؛ يُعدّ شريكاً لزكي طليمات في نشأة المعهد، وفي تدريس التخصص نفسه، وفي تقسيم طلاب المعهد أنفسهم .. إنه جورج أبيض!! الذي رحب بتحويل المعهد إلى قاعة، وعدّ القاعة أهم من المعهد؛ لأنها ستسع لمائة دارس، سيقوم بتدريس التمثيل لهم!! وأنه لا يجد فائدة من المقررات الملغاة، مثل: حرفية المسرح، والألعاب الرياضية، والرقص، والسولفيج، وتخطيط الوجه (المكياج)؛ لأنها مقررات ليست مهمة في تكوين الممثل!! هكذا أخبرتنا مجلة الصباح في أواخر سنة 1931!!
الانقسام الكبير
ما ذكره جورج أبيض، كان مفاجأة كبيرة، غير متوقعة!! ولكن بشيء من التأمل، سنكتشف الحقيقة، وهي أن ما فعله جورج أبيض، كان تطبيقاً للمثل الشعبي القائل: «عدوك ابن كارك»! فجورج أبيض درس في فرنسا، وطليمات درس في فرنسا أيضاً! وجورج أبيض مُخرج ومُمثل، وكذلك طليمات! وجورج يُدرس في المعهد مقرر الإلقاء لنصف عدد الطلاب، وطليمات كذلك يدرس المقرر نفسه للنصف الآخر - وما قررته الوزارة سابقاً بأن الطلاب يحق لهم أن يدرسوا الإلقاء على الأستاذين معاً، لم يحدث - ورغم هذا الاشتراك والتشابه، إلا أن الواقع العملي كان يقرّ بأن طليمات هو الرجل الأول، حيث إن نشأة المعهد ارتبطت باسمه، وإنه كان مدير المعهد ورئيسه الفعلي! لذلك رحب جورج بإلغاء معهد طليمات، وتحويله إلى قاعة محاضرات لن ترتبط باسم زكي طليمات!!
هذا الانقسام بين الأستاذين، ظهر جلياً في أكتوبر 1931 – قبل افتتاح قاعة المحاضرات بشهرين – عندما أخبرتنا مجلة الصباح بأن جورج أبيض، قرر تشكيل فرقة مسرحية جديدة، ستضم بعضاً من طلابه في معهد فن التمثيل الملغي، أمثال: محمد الغزاوي، وفرج النحاس، وعبد السلام النابلسي وغيرهم. وأنه بدأ بالفعل في بروفات مسرحيتي «لويس الحادي عشر» و«عطيل»، “وعهد بدور «ديدمونة» في «عطيل»، و«ماري» في «لويس الحادي عشر» إلى السيدة نفيسة محمد، التي كانت طالبة في المعهد قبل إلغائه في قسم طالبات الأستاذ أبيض، ثم فُصلت منه لرسوبها في أكثر مواد الامتحان الأخير”.
هذا الخبر ردّ عليه طلاب زكي طليمات ببيان، نشرته المجلة، تحت عنوان «طلبة معهد التمثيل وحفلات الأستاذ جورج أبيض»، هذا نصه: “صاحب جريدة الصباح الغراء .. يُشيع بعض أصحاب الأغراض أن طلبة معهد فن التمثيل، سيشتركون في الحفلتين التمثيليتين، اللتين يحييهما الأستاذ جورج أبيض لحسابه الخاص في مسرح رمسيس. ويُعلن طلبة الأستاذ زكي طليمات، إنهم لن يشتركوا في هاتين الحفلتين، ولن يشتركوا في حفلات تمثيلية، تقام لغير الغرض الفني، الذي من أجله أنشئ معهد فن التمثيل. وتفضلوا بقبول فائق الاحترام، [توقيع] طلبة معهد فن التمثيل، عنهم يوسف فهمي حلمي”.
وزاد الموقف اشتعالاً وانقساماً، بعد قيام طلاب جورج أبيض بعرض المسرحيتين على مسرح رمسيس، الذي قدمه لهم يوسف وهبي مجاناً – بوصفه عدواً لدوداً لطليمات وطلابه – وبناءً على هذا الانقسام، أصبحت الصحف تنشر أخباراً باسم «طلاب قسم زكي طليمات» تارة، وتارة أخرى باسم «طلاب قسم جورج أبيض»!! ووصل التنافس والانقسام بين الفريقين، إلى أن طلاب طليمات، أعلنوا عن قيامهم بعرض مسرحيتين، أسوة بما قام به جورج أبيض وطلابه. لذلك نشرت مجلة الصباح خبراً، قالت فيه: “إن طلبة الأستاذ زكي طليمات في معهد التمثيل، قرروا أن يمثلوا حفلتين. وقد أبلغنا أحمد البدوي أنهم اعتزموا أن يستأجروا مسرح الكورسال لهذا الغرض، وأن الروايتين هما «فيدورا» و«غادة الكاميليا»، وأن السيدة روز اليوسف ستشترك معهما في الروايتين”. وهذا الأمر لم يتحقق، حيث كان الخبر مجرد مكايدة من فريق طليمات، ضد فريق جورج أبيض!!
لم يرض الوسط المسرحي بهذا الانقسام بين علمين كبيرين، فتدخل الأصدقاء من أجل لم الشمل بين الطرفين، ونجح الأمر، ونشرت نتيجته مجلة الصباح، تحت عنوان «بين الأستاذين أبيض وطليمات»، قائلة: “كان قد نشأ بين الأستاذين زكي طليمات وجورج أبيض سوء تفاهم على أثر صدور الأمر بإلغاء المعهد، وظل هذا السوء تفاهم إلى الأسبوع الماضي؛ حيث زال وحل محله الود والصفاء، بواسطة بعض أصدقاء الأستاذين. وعلى أثر زوال سوء التفاهم عرض الأستاذ أبيض على الأستاذ زكي أن يقدما لمعالي وزير المعارف طلبا مشتركاً، يطلبان فيه السماح لهما بالتمثيل على مسرح الأوبرا، يومي الأربع والأحد من كل أسبوع في المساء، وهي الأيام التي تخلو فيها الأوبرا من حفلات فرقتي الكوميديا الفرنسية والأوبرا الإيطالية، على أن يشترك الأستاذان معاً في تمثيل روايات جديدة مع طلبة المعهد من القسمين – قسم الأستاذ زكي وقسم الأستاذ أبيض – ويتولى الأستاذ زكي إخراجها بنفسه، فأعتذر الأستاذ زكي عن الموافقة على هذا العرض لرغبته في عدم الظهور على المسرح هذا الموسم لضيق الوقت”.
العرض المسرحي الأول
انتهى الانقسام بين الأستاذين، وانتهى أيضاً بين طلابهما، وانتهت آثاره السلبية .. ورغم ذلك كان لهذا الانقسام نتيجة إيجابية مهمة، تمثلت في هذه المقولة: «لولا هذا الانقسام، ما كنا عرفنا شيئاً عن أول عروض مسرحية احترافية جماهيرية، قام بها طلاب أول معهد مسرحي في تاريخ مصر، وهي العروض، التي تُعدّ بمثابة مشاريع التخرج، بمفهومنا المعاصر؛ حيث إنها تمت بعد انتهاء دراسة منتظمة لمدة عام داخل معهد أكاديمي!!». ومما يؤكد التشابه بين هذه العروض ومشاريع التخرج – حالياً – أن الممثلين كانوا طلاب قسم جورج أبيض، ومجموعة من الطلاب المقبولين في قاعة المحاضرات - التي لم تُفتتح، ولكن إجراءاتها بدأت، وتم قبول الطلاب بها – مما يعني أن العروض ضمت طلاباً من صفوف دراسية متنوعة، دون أن يشترك فيها أي ممثل من خارج المعهد أو القاعة!!
تم عرض المسرحيتين في نوفمبر 1931 – قبل شهرين من افتتاح قاعة المحاضرات - والمسرحية الأولى «لويس الحادي عشر»، تمّ عرضها على مسرح رمسيس، وكتب عنها الناقد «أماتير» مقالة في جريدة السياسية، بدأها بمقدمة تشويقية، قال فيها: “مثّل طلبة معهد فن التمثيل، مع أستاذهم جورج أبيض، الذي تلقوا عليه هذا الفن في العام الماضي رواية «لويس الحادي عشر» على مسرح رمسيس، الذي امتلأت مقاعده، وشرفاته، ومماشيه بالجمهور والممثلين والزملاء النقاد، الذين حضروا، ليشهدوا أول حفلة لطلبة المعهد، وليروا الأثر الذي تركته الدراسة الكاملة من النواحي الأدبية والفنية، التي أعدت لهم، وتلقوها عاماً بأكمله”.
هذه المقدمة، كانت تمهيداً لأسلوب الناقد ومنهجه، الذي كشف عنهما، قائلاً: “لقد كان كاتب هذه السطور، ولم يزل من مؤيدي فكرة المعهد. وقد ناصره بقلمه طوال العام الماضي، وقبل ذلك. فإن كنا اليوم ننقد طلبة هذا المعهد، فليس معنى ذلك أننا ننقد، أو نحارب الفكرة، وإنما ننقد الأثر الذي أنتجته هذه الفكرة! فالناقد ينظر إلى الممثل الهاوي بعين العطف ليتشجع ويسير في طريقه. وليست تلك نظرته إلى الممثل المحترف، الذي أتخذ من التمثيل مهنة له، وتفرغ لها وكرس حياته لخدمتها، فأصبح لزاماً عليه أن يجيد هذه المهنة. فلهذا ننظر إليه بعين يقظة، ونحاسبه على كل هفوة تبدو منه مهما كانت تافهة؛ لكي يعرف خطأه ويتلافاه، فيتقدم ويسير نحو المثل الأعلى بخطى واسعة. فطلبة المعهد وقد أعدوا أنفسهم لخدمة فن التمثيل ولاحتراف هذه المهنة، ودرسوا عاماً كاملاً في معهد رسمي، تشرف عليه وزارة المعارف على يد أساتذة من كبار رجال الأدب والتمثيل، وكانوا قبلاً قد هاموا بهذا الفن، وعمل كثيرون منهم في جماعات الهواة والفرق التمثيلية، يجب أن يعلموا أنهم في حاجة إلى أن نصارحهم بآرائنا، ليعرف كل منهم خطأه. فإن رأوا صراحة لم يعهدوها فليعذرونا، فهذا واجبنا اليوم”.
انتقل الناقد أماتير بعد ذلك إلى عنصر الإخراج، وتناوله بصورة معاصرة؛ لدرجة أن القارئ، لا يتخيل أن هذا الكلام قيل منذ تسعين عاماً!! ومثال على ذلك، قوله: “.. في الفصل الأخير، وفيه نهاية المأساة، كان النور ساطعاً، والمنظر منقوشاً بألوان حارة صارخة، بدلاً من أن يكون النور ضئيلاً، والمنظر ذا لون قاتم حتى يبعث الأثر المطلوب في نفوس النظارة مقدماً، ويهيئ أعصابهم للفاجعة .. ألم يدرس الطلبة ذلك في العام الماضي؟!”.
انتقل الناقد بعد ذلك إلى عنصر التمثيل، وهو أهم عنصر في العرض، ويتوقف عليه مستقبل طلبة المعهد – فيما بعد – حيث إن هذا العرض، هو ظهورهم الأول أمام الجمهور؛ لذلك أجمل الناقد رأيه في فقرة واحدة، ثم قام بتفصيلها على الطلاب!! وهذه الفقرة الإجمالية، قال فيها: “خطأ في فهم الشخصيات، وخروج بها عما رسمه المؤلف من الخطوط والألوان، وعدم لياقة بعض الطلبة للقيام بأدوارهم، وتقليد لبعض الممثلين المحترفين، ووجوه لم يرتسم عليها ما يخالج النفوس من عواطف، وما يضطرم فيها من إحساسات متضاربة. هذه أهم مظاهر النقص، التي لاحظناها. على أن البعض، كان في تفكيره بصوت مرتفع، وفي مناجاته لنفسه يتحدث إلى الجمهور، وهذا خطأ كنا نود أن يتوقاه طلبة المعهد”.
وأخيراً بدأ الناقد يتحدث عن كل الطلاب، فقال عن رفيعة النحاس: إنها “أحسن من مثّل من الطلبة، وهي في صوتها وهيئتها مثل الآنسة أمينة رزق عند أول ظهورها على المسرح، ويُرجى منها خير كثير، غير أنها في الفصل الثاني، كانت تخاطب الجمهور، وهي تناجي نفسها بصوت مرتفع”. أما عبد الفتاح عزو، فقال عنه: “طبيعته لامست دوره، الذي يعهد به في أوروبا إلى الفتيات. وهو في رأيي، يصلح لمثل هذه الأدوار التي تنطوي على طيبة ورقة”. وعن الطالب توفيق الخطيب، قال: “أجاد دوره، ولبس شخصية الفلاح الساذج. فنجح فيها ولكن أعيب عليه تعاليه فيها، لأجل انتزاع الضحك. ويجب أن يمثل فقط من غير أن يهمه إضحاك الجمهور أم لم يضحك! على أن لهذا الشاب مستقبلاً لو اهتم بدرس أدواره”. والطالب محمد الغزاوي لم ينجح في دوره، حيث بدأ مندفعاً بحرارة، وسرعان ما تعب وهدأت حرارته، ولم يساعده نفسه القصير، فكان صوت شهيقه وزفيره، يصل إلى آذاننا. وفي مخدع الملك كان متخاذلاً ضعيفاً، ومن الصعب أن تصدق أن الذي يقف أمامك هو تيمور، الذي تتسلط عليه وتقويه فكرة الانتقام، وقد أخطأ فهم شخصية تيمور”. وقال عن أمين موسى، المدرس بتجهيزية دار العلوم، والمنتسب لمعهد التمثيل: “صوته قوي حسن؛ ولكنه ألقى دوره كقطعة محفوظات، دون أن يتحرك. ولم يظهر على وجهه أي أثر نفساني. على أن يُرجى منه، لو عرف كيف يكون خفيفاً على المسرح، ودرس دوره الدراسة الكافية”. حتى النجم عبد السلام النابلسي لم يسلم من الانتقاد، حيث قال عنه الناقد: “لا بأس به، غير أنه لحن كثيراً، وينقص إلقاءه القوة وحرارة الشعور”. كما قال عن فرج النحاس: “نجح في دوره إلى حد كبير”. واختمم الناقد تقييمه هذا، بعبارة خففت من وطأة أحكامه القاسية، قال فيها: “هذه كلمة نوجهها إلى الطلبة، ويجب أن يعرفوا أننا نريد بها البناء وليس الهدم. وقد يكون ظهورهم إلى جانب الأستاذ أبيض لأول مرة قد أثر في نفوسهم فتهيبوا، فنرجوا أن يثقوا بأنفسهم ويطمئنوا إلى تشجيع النظارة، وعسى أن يجيدوا في رواية «عطيل» في مساء السبت القادم على مسرح رمسيس أيضاً”.
العرض المسرحي الثاني
جاء السبت، ومثل الطلاب مسرحية «عطيل»، وكتب الناقد «ماتير» نقداً لها، نشره في «جريدة السياسة» أيضاً، ويُفضل نشره هنا؛ بوصفه وثيقة لمقال نقدي حول آخر عرض قام به طلاب أول معهد مسرحي في تاريخ مصر!! قال الناقد ماتير:
نشرنا في الأسبوع الماضي نقداً لرواية «لويس الحادي عشر»، فلاقى قبولاً من بعض الطلبة، واستياء من آخرين. وقد لامني بعض الأساتذة الأدباء، إذ رأوه قاسياً على طلبة في أول عهدهم بالمسرح. والحق إني لم أكن قاسياً، بل كنت صريحاً، والصراحة ألزم ما تكون للممثل المبتدئ. ولم أكن متحاملاً، بل كنت عادلاً إذ قست الإخراج والتمثيل بالمعيار الفني الدقيق وقلت كلمتي. وأنا لم أنقد هواة، بل نقدت إخراج أستاذ كبير، وتمثيل طلبة لم يعتلوا خشبة المسرح إلا بعد أن درسوا، الإلقاء والتمثيل والإضاءة الحديثة والديكور وغيرها على أساتذة كبار في معهد حكومي. ولا غرض لي من النقد إلا أن يعرف الطلبة أوجه النقص فيهم فيعملوا على إكمالها. وفي مساء يوم السبت 14 نوفمبر أخرج الأستاذ جورج أبيض مع طلبة المعهد أيضاً، رواية «عطيل» إحدى معجزات الشاعر العظيم وليم شكسبير، وقد سبق للأستاذ أبيض أن أخرجها منذ عشر سنوات، ومثلها بعد ذلك مراراً فلا حاجة بنا إلى تلخيصها. أما الإخراج، فعلى الرغم من الملاحظات التي وجهناها في مقالنا السابق، وقع المُخرج في الأخطاء السابقة نفسها. ففي المشهد الأول، كانت الإضاءة عجيبة، فقد رأينا ظل ياجو وصاحبه يقع على الكنيسة فيغطيها، ويغطي جزءاً من السحاب! والنور الطبيعي لا يصدر في الليل من أسفل إلى أعلى!! كان جدير بالمخرج أن يتنبه إلى ذلك، فيجعل موضع الستار الخلفي إلى الوراء قليلاً، ويرسل الضوء من علٍ، بدلاً من أن يصدر من مقدمة أرض خشبة المسرح. وفي هذا المنظر أيضاً نادى والد ديدمونة أتباعه، وهو مطل على ياجو من الشباك، بدلاً من أن يدخل ويناديهم من الداخل. وفي الفصل الأخير كان الضوء الساقط على فراش ديدمونة، أبهر من الضوء الموجود في غرفة المخدع، وكان لونه أحمر صارخاً، كَسَى وجه ديدمونة جمالاً، وعندما خنق عطيل ديدمونة لم يتغير الضوء الأحمر، وبقى الوجه على جماله، ولم تظهر عليه الزرقة المخيفة، التي تعقب الخنق عادة. ولو أن المخرج كان قد نبه مدير المسرح إلى تغيير الضوء، لظهرت آثار الجريمة على وجه ديدمونة. هذه بعض مآخذ الإخراج التي كنا نتمنى ألا تفوت على المخرج هذه المرة، وخاصة بعد أن لفتنا نظره إليها في المقال السابق. أما التمثيل، فكان بعض الطلبة أبعد ما يكونون عن فهم الشخصيات، وكان همهم إجادة الإلقاء. وقليلون أولئك الذين أعطوا التمثيل جانباً من العناية. على أن منهم من لم ترتسم على وجهه، ما يضطرهم في نفسه من إحساسات متضاربة، وما يخالجها من عواطف. واهتم كل ممثل بدوره فقط. فكانت كلمات كل ممثل لا تأثير لها في نفس الممثل الآخر وعلى وجهه. فمثلاً رمى عطيل ديدمونة بجريمة الزنا، فلم يظهر على وجهها أي أثر، ولم تحفل أو تتحرك، بل نطقت بهدوء وبرود تدافع عن نفسها. وإذا قارنا الممثلين في روايتي «لويس الحادي عشر» و«عطيل» رأينا غرابة؛ فالأدوار الأولى للسيدات والرجال، اختلفت من ناحية النجاح. إذ وفقت الممثلة دون الممثل في الرواية الأولى، ولم تُحسن الممثلة ووفق الممثل في الرواية الثانية! والممثلة التي قامت بالدور الأول في لويس، لم توفق في الدور الثاني في عطيل؛ لأنها لم تحفظ دورها جيداً، فكانت تُعيد نطق بعض الكلمات، حتى تأتيها النجدة من المُلقن. وخاطبت الجمهور بدلاً من أن تمثل أمامه، ولقد حذرنا الطلبة من مخاطبة الجمهور، وللأسف لم يعملوا بملاحظاتنا. بقيت كلمة أحب أن ألفت نظر الممثلين إليها جميعاً، وهي أن فن التمثيل فن مجموعة، تنسجم فيه القوى وتأتلف، لا فن الفردية! فيشترط لنجاح الرواية أن تكون القوى متوازنة بين الممثلين الذين يقومون بالأدوار الصغيرة والكبيرة، فاتساق المجموعة أول الأسباب الهامة التي تجب على المخرج ملاحظتها. هذه ملاحظات عامة، وفيما يلي رأيي في الممثلين الذين قاموا بالشخصيات الرئيسية: ديدمونة – الآنسة رمزية – كانت تنطق بصوت خافت، وتأكل أواخر الكلمات، ولم تستعمل وجهها ولا عينيها، وكانت تنظر إلى الأرض أغلب الوقت. وقد سمعت زوجها (في التمثيل)، وهو يتهمها بالزنا، فلم يظهر على وجهها أي أثر للاحتجاج أو الدهشة، ولم تنفعل! وصرح أمامها بعزمه على قتلها، فلم ترتجف ولم تفزع، بل سارعت في الحال إلى طلب العفو بما يشبه الهدوء! على أن المران والدرس، قد يخلقان منها ممثلة، وقد غنت بصوت جميل جدير بمطربة. ياجو – النحاس – أظهر مجهوداً يستحق الثناء، وهو الوحيد الذي حاول أن يشتغل بعينيه ووجهه، وأراد أن يجمع بين الحرارة ليمتلك الجمهور وبين الفن فلم يقدر، لذلك لجأ إلى الافتعال والإشارات الكثيرة، وهذا ما نأخذه عليه. زوجة ياجو – السيدة رفيعة النحاس – لم تحفظ دورها، وقد حدث وهي في موقفها مع ديدمونة أن تقدمت إلى الأمام، لتلقي النصائح على الجمهور في شكل خطابي ممجوج. كاسيو – عبد السلام النابلسي – قد ينسى الممثل اسم شخصية زميله؛ ولكن لا يصح أن ينسى اسم الشخصية التي يقوم بتمثيلها. ففي الفصل الثاني دخل على ياجو وقال له: “أهلاً بك يا كاسيو”! وهو على العموم لا بأس به، ولكنه ممثل ضعيف، ويحسن به أن يدرس أدواره ويتمرن عليها كثيراً. وبديهي أننا لم نقل شيئاً عن جورج أبيض، لأنه لا يحتاج إلى كلام. هذه كلمة أرجو أن تصادف من الطلبة قبولاً.
رأي الممثلين في الطلاب
خير ختام لهذه المقالة، ذكر نماذج من آراء الممثلين المحترفين في تمثيل الطلبة، بعد انتهاء العرضين - وهي الآراء المنشورة في مجلة «الصباح» بعد انتهاء تمثيل المسرحيتين – فيوسف وهبي قال: “طلبة غواة في حاجة طبعاً إلى تهذيب ومران طويل، وقد رأيت في البعض منهم مواهب لا بأس بها قد تجدي في المستقبل بعد الصقل والتعليم”. وقال أحمد علام: “لا يمكن الحكم عليهم كممثلين، لأنهم ما زالوا طلبة أو غواة. والذي أدهشني أنهم فهموا التمثيل فهماً خطأ، فكان أغلبهم يلقي بطريقة خطابية، واهتموا كل الاهتمام بالجانب الصناعي وأهملوا الجانب النفساني. أي أنهم كانوا يعتمدون على حناجرهم فقط دون الإحساس بمختلف العواطف، التي تنطوي عليها الكلمات”. وقالت دولت أبيض: “إنهم كطلبة يمثلون لأول مرة، فإنهم أجادوا جداً وينتظر لهم مستقبلاً كبيراً في خدمة الفن ليكونوا عوناً لنا على خدمته”. وقال فتوح نشاطي: “ألاحظ بوجه عام أن الطلبة يتسرعون في الإلقاء والإشارات والإحساس، وأن هناك تفاوتاً كبيراً بين الأستاذ أبيض وبينهم؛ ولكنهم على كل حال جديرون بالتهنئة كمبتدئين. وإني أعلن اغتباطي بنجاح السيدة رفيعة الشال، وأعتقد أنها ستكون أملاً من آمال المستقبل”.


سيد علي إسماعيل