كولاج الزمن والحكايات من داخل (ستوديو)

كولاج الزمن والحكايات من داخل (ستوديو)

العدد 564 صدر بتاريخ 18يونيو2018

لحظة زمنية فارقة في حياة مصور، يقرر في تلك اللحظة التخلي عن حياته التي لا ينفصل فيها بين ما هو جمالي وما هو معِيش، ونحن معه في تلك اللحظة داخل الاستوديو؛ الصندوق السحري الذي ينتج من خلاله إبداعه ويُشكل فيه عالمه الذاتي والخاص. كانت تلك الليلة إحدى ليالي المهرجان الختامي لنوادي المسرح في دورته السابعة والعشرين، من قصر ثقافة المنوفية، تأليف وإخراج علاء الكاشف.
دائما ما هناك إشكالية بين الفن والحياة، بي ما هو واقعي وما يضيفه خيالنا وتجربتنا الذاتية في تلك الحياة. تلك الثنائية يتلاعب معها كل فنان ويُشكلها من خلال اختياراته الفنية. لكن مؤلف عرض ستوديو أتى بها للمناقشة. لمناقشة الجمال الذي لا يبلغ الكمال ونجري خلفه للإمساك به، من خلال شخصية المصور ويقدمها علاء الكاشف الآتي من زمن يُشبه الثلاثينات أو الأربعينات حينما كان التصوير يتخذ شكلا مغايرا للحظة الآنية. وبعيدا عن وضع مفهوم أو تعريف للتصوير الفوتوغرافي، لكن في بدايته يستعد الفرد ويهيئ نفسه للذهاب إلى الاستوديو لتثبيت تلك اللحظة تحديدا من حياته التي يصاحبها حدث في أغلب الأحوال - لتبق معه للزمن. حينما اصطدم هذا المفهوم بعصر يُستهلك فيه الزمن وأصبح فيه التصوير في أي لحظة بداعٍ وبدون، وصنع لحظات عن عمد لتثبيتها، بالتالي تغير مفهوم التصوير وتغير مفهوم الزمن والجمال والواقع. وذلك ما يحاول أن يناقشة العرض، وحيث ظهرت أزمة هذا المصور الذي لا يزال عالقا في إيمانه أن الصورة يمكنها إكمال الناقص، وأن حياته قد ذهبت في عالمه الذاتي الذي يأخذ مسافة عن الواقع.
فضاء العرض هو عالم المصور داخل مسرح غرفة أو ستوديو، تأتي إلينا الأحداث من داخل غرفة الصور، ويخرج من كل صورة أشخاص لهم تجارب متعددة في الحياة. يتحول تمثال فينوس الصامت من حكاية متخيلة إلى حكاية تشتبك مع الواقع من خلال شخصية هانم بنت المقام التي تقدمها (آية سامي) حبيبة المصور التي رحلت عنه لتمسكه بحب فينوس الذي لا يشيخ ولا يتأثر بالزمن. هذا الانسجام الحتمي بين الفن والمقاومة، وبقاء تمثال من آلاف السنين ويحمل تأثيره ومقاومته للزمن الذي يضع شرطه في الفناء، قدم العرض صورة مجسدة لمقولة مارلو إن «الفن هو الشيء الوحيد الذي يصمد أمام الموت». من ثم تخرج حكاية البالرينا (نهلة لاشين) الفراشة المحترق حلمها ويبقى أثرها كموسيقى بيتهوفن؛ يختلط فيها الشكل بالمضمون ونستخلص الفكرة من خلال التعبير عنها وقد تذهب الفكرة ويبقى الأثر غير الممسوك.
تلك الحكايات تأخذ شكل الكولاج - تقنية سينمائية - حيث وضع المخرج الأحداث المنفصلة بجوار بعضها، وأخذ الحدث المسرحي صورة مشهدية الحدث السينمائي. وحاول أن يضع لكل حدث حالتها الخاصة من خلال الإضاءة التي كانت جزءا من ديكور العرض وموضع للرؤية، وكذلك الموسيقى التي مزجها (عمر نبيل) تنقلنا إلى أكثر من زمن وتتنوع بين الشرقي والغربي. كذلك كولاج الزمن بين الزمن الذاتي للمصور والزمن الحاضر والزمن الأسطوري في مشاهد أخرى. وعلى فرضية أن العرض بلور تلك التقنية بشكل أوضح، أظن أنها قد تحدث فارقا في صناعة الفكرة والتطور التقني بين فن التصوير والسينما.
سار العرض في تسلسل ذاتي لحكي الأحداث، ولكن اخترق ذلك التسلسل وكسر نسقه عندما أتى بأحد الجمهور لكي يشترك في زمن هذا المصور الذاتي غير المحدد، لذلك تم اختراق هذا الزمن. خصوصا أن تلك الحكاية المقدمة يجوز أن تصبح بُنى خاصا بذاته ومناقشة صراع الحداثة والأسطورة، وذلك في الفصل الأخير من العرض الذي قدمته الفنانة المُتمكنة من أدواتها التمثيلية (سماسم جامع) في دور زيادة، كيف لتلك المرأة أن تواجه ابنها (أسامة المشد) الذي أحب وتزوج من غازية (نور سعيد) في المولد، وهي ترسم له حياة أخرى تليق بتكوينها البيئي، فتتحدث بصوت الشخصيتين وكل منهم له فلسفته المختلفة مع الحياة. ولكن بتلك الشخصية نخرج من ذاتيه هذا المصور ونذهب إلى صراع آخر من زمن آخر غير متجانس مع اللحظة الذاتية لهذا الفنان. نخرج من زمنه مع هذا المشهد ولا نعود إليه مرة أخرى.
تشكل عرض (ستوديو) داخل جسد المصور غير الفاضل بين ما هو جمالي وما هو واقعي، حيث فن التصوير الذي يعتمد على المصور؛ ليس مجرد عينه بل جسده داخل هذا العالم، وبالتالي تصور هذا الجسد إلى العالم من حوله، تلك العلاقة التبادلية بينهما، ذلك الجسد الممتد لا يمكن فصله إلى عين فقط، الاتصال الجمالي بين الفنان والزمن والحياة؛ حيث ندخل معه إلى عوالم وأحداث وشخصيات وحكايات تحلق في الزمن. نخرج ونحن أيضا حكايات داخل الصور، وحكاياتنا تنقسم إلى أزمنة مختلفة يمكن حكيها بتسلسل غير متتابع ومتتالٍ. وكل منا يثبت لحظات في الذاكرة لصورة لكي تقاوم الزمن والفناء.


سمر هادي