«بكاء العربي».. مرثية عربية ما بعد حداثية

«بكاء العربي»..  مرثية عربية ما بعد حداثية

العدد 656 صدر بتاريخ 23مارس2020

في مفترق الطرق بين القرن التاسع عشر الذي شهد صعود وتسيد البرجوازية الأوربية وبداية القرن العشرين بدأت المسارح الأوربية في التحرك صوب محاولة إعادة اكتشاف ومساءلة التقنيات الدرامية الواقعية التي سادت المسرح الأوربي، والتي أضحت غير قادرة على تمثيل حالة اليأس التاريخي الذي ساد مع تفتت التفاؤل المبدئي بالتاريخ والإنسان مع تمخض الشعارات الكبرى للبرجوازية عن واقع شديد  البؤس، حيث لم تتحقق الوعود الكبرى بالإخاء والعدالة والمساوة بين البشر بل تحولت الآلة الصناعية إلى وحش يلتهم كل شيء ويفرض على البشر الدخول في ماكينة الإنتاج التي مزقت الروح الإنسانية وجعلت من البشر جزء منها، في هذا الإطار ولدت العديد من الاتجاهات الفنية الحداثية التي انطلقت ضمن ذلك اليأس وحاولت إعادة بناء العالم وفق قواعد جديدة ومختلفة، لكن ذلك التيار سرعان ما تم استيعابه جمالياً من النظم التي ظهرت لمقاومتها ومناهضتها الأمر الذي أدي لميلاد ما بعد الحداثة التي قامت وعلى نقيض الحداثة بالاحتفاء بالتنوع والتجاور بين طرز وأشكال فنية متنوعة تعبر عن ثقافات مختلفة، حيث لم يعد الهدف هو هدم القديم لصالح الجديد كما لم يعد المستهدف بناء عالم جديد أو أكثر طهراً ومقاومة للبرجوازية والنظام الرأسمالي بل السكن داخله وكشف تناقضاته وأزماته العميقة، ولكن لظروف تاريخية متعلقة بحركة التحرر الوطني وبناء دولة الحداثة في المنطقة العربية وما صاحبها من أزمات أدت لعدم اكتمال ذلك المشروع فإن المسرح العربي ظل بعيداً عن تقنيات ما بعد الحداثة الفنية حتى وقت قريب، بل وحتى عندما حاول الاقتراب منها كما نجد في عرض «بكاء العربي» للمخرج مهند كريم – والذي عرض ضمن فعاليات مهرجان أيام الشارقة المسرحية الدورة الثلاثون- فإن التقنيات ما بعد الحداثية ظلت مرتبطة بحالة الخذلان التاريخي لمشروع الحداثة العربية الذي تمخض عن حروب واحتلال وبناء دول قمعية وانتفاء للحريات والأحلام القومية في كثير من الدول العربية.
إن ذلك التيار المسرحي الذي ينتمي إليه عرض «بكاء العربي»  والذي ظهرت تجلياته الأولي في بداية التسعينيات من القرن العشرين ربما يكون أقل دعوية وثورية وأكثر قربًا من محاولة استكشاف ومساءلة ذلك الواقع والطبقات التاريخية والثقافية التي تشكله، والتي تحضر بشكل متزامن ومتداخل داخله، لقد أصبحنا أمام مسرح يجمع بين تقنيات المسرح الغربي وطبقات ثقافية وجمالية عربية لا تحاول نفي ما هو مختلف كما كان الحال في زمن المسرح الشعبي التقليدي، بل تحاول رؤيته في ظل تصورات متحررة من الثنائيات التقليدية، وذلك في مواجهة واقع أصبح يهمش من الفرد ورؤيته لصالح رؤى شمولية تؤسس لنفسها بوصفها هي الحقيقة الوحيدة والمطلقة.
يفتتح عرض» بكاء العربي» أفق التلقي الخاص به منذ لحظة امساكنا بالبانفلت الذي يرتكز على ثلاثة ألوان رئيسية هي الأسود والأبيض والأحمر وهي نفس الألوان التي شكلت الفضاء المسرحي في استهلاله شديدة التجريد، تخبرنا أننا أمام عرض لا يهتم بالزخارف والحلى التشكيلية في مقابل اهتمامه ببناء عالمه الذي يطرحه أمامنا.. ولم تكن الألوان فقط هي أهم ما يمكن لنا التوقف أمامه.
ربما يكون التساؤل حول ماهية النص الذي تم بناء العرض عليه  والذي تتنوع مصادره بين نصوص مسرحية وقصائد وكونشيرتو موسيقي وأغاني ولوحات تشكيلية، وهي سمة تكرارية في أعمال للمخرج سابقة مثل (ما بعد الانسان، ريتشارد الثالث، DNA) حيث يعمد المخرج في تشكيل عرض « بكاء العربي « إلى ذات الأسلوب الذي أعتمده في عروض سابقة وهي التجاور والتمازج بين عناصر ثقافية وفنية ولغوية وموسيقية تنتمي إلى مصادر مختلفة ومن ثم إعادة التجميع  للعديد من المصادر التاريخية والثقافية والمسرحية والموسيقية والتشكيلية وحتى الأدائية العالمية والمحلية.
إن ذلك الأسلوب الذي يعتمده مهند كريم في تشكيل عرض « بكاء العربي» والذي يجمع بين نزوع تجريدي من ناحية وتوجه لبناء قائم على التنوع والتجاور ربما يكون هو مدخل جيد لرؤية العرض وكيفية بنائه، في مقابل تلك العودة التقليدية للتاريخ (وهي تقنية تقليدية في المسارح ما بعد الكولونيالية العربية) والتوقف أمام لحظة شديدة الحساسية بالنسبة لتلك الثقافة حيث يتوقف العرض بشكل أساسي أمام لحظة سقوط الأندلس والتي تمثل في الذاكرة العربية لحظة السقوط الأخير والهزيمة النهائية.
إننا إذن أمام عرض يقوم على تناقض أساسي فمن ناحية يلجأ للتاريخ ويحاول استعادة لحظات مركزية داخله وفي المقابل يعمل عبر تقنياته الفنية على هدم أي خطاب مركزي لأي مصدر قد يعتمد عليه في محاولة منه لفتح مدلولات للأنساق التي يطرحها أمامنا ليصبح المعنى أكثر اتساعًا.
وذلك يتجلى بشكل واضح بداية من الفضاء المسرحي شديد التجريد والتقشف والخالي من أي عناصر تشكيليه عدا لوحين من المرايا حيث يتشكل المستوى البصري من اللون الأسود والذي يسيطر على الفضاء وعلى الملابس واللون الأبيض الذي يرتديه احد المؤدين ووشاح أحمر، إن هذا التجريد يتخطى بنا التحديد الزماني أو المكاني للحدث، وبالتالي انتزاع الحدث من إطاره الواقعي/ التاريخي ليتحول إلى حالة عامة يمكن ان تتكرر في أي زمان وفي أي مجتمع.
ويتخطى العرض هذا التقشف على مستوى الصورة البصرية من خلال تشكيل الفضاء بشكل ديناميكي عبر مؤديان يفتتح العرض بأحدهما وهو محاصر بداخل لوح زجاجي يرتدي الأبيض (زين زهير) والذي يصارع من خلال الأداء الجسدي، بينما تصاحبه أغنية لأم كلثوم وهو يناضل للفكاك من حصار الإطار الذي وضع فيه.. وعند نجاحه في الخروج تنشطر هذه الذات ويظهر المؤدي الثاني (عمر صفر) مرتدياً الأسود في ثنائية فضل المخرج تسميتها (الصدى/ رجع الصدى) للملك أبي عبد الله الصغير آخر ملوك الأندلس والذي قام بأداء دوره «نبيل المازمي»
وعبر تلك التشظية لجسد وذات شخصية « عبد الله الصغير» عبر المؤديان الراقصان، يقوم العرض بتجسيده لأزمات ومعاناة تلك الشخصية بشكل صامت ومتحرر من عبء اللغة وتراثها وبنيتها وتعبيراتها، حيث أستطاع المؤديان التعبير بحرفية عالية من خلال الدراما الحركية، ليتم شغل الفضاء المسرحي من خلالهما، حيث يتخطى الجسد الراقص تلك الحدود التي قد تخلقها اللغة ويصبح وسيلة سهلة لنقل المشاعر والانفعالات والتي جاءت في بعض الأحيان معلقة على الحدث أو مساعدة له أو منسحقة تحت وطأته.
على مستوى آخر فإن العرض ينطلق من لحظة تاريخية فارقة في التاريخ العربي وهي تسليم الملك عبد الله الأندلس إلى فرديناند.. إلا انه يقدم لنا رؤيته لهذا الحدث التاريخي المفصلي باعتباره تكأة لمناقشة نموذج الديكتاتور (عبد الله الصغير) الذي تعامل مع قضية الأندلس باعتبارها مجرد لعبة يلهو بها فإما يكسب أو يخسر دور شطرنج بينه وبين فرديناند وتكون الأندلس هي الجائزة، حاكم لا يرى من دولته ومستقبل شعبها سوى ذاته فيحاصره بداخل لوحين من المرايا، لا يرى من خلالهما سوى ذاته ولا يسمع سوى صوته.. ولا يخرج منهما سوى في لحظات فارقة وهي لحظات حديثه مع البهلول، أو في لحظات خسارته ومواجهته لنفسه لتنعكس صورة جمهور العرض فيها ليورطهم في الحدث.
إن هذه الصورة البصرية التي تبدوا بسيطة منذ الوهلة الأولى تتحول لفضاء قلق يتغير في حركة ديناميكية بين أجساد المؤديان الحركيان أو أجساد الممثلين أو حركات المرايا التي تحاصر الجميع، والتي لم يكتفي المخرج بجعلها تحاصر الملك عبد الله فقط ولكنها أيضا تحاصر الملك فرديناند الثاني، فكلاهما صورة مثالية للحاكم الديكتاتور الذي لا يرى ولا يسمع سوى ذاته.
إن تلك الديناميكية الحركية التي شكلت الفضاء المسرحي ساهم فيها أيضا أداء الممثلين بداية من أحمد أبو عرادة والذي قام بأداء شخصية الملك فرديناند والبهلول في تنقل بديع بين الشخصيتين لم يلزمه سوى الاستعانة بعباءة حمراء تمثل شخصية الملك يضعها على الملابس السوداء التي يرتديها البهلول والذي يتعدى دوره الترفيه عن الملك وحاشيته ليقوم بدور العالم ببواطن الأمور ممتلك الحكمة والناصح الأمين، فنجد البهلول (والذي يتحدث اللهجة المغربية الدارجة) ينصح الملك أبو عبد الله دائما ويذكره بأرضه وشعبه إلى أن يقترح عليه ان يقوم بتحدي الملك فرديناند في لعبة الشطرنج والجائزة هي حكم الأندلس، ويستجيب له الملك ورغم انه يكسب اللعبة إلا ان فرديناند ينكث بعهده معه ويستولي على الاندلس.
عند تلك اللحظة يتحول العرض لمناقشة هل البهلول مخطأ أم متآمر لخسارة الأرض، وتتكشف لنا أحد شفرات شخصية البهلول في نهاية العرض عندما ينفى عبد الله الصغير ويتقدم به العمر ويتيه في الأرض نادمًا على ما فعل راثيًا حاله وحال العرب أجمعين، فيقابل البهلول مرة أخرى في مواجهة أخيرة بينهما يحمله فيها الملك وزر ما حدث قبل أن يموت.
إن البهلول هنا ربما يشبه إلى حداً ما بهلول الملك لير لكنه ليس متحرراً من التورط في صناعة الواقع  وهو ما يمكن أن يحيل بصورة ما إلى تأويل يقدم البهلول بوصفه ممثلاً للمجتمع العربي (أو الشعب ) الذي كان يحاول نصح الملك وملازمته، هو هذا الذي لا يشيخ أو يموت أبدًا مهما ما تعاقب على حكمه حكام ومستعمرين، وكان اقتراحه مجرد ثقة عمياء في حاكمه وقدراته أو ربما كان اختبار من هذا الشعب على مدى حب الملك له، ولذك فقد كانت نهاية المسرحية والتي قدم فيها نبيل المازمي منولوجًا شديد الشاعرية حول مدى حبه للبهلول/ الشعب وثقته فيه وانه المسؤول عما حدث هي نهاية ضد الخطاب الأساسي الذي تبناه العرض منذ البداية حول تقديمه لشخصية وحكاية الملك أبو عبد الله، وربما قد أراد المخرج أن يقف في منطقة محايدة بين صورة الحاكم الديكتاتور الذي يحمل في داخله الكثير من الضعف والتناقض متمثلا في حبه لشعبه وبين شعب وثق في حاكمه ثقة عمياء لكنه أيضا تعامل مع الاستعمار باعتباره انتصار لنزع حاكم ضعيف ليستمر الشعب في المقاومة حتى ينتصر في النهاية.
إن عرض «بكاء العربي» هو مرثية عربية بديعة لمهند كريم وكل فريق عمله، يقدمه كحجر أساس في مشروعه المسرحي في رهان شديد الصعوبة والحساسية للشكل الفني الذي يقدمه للمجتمع العربي، وهو طريق ليس بالهين ولا اليسير فهو يشيد بناء مختلفًا ومتمايزًا عن الذائقة العربية التقليدية، ولكنه بناء ينضج في كل عمل عن سابقه حتى سيتكشف لنا في النهاية مشروع مسرحي لمخرج هام سيترك أثرًا في واقعنا المسرحي العربي.


هبة بركات