المهرجان الإقليمى لجنوب الصعيد..الاشتباك مع التراث بين النمطية وقدرته على التماس مع الواقع المجتمعى

المهرجان الإقليمى لجنوب الصعيد..الاشتباك مع التراث بين النمطية وقدرته على التماس مع الواقع المجتمعى

العدد 659 صدر بتاريخ 13أبريل2020

الهوية المصرية وتلك الهجمات الشرسة التى تستهدف النيل منها ومحاولة تقويض بناءها الضارب فى عمق التاريخ بهذا الكم الهائل من الموروث الشعبى والذى لا تخلو بقعة على أرض المحروسة من جزء من هذا التراث .. تلك الهوية من المفترض انها احد محاور الاهتمام لدى القائمين على الحركة المسرحية فى مصر سواء كانوا مبدعين بمختلف ادواتهم ام كانوا قائمين على ادارة المشهد المسرحى المصرى للحفاظ عليها و تثبيت اركانها بوصفها احد اهم ركائز الثقافة المصرية الصانعة لمكون الفرد .. ولا نستطيع ان نسلك هذا الدرب دون ذكر لتراث الجنوب المصرى الذى يتميز باصالة روافده ونقاء مفرداته .. ومن الجنوب كان مهرجان المسرح لاقليم جنوب الصعيد ضمن المهرجانات الاقليمية التى اعادتها ادارة المسرح للحياة من جديد والتى شرفت بمتابعتها على مدار عشرة ايام كاملة فى الفترة من 23/2 وحتى 3/ 3/ 2020م  لفرق قوميات وقصور وبيوت هذا الاقليم .. ذلك المهرجان الذى حمل معه الكثير من الأطروحات الفنية للمبدعين هناك و التى اتسمت فى معظمها بمحاولة الاقتراب من التراث والاشتباك معه ومن ذلك الملمح تكمن الإشكالية الاهم التى أبرزتها تلك الفاعلية الفنية التى سوف نستعرضها معا بحسب ترتيب العروض .. البداية مع فرقة الأقصر القومية وعرضها ( يس ) من تأليف أحمد أبو خنيجر و من اخراج شاذلى فرح والتى يحاول طرح قضية اعادة البحث فى التراث ومحاولة عدم الاستسلام للمروى من خلال ذلك الصراع الذى احدثه بين المعاصر و التقليدى الا ان القضية الإشكالية الاهم هنا فى هذا العمل هى عدم وجود قضية حقيقيه يشتبك من خلالها المعاصر والتقليدى فجاء الطرح كله مفتعلا وغير مبرر أما العناصر الاخرى للعمل فكان ابرزها افراد الفرقة وذلك الانضباط والالتزام الذى استطاع المخرج من خلاله انتاج عمل ممتع على مستوى الاداء التمثيلى والذى كان من ابرز عناصره محمد يوسف الذى لعب دور الباشا الا انه افتقد الى المتعة البصرية فى الديكور الذى صممه ناصر عبد الحافظ  والسمعية على الرغم من كونه عمل يعتمد على الغناء فى اجزاء كبيرة منه وهى من الحان حازم عبد الحميد .. أما فرقة قصر ثقافة كوم امبو فقد قدمت العمل المسرحى ( ساقية علام ) من تأليف طه الاسوانى ومن اخراج هانى فهمى أحد شباب مخرجى الجنوب والذى اخذ ملمح جنوبى وإشكالية ذات جذور راسخة فى المجتمع الصعيدى وهى عادة الثأر والتى استخدمت كثيرا فى الاعمال الدرامية والمسرحية لذا كان من المفترض عند تناول مثل تلك الثيمات ان يكون لدى صناع العمل طرح جديد ورؤية مختلفة ولكن لم يقدم العمل الجديد المنتظر بل وقع فى كثير من المشاكل الدرامية وخاصه فى صناعة البناء الدائرى  و انخرط فى نمط التكرار الملل لنفس الحدث بأشكال متباينه اما على مستوى الإخراج فرغم ان المخرج فى تجاربه الاولى الا انه قادر على استخدام ادواته لصناعة عمل منضبط ولكن عليه ان ينفلت من اسر التقليدية والتكرار دون ملمح مميز او رؤية خاصة به تضيف للعمل رسالة جديدة للمتلقى ومتعه مضافه ، الديكور لمحمود ثابت جاء وظيفى واشتبكت فيها المدارس التشكيلة دون رابط او ضرورة درامية ، الموسيقى التصويرية  جاءت ليست من نسيج بيئة النص الاجتماعية فلم تستطع تجسيد الحالة الشعورية لشخوص العمل .. أما بيت ثقافة فرشوط  فقدم ( أمير الجنوب ) تأليف طارق عمار و إخراج أحمد الدالى والذى قدم من وحى الموروث عملا مسرحيا اقرب فى توصيفه بالعمل التسجيلى الذى يستعرض لرحلة همام بن يوسف وبناء دولته فى الصعيد وسقوطها بعد ذلك و على الرغم من ان المخرج استطاع ان يقدم عملا منضبطا فى مجملة  الا انه لم يقدم فكرا جديدا أو طرحا مختلفا يولد رسالة جديدة للمتلقى ولكنه اعتمد على التأريخ فجاءت بعض لحظات العمل تعانى بطء الايقاع ، كما انعكس هذا ايضا على التشكيل الذى جاء وظيفيا يحمل الكثير من المشاكل التقنية الخاصة بالنسب كما ان استخدام الالوان لم يوظف بشكل دلالى وجاء عشوائى غير منتج للمعنى أما على مستوى الاداء التمثيلى فقد تميز اكثر من عنصر على راسهم عبد الباسط ابو المجد اسماعيل فى دور همام الذى جاء أداءه متوازن غير مفتعل و واعى بطبيعة الشخصية وابعادها الدرامية والتاريخية ايضا حنان زقزوق فى دوريها ( صالحه – نفيسه ) جاء الاداء متنوع ودارس لكل شخصية بمتطلباتها الشكلية والنفسية .. العمل فى مجمله عمل منضبط وان كانت إشكاليته هى الرسالة وكيفية توظيف التراث الذى بين أيدينا وانعكاس تلك الرؤية على استخدام المخرج لأدواته بشكل يحقق تلك المعادلة  .. أما قصر ثقافة حوض الرمال والذى يقدم انتاج مسرحى لاول مرة بتلك الفرقة الحديثة والتى يرجع الفضل فى تكوينها لمخرج العمل عماد عبد العاطى والذى قدم من خلالها العمل المسرحى ( أنت اللى قتلت شفيقة ) والنص من تأليف درويش الاسيوطى والعمل على الرغم من الجهد المبذول من كل الفريق بصرف النظر عن حداثة عهدهم باللعبه المسرحية لم يقدم جديدا على مستوى المضمون الذى تلخص فى تقديم الحكاية الشعبية كما هى  ولكن من خلال لعبه دراميه بتقسيم متولى الى راوى للحدث بعد ان تقدم فى العمر ويجسد المروى ممثل اخر فى سن الشباب وقت حدوث الحدث الا ان المخرج لم يكتفى بهذا الراوى الذى يعتمد فى اغلب مشاهده على السرد بل قدم لنا اثنين من الرواة بخلاف راوى الربابة (أشرف القناوى) الذى يتميز بموهبه كبيره فى الاداء واضاف متعه سمعية كبيرة للعمل  إلا أنه فى النهاية نجد ان السرد احتل مساحة زمنية اكبر بكثير من الحدث الدرامى الامر الذى اخل بالايقاع العام للعمل .. أما قصر ثقافة الطود فقدم العمل المسرحى ( حكاية ورد ) تأليف طه الأسوانى و إخراج ناصر رمضان و العمل حاول ان يناقش قضية الزواج المبكر والمنتشره فى المجتمع المصرى بين فئات ذات سمات خاصه اقتصاديا وتعليميا واجتماعيا الا ان الطرح المقدم لم يرقى للحدث المسرحى بمواصفاته التى تنتج الصراع واحتوى على كثير من السرد الذى أخل بالايقاع ولم يكتفى بالشكل التوعوى فى بناء العمل بل أقحم خط درامى اخر بعد انتهاء الحدث ليدخل فى قضية الثأر لتتشتت الفكرة، ولا يختلف الحال فى الديكور الذى جاء بلا هوية فقد تشكل من مستويين الاعلى قدم تشكيل من جزوع النخل على شكل كف أما المستوى الادنى فعبارة عن بنوهين على جانبى المسرح لا يربطهما بالتشكيل الاعلى اى صله سواء على مستوى الفكرة أو حتى على مستوى وحدة المذهب التشكيلى المستخدم ، وعليه لم يستطع المخرج انتاج افكارا أو رؤى جديده من طرحه لإشكاليه مجتمعية سبق تناولها كثيرا .. أما فرقة الغردقة المسرحية فقدمت ( الراكضون تحت التراب ) وهو من تأليف أحمد يحى وإخراج أسامة القزاز و العمل يحاول طرح افكار عن القهر الذى يتعرض له الفرد من قبل المجتمع وما يفرضه من تبعيه وتغييب للوعى سواء للفرد او على المستوى الجمعى  تلك الافكار قدمها من خلال مجموعة مشكلات اجتماعية مثل قهر المرأة وسوء التنشئة الاسرية وعدم تقدير المجتمع لدور الفرد وما يقدمه من خدمات لهذا المجتمع ولكن ظل السرد هو المسيطر على الحدث فى الأغلب من العمل لكن استخدام المخرج لادواته سواء الديكور والملابس والاضاءة اضاف كثير من المتعة  للصورة المسرحية كما أضاف كثيرا لفكرة العمل ربما كان اختيار الاعداد الموسيقى غير موفق لاستخدامه الات ومقامات غربية لا تتسق مع محلية الحدث ومشكلاته ، أما الاداء التمثيلى فغلب عليه الافتعال لنقص الحرفية لدى بعض المؤديين الا ان نجاح المخرج فى صنع ايقاع منضبط عالج نسبيا تلك المشكلة .. و قدم قصر ثقافة قوص عرضه المسرحى ( بركات ) وهو من تأليف مجدى الحمزاوى وإخراج عصام رمضان والذى يحاول اعادة قراءة للسيرة الهلالية من خلال اطار يتماس مع اللحظة الراهنة من خلال حالة المسرحة التى انتهجها العمل من خلال تمرد الفرقة الاصلية ورفضها تقديم العرض والاستعانة بالسعاه بدلا منهم الا ان العمل لم يقدم المبررات الكافية لحالة التمرد تلك كما أحدث الخلط بين الإطار والحكاية المشخصة فى نهاية العمل نوع من التشتيت للمتلقى وخلط الاوراق فتشظت الفكرة الاساسية بالاضافة لضعف الاستهلال وعدم مراعاة التوازن بين التشخيص والفواصل البريختية أحدث خلل فى الايقاع العام للعمل ، أما على مستوى الصورة فلم ينجح المخرج فى توظيف العناصر التشكيلية بما يتلائم مع الإطار الدرامى الذى تم طرحه .. أما فرقة اسوان القومية فقدمت عرضها ( ساحر الصحراء ) من إعداد أحمد العباسى و إخراج محمد الشحات  و هو العمل الثانى والاخير فى هذا المهرجان الذى يخرج بفكرته خارج نطاق التراث و معطيات البيئة فى الجنوب حيث يطرح فكرة فلسفية تتعلق باكتشاف الانسان لذاته وقدراته و البحث عن كنزه الخاص الذى يميزه عن الاخرين من خلال رحلة شخص يدعى سانت ياجو للبحث عن كنزه عبر العديد من الدول وهذا الطرح كان يتطلب تعامل خاص من قبل المخرج يحمل رؤية تمكنه من توظيف ادواته بما يخدم الفكرة و عموميتها وهذا ما حاول المخرج عمله على مستوى التشكيل بتلك الخلفية التعبيرية التى احتلت عمق المسرح بالكامل فى محاولة لايجاد معادل تشكيلى لفكرة العمل الا ان تلك الخلفية لم توظف لخدمة الدراما كمان ان باقى موتيفات الديكور اتخذت الشكل الواقعى لتخرج من اطار التعبير عن انسانية الفكرة انعكس هذا على الخطوط الحركية التى رسمها المخرج والتى جاءت خطوط عشوائية وغير منتجه للدلالة بل تعدت الى ان بعض الخطوط جاءت عكس المعنى المراد ارساله للمتلقى ، فى المجمل العمل حاول طرح افكار جديدة تحسب لفريق العمل ولم ينجرف مع تيار التراث الذى اتسمت به اغلب عروض المهرجان .. وقدمت فرقة قنا القومية المسرحية ( الهانم ) والعمل من تأليف حسام الدين عبد العزيز ومن إخراج مصطفى ابراهيم السيد وهو يطرح رؤية مغايرة لنص الزيارة لفردريش دروينمات بالتماس مع الحكاية الشعبية شفيقة ومتولى إلا انه لم يستطع تحقيق ذلك النسيج الدرامى المتكامل القادر على إنتاج فكرة مغايرة لفكرة النص الاصلى وسار فى نفس خطه الدرامى ورغم ذلك نجح فى تقديم بناء درامى متماسك طبقا للقواعد الأرسطية ( بداية وسط نهاية ) ، وعلى المستوى التشكيلى نجح فى تأكيد حالة مجتمع النص من فقر وحاجه مع وجود الدلالات المؤكدة على رسائل العمل داخل باقى عناصر العمل من اضاءة و تشكيلات حركية واداء تمثيلى ليقدم عارضا منضبط الايقاع .. أما أخر عروض المهرجان فكان لمكتبة الطفل والشباب بالمعنى والتى قدمت ( الكبير ) عن نص الملك لير لوليم شكسبير وهو من إعداد وإخراج محمد عطا ولان محمد عطا سكندرى الأصل فقد جاء الاعداد يحمل إشكالية لا يمكن التغافل عنها فقد حاول المخرج المعد تمصير أحداث النص الاصلى والباسها تقاليد المجتمع الجنوبى ليقدم لنا بناءا دراميا ذو دوافع غير منطقية انتج على اثرها صراع فاقدا للمبررات الدرامية المقنعة فبدا البناء برمته ضعيف وغير متسق مع الاعراف المجتمعية الجنوبية ، على الرغم من هذا جاءت  الصياغة اللغوية جيدة و اضافت متعة على مستوى كل مشهد منفردا ، اما على المستوى التشكيلى لديكور مريم محمد فقد افتقد لانتاج الدلالة بالاضافة الى الفقر فى التكوين الذى وصل فى بعض المشاهد عدم القدرة على نقل مكان الحدث أما عن الموسيقى فقد جاءت بعيده عن مجتمع العرض بتلك الالات الغربية المستخدمة و الجمل البعيدة عن روح وطبيعة العمل لتحدث فاصل بينها وبين المتلقى ، أما عن المخرج الذى يقدم أولى تجاربه فقد استطاع تقديم جمل حركيه واعية وعرضا منضبطا يشير الى قدرته على السيطرة على الفريق وتعد تلك التجربة بداية جيدة للتطوير من أدواته كمخرج .. وبعد استعراض الاعمال العشرة المقدمة فى هذا المهرجان الجنوبى للمسرح نستطيع ان نخلص الى ان الإشكالية الاهم هى كيفية التعامل مع التراث وكيفية الاستفادة منه دون الوقوع فى محاذير التكرار والنمطية  هذا بالاضافة الى العمل على محاولة البحث عن الكنوز المخفية منه بدلا من تكرار المتداول منه بالاضافة الى العمل على تقديم هذا التراث بشكل يتماس مع اللحظة الراهنة والاشتباك معها ومحاولة انتاج الجديد من الافكار التى تثرى عقل المتلقى مع عدم اغفال المتعة الفنية التى فى مثل هذه العروض و التى لا يشترط معها الامكانيات الكبيرة .. الامر الاخر ان على مبدعى هذا الاقليم أو المخرجين الوافدين له البحث فى الاوضاع الراهنة فى تلك البقعه والاشتباك معها بعروض فنية تستطيع التواصل مع تلك المجتمعات وجذبها الى المسرح لرفع الوعى وتقديم وجبات مسرحية تضيف الى ثقافتهم و وعيهم بلغه تستطيع اختراقهم و تمس احتياجاتهم اليومية لتحدث الأثر المطلوب من رفع الوعى لدى تلك المجتمعات وهو الدور الاهم للثقافة الجماهيرية وقصورها ومدرياتها فى كافة انحاء الجمهورية


طارق مرسى