التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر(4) .. الطلاب يتحدثون

التفاصيل المجهولة لأول معهد مسرحي في مصر(4) .. الطلاب يتحدثون

الطلاب المقبولين في المعهد

العدد 654 صدر بتاريخ 9مارس2020

كان الأول من نوفمبر 1930، يوماً مشهوداً في تاريخ المسرح المصري والعربي، ففيه تم افتتاح أول معهد لفن التمثيل؛ بوصفه أول معهد مسرحي في مصر والعالم العربي!! وتم الافتتاح في سراي موصيري الواقعية على ناصيتي شارع عماد الدين وشارع فؤاد، وحضر الافتتاح مندوب عن وزير المعارف، وألقى زكي طليمات كلمة في هذا الاحتفال؛ بوصفه المسئول الفعلي عن المعهد. ولحُسن الحظ أن جريدة المساء نشرت هذه الكلمة، ويجب علينا ذكرها هنا توثيقاً لها ولهذا اليوم التاريخي!!
قال زكي طليمات: “... إنه ليوم يسطره تاريخ الفن في مصر، هذا اليوم الذي تفتتحون فيه معهد التمثيل باسم معالي وزير المعارف العمومية. وإنشاء معهد التمثيل ضرورة اجتماعية، حتمتها علينا هذه النهضة المباركة، التي تشتمل جميع مرافق حياتنا. ومعهد التمثيل مدرسة، يدرس فيها أصول فن جديد في فنوننا، حديث في آدابنا. وليس أدل على اهتمام الوزارة بشأن التمثيل من إنشائها معهداً له بين معاهد العلم، وهو ولا شك الخطوة الأولى لوضع أساس صحيح لفن التمثيل في مصر. وكل ما أرجوه ويرجوه كل مناصر لفن التمثيل في مصر، أن يوفق هذا المعهد إلى تحقيق الغرض السامي، الذي أنشئ من أجله. ونتمنى أن يلاقي المعهد من رعاية معالي وزير المعارف، وكبار رجال وزارته استمرار هذا التشجيع، الذي يحي في نفوسنا أملاً كبيراً في أن سيصبح لمصر مسرح قومي في القريب العاجل. ولا شك أن رجال المسرح المصري وجمهور مسارحنا، يقابل هذه اليد التي أسدتها الوزارة إلى الفن بعظيم الامتنان، ومزية الشكر والدعاء إلى الله أن يطيل في عمر صاحب الجلالة الملك، ويبقيه زخراً لهذا البلد الأمين”.
افتتاح المعهد فعلياً، كان حلماً من الأحلام، لا سيما بعد إخفاق جميع المحاولات السابقة منذ عام 1872، عندما حاول محمد أـنسي إنشاء مدرسة للتمثيل، ومحاولة جورج أبيض 1910، ومحاولة عبد الرحمن رشدي عام 1923، ومحاولة محمود مراد عام 1925 .. إلخ، كل هذه المحاولات باءت بالفشل في افتتاح معاهد للتمثيل!! لذلك اهتم المصريون بافتتاح هذا المعهد، وبالأخص الفتيات!! فقد نشرت مجلة الصباح - بعد افتتاح المعهد بعدة أسابيع – خبراً يفيد بأن المعهد قرر ضم بعض المنتسبين إليه؛ بوصفهم طلاباً مستمعين – وليسوا نظاميين – وهذا الاستماع، يكون بتصريح لمدة شهر، ويتم تجديده، إذا اقتضى الأمر!! كما أكدت جريدة الضياء – في ديسمبر 1930 - هذا الموضوع، موضحة أن الطلاب المستمعين، يجب أن يكونوا من الطلاب الناجحين في امتحان القبول الذي تم قبل التصفية النهاية. وبهذا الأسلوب، أصبح في المعهد من المستمعين تسعة طلاب وطالبات.
الطلاب يتحدثون
اهتمت الصحف والمجلات بهذا الحدث التاريخي، وهو وجود طلاب يدرسون المسرح داخل أول معهد تمثيلي، فقامت مجلة الصباح بعمل عدة لقاءات مع بعضهم، وراسلت البعض الآخر، وتركت للجميع حرية الحديث حول أسباب التحاقهم بالمعهد، أو عن شعورهم وآمالهم في المستقبل. وظلت المجلة تنشر كلام الطلاب في أعدادها من نوفمبر 1930 إلى فبراير 1931. فعلى سبيل المثال، قال الطالب حسين محمد حسين: “... لما قامت الحكومة بإنشاء هذا المعهد، بدأت حركة مباركة من الغواة. وسرعان ما قدموا طلبات للالتحاق به، وكنت ضمنهم. ونجحت أمام اللجنة المختارة، التي خصصت للاختبار. وأني الشاب الوحيد الذي نجحت من مدينة الإسكندرية، وأعتبر نفسي مندوباً عنها في هذا المعهد الفني، بعد أن ضحيت بوظيفتي التي كنت أشغلها بمصلحة الموانئ والمنائر، وهذه تضحية لوجه الفن. وأن أسعد لحظة شعرت بها في حياتي هي اللحظة التي تسلمت فيها خطاب نجاحي النهائي بالمعهد من ساعي البريد، الذي قبلته بالرغم عنه، مع عدم معرفتي به. وفي هذه اللحظة عندما نجحت شعرت بالحياة تدب في قلبي، بعد أن كاد يذبل. وعندما أعود إلى فراشي لأنام، أحلم بالمعهد وما سيعود عليّ منه من المجد والشهرة، فأفيق مسروراً باسماً. وأحياناً أحلم برسوبي في الامتحان، فأفيق مذعوراً متألماً. وعندما أسير إلى عملي، أكون شارد اللب، أفكر هل سأنجح أم لا؟!! وأخذت صحتي في النحول، وفي ظرف أسبوع نقص وزني خمسة كيلوجرامات، وأصبحت أنظر للحياة نظرة الزهد، ضارباً عن المأكل والمشرب. أما الآن فقد تحسنت صحتي وصرت أحسن من قبل، وأصبحت طالباً بالمعهد أتعلم فن التمثيل والعلوم على أيدي أساتذة ودكاترة مشهود لهم بالكفاءات العلمية والعملية والفنية”.
وقال الطالب إسماعيل نظمي: “... ميلي إلى الغناء والتمثيل منذ نشأتي، هو الذي دفعني إلى المغامرة والدخول في مباراة الغناء المسرحي، التي أعلن عنها في أبريل سنة 1928 بمعهد الموسيقى الشرقي. ولم أكن أعرف شيئاً من الموسيقى، ولكني وضعت قطعة ولحنتها تلحيناً (سماعياً)، وصرت أستذكرها طول الفترة، التي كانت قبل موعد المباراة حتى حان اليوم، ودخلت المسرح؛ ولكني نسيت (النغمة). فأدرت ظهري أحاول الهرب. ولكن إخواني ألحّوا عليّ في البقاء!! فلما نودي على اسمي، دخلت ووقفت على خشبة المسرح، وتذكرت (النغمة) فغنيت. ونجحت! ومنذ ذلك الوقت التحقت بمعهد الموسيقى الشرقي، وأخذت في تعلم الموسيقى فنياً وعملياً. ولما أعلن عن إنشاء معهد التمثيل، قدمت طلباً بالالتحاق، وأخذت أمثل (بروفات) في غرفتي بالمنزل، حتى قلق الجيران، ودخلوا عليّ ذات يوم (يعزونني) في عقلي، وكانوا من السيدات اللاتي لا أزال أذكر عزاءهن وهن يقلن لي: (يا خوية .. سلامتك وسلامة عقلك، دحنا بنقول عليك عاقل، تيجي على الآخر وتتجنن، أنت عاوز تشتغل تياترجي)، وأغلقت الباب في وجوههن وأنا (أقطر عرقاً) .. ولكني ضربت صفحاً عن عزائهن، وها أنا ذا أتعلم التمثيل والموسيقى، وأرجو لنفسي مستقبلاً زاهراً مجيداً”.
أما الطالب عبد الفتاح عزو، فقال: “ لست في حاجة إلى القول بأنني هويت التمثيل من زمن، فلقد كتبت عني الصباح كثيراً، طوال السنتين اللتين كنت فيهما رئيساً لفرقة التمثيل بالمدرسة الخديوية، كما نوهت عن الأدوار التي مثلتها، وكان آخرها دور دافيد كوبر فيلد في رواية الذهب المشهورة. لذا كان طبيعياً بعد أن افتتح المعهد، وبعد أن قرأت شروطه، وبعد أن نلت شهادة البكالوريا، أن ألتحق به قصد إشباع رغبتي المتعطشة إلى ارتشاف مناهل هذا الفن. وأن أكبر أماني أن أصبح ممثلاً كبيراً، بشرط أن ينظر إلىّ الناس بالعين التي ينظرون بها إلى أشرف وأعظم مهنة. وإذا حدثتك عن المعهد أقول إنه غرس سينتج بمشيئة الله أحسن الثمار وأطيبها، وأن الأساتذة جميعاً قد برهنوا على تمكنهم العلمي والعملي من الدروس التي يدرسونها. وأخص بالذكر درس (حرفية المسرح) الذي يحوي كثيراً جداً مما كان ينقص من اشتغلوا بهذا الفن. أما الطالبات والطلبة جميعاً فعلى استعداد كبير لأن يكون منهم أرقى وأعظم الممثلات والممثلين”.
وقال الطالب عبد الفتاح حسن محمد: ... إن أهم ما دعاني إلى الالتحاق بمعهد فن التمثيل، تلك الروح أو الغريزة التي وجدتها في نفسي بعد أن استطعت الإدراك. لو تعرف يا سيدي كم ضحيت في سبيل ذلك الفن الجميل، وكم قاسيت من سخرية الأهل والأصدقاء! كنت طالباً في مدرسة بنباقادن الثانوية، وكنت في السنة الثالثة، وكان التمثيل قد أخذ مكانه في نفسي. فلم أستطع المقاومة، ووجدت دافعاً غريزياً يدفعني إلى الإكثار من الذهاب إلى المسارح، لا حباً في اللهو بل هياماً بهذا الفن الجميل. انقضى العام وكان الرسوب، فلم ترض نفسي أن أستمر في الدراسة بعد أن سبقني أخواني، الذين كنت أفضلهم كثيراً. وثارت العائلة ضدي. عزمت بعد ذلك على ترك التمثيل .. ماذا أفعل؟ التحقت بمدرسة الفنون الجميلة آملاً أن يحارب فن فناً، كما يقال لا يفل الحديد إلا الحديد؛ لكن فن التمثيل كان أقوى، وتغلب أخيراً، والتحقت هاوياً بفرقة فاطمة رشدي، فكان من الطبيعي أن أذهب صباحاً لأحضر البروفات، وكنت لا أذهب إلى المدرسة ففصلت منها بعد أن مكثت بها ثلاث سنوات. وشاء الله أن تنشئ الوزارة معهداً للتمثيل، وكنت على وشك القبول بإحدى الوظائف، فضربت بها عرض الحائط وقدمت طلباً إلى المعهد، وامتحنت ونجحت وصرت الآن من تلامذته، وإني لأفاخر بذلك. أما شعوري نحو المعهد فهو كمثل من أحب فتاة حباً شريفاً وفاز بها بعد أن عانى من الآلام والمتاعب أشدهما. أما أملي بعد تخرجي منه إن شاء الله فهو أن أخدم هذا الفن الذي كرست له حياتي وأن أكون ممثلاً عظيماً”.
أما الطالب أحمد البدوي، فقال: “ قدمت طلبي للالتحاق بمعهد فن التمثيل الحكومي، اعتماداً على شرط نزيه متواضع من شروطه، وهو الشرط الذي نصه: وللجنة أن تعفي من تشاء .. إلخ. وذلك لأن سني يزيد شيئاً على السن المقرر. كما إني لا أحمل شهادة البكالوريا. وليس معنى هذا أن مبلغ إدراكي العلمي لا يتساوى مع حاملها، بل إني بعد أن مكثت بالمدارس الثانوية ثلاث سنوات فضلت أن أقوم بدراسة أخرى شخصية واسعة؛ فكنت كثير الاطلاع والبحث والمذاكرة، متصلاً بالحركة الأدبية والفنية التمثيلية من جميع نواحيها، حراً غير مقيد أتزود من المواد التي تتفق وميولي الخاصة، وأترك ما لا رغبة لي فيه، فشغلني ذلك، واكتفيت به عن الدراسة (المعروفة) بالمدارس. وقد نجحت ولله الحمد نجاحاً قدرته اللجنة المحترمة تقديراً عظيماً. ومنحتني المعافاة من بعض الشروط. أما عن شعوري بعد التحاقي، فشعور الهادئ المطمئن؛ لأني أعتقد اعتقاداً قد لا أكون مخطئاً ولا مغالياً فيه، إذا قلت إني خلقت لأكون ممثلاً، فميولي وطبيعتي وأغراضي، كلها متجهة نحو هذا الفن الجميل، الذي شغفت به، وأحببته اثنى عشر عاماً مضت فكنت عضواً ممتازاً بنادي أحياء التمثيل العربي مدة طويلة. وأما عن شعوري إزاء هذا المعهد الفني العالي، فهو شعور الطالب بالمدارس العليا، الذي يقدر الواجب وما له وما عليه. وعن مستقبلي، فدعني أذكرك بقول شكسبير على لسان هملت في روايته الخالد: (إن المستقبل بيد الله وهو كفيل بهنائي) وقوله سبحانه وتعالى جل شأنه و(لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى)”.
وقال الطالب أحمد فرج النحاس: “... لما كنت من صغري أحب هذا الفن حباً عميقاً، وكنت أحس أن هذه هي المهنة، التي يجب أن تكون مهنتي، فقد التحقت بفرقة رمسيس من مدة أربع سنوات تقريباً كهاوٍ. ولما كان هذا الفن متملكاً على كل حواسي ومشاعري، وكان الظهور في الأجواق من أصعب الأمور، فقد كنت أقوم في المدرسة التي كنت طالباً بها، وهي المدرسة السعيدية بتمثيل بضع روايات مما يمثله الطلبة. وكان هذا سبباً في إهمالي لدروسي فتوالى سقوطي في الامتحانات فانفصلت من المدرسة في السنة، التي قبل الماضية. والتحقت بفرقة رمسيس كممثل محترف. تبينت أن الممثل بدون ثقافة، يظل دائماً ممثل ناقص. فعاودني اجتهادي وظللت في هذه السنة أستذكر دروسي بجد ونشاط، كان من نتيجته أنني نجحت في امتحان البكالوريا. في هذه السنة التي اشتغلت فيها كمحترف، وجدت أن من المستحيل في الأجواق أن يشبع الهاوي رغبته، أو أن يستفيد، اللهم إلا النذر القليل، نتيجة التجارب لا نتيجة تعلم الفن على أصوله. فإن الممثل كأي فنان آخر، فمن عنده استعداد لفن الرسم مثلاً - ونلاحظ أنه استعداد فقط بدون تعلم الفن على أصوله - فإنه حين يرسم صورة ما يعجب المشاهد حينما يراها باستعداده الفطري؛ لكن ليس بقدر ما يعجب بالصورة نفسها، حين يتلقى أصول هذا الفن على يد أستاذ قادر. أي إنه من المستحيل أن تعجب بصورة يرسمها الذي عنده استعداد فقط، أكثر من الصورة التي يرسمها من عنده هذا الاستعداد، وتلقى الفن على أصوله. إذن اتفقنا على إنه لا بد لمن لديه استعداد فطري لفن من الفنون أن يتلقى هذا الفن على أصوله، وأن يدرس تمام الدرس كل ما يتعلق به من علوم أو فنون أخرى. من هنا نفهم السبب الذي حدا بي إلى الدخول في معهد فن التمثيل. أما الذي أؤمله من المعهد، فهو إنه سيخرج لنا شباباً مثقفين مهذبين متعلمين الفن على أصوله”.
أول مقالة لطالبة
كانت الطالبة إحسان الشريعي، هي الطالبة الوحيدة، التي تجاوبت مع مجلة الصباح وأجابت على أسئلتها. ومن الطريف أن الطالبة لم تجب إجابة تقليدية مباشرة، بل فضلت أن تكتب مقالة، تعكس فيها ثقافتها المسرحية، وما درسته في المعهد من معلومات حول تاريخ المسرح على يد الدكتور طه حسين. وهذه المقالة، تُعدّ أول مقالة مسرحية منشورة بقلم إحدى طالبات المعهد التمثيلي في تاريخ المسرح المصري والعربي!! ولأهميتها هذه، سننشرها هنا، وفيها تقول الطالبة:
“... أول ما ظهر التمثيل في بلاد الإغريق، ومنها انتقل إلى سائر الأمم ومختلف الشعوب. ولم يكن في بداءته بالشكل الذي نراه عليه الآن، وإنما كانت الرواية تمثل وسط حلبة يجتمع حولها آلاف النظارة، في شكل دائرة تتكون من مدرجات، بحيث لا يحجب الأماميون ساحة التمثيل عمن خلفهم. وما كان يقصد من التمثيل حينئذ إلا التسلية واللهو، وكانت معظم الروايات توضع وتمثل لإظهار الفروسية والبطولة ومواقف الغرام القوية، التي يظهر فيها بطل الرواية بمظهر القاهر القوي، الذي يأسر قلوب الحسان، بما يبديه من ضروب الشجاعة وفنون الصراع والقتال. فكانت مآسيهم دموية أكثر منها نفسية، وأخذ التمثيل في مدارج الرقي شيئاً فشيئاً إلى أن أصبح بالشكل الذي نراه عليه الآن، ودخلت عليه عدة محسنات، فصار بذلك مغرس الثقافة العامة، وانبرى الكُتّاب يضعون المقطوعات الأخلاقية والقصص التاريخية والعصرية في شكل روائي بديع، يجمع بين الفن والنهوض بالتربية العامة من الوجهة الخلفية. وانبرى لهم النقاد يردونهم إلى سواء السبيل، إذا حاد بهم القلم عنه، ويقومون منه ما أعوج، حتى بات المسرح مدرسة يتلقى فيها الناس دروس الحياة، ويقتبسون ما يرونه في الروايات، التي تمثل الحياة الأجنبية من حسنات، ويتجنبون ما يجدونه فيها من سيئات. فقد يرى المرء في رواية واحدة الفضيلة والرذيلة تتصارعان، وفي النهاية يشهد بنفسه ويرى بعيني رأسه مصرع الرذيلة أمام قوة الفضيلة، وناهيك بما في ذلك من حث على التجمل بالفضائل، والبعد عن الرذائل. وليس بكاف أن يكون الأثر كل الأثر لموضوع الرواية، بل يجب أن يكون الممثل قديراً على إخراج دوره على الوجه الأكمل – يجب أن ينسى شخصيته ويندمج بكليته في الدور الذي يقوم به وبذلك فقط يكون الموقف بديعاً رائعاً – وبذلك فقط يمكنه أن يملك قياد النظارة، فيذهب بهم إلى الحقيقة، التي تظهر ناطقة جلية في صوته المتزن، وتمثيله المتقن، وبعده عن التقليد المصطنع، الذي قد يؤدي به إلى عكس المقصود. ولما كان الغرض من التمثيل، هو ما أسلفنا، فإن بعض الشعوب الحية نشطت للعمل على إعلاء شأنه، والنهوض بمستواه والخروج به من حمأة الرذيلة، التي أحاطته بسبب التكالب على المادة، والنزوع إلى النقيصة، والنفس بطبعها أمارة بالسوء. ولما كانت في مصر حركة انتقال من القديم إلى الجديد، تعلقا بأسباب المدنية الحديثة، فقد رأت حكومتها – كباقي الحكومات – أن تعمل على ما فيه التقدم وإحياء لغة البلاد، التي هي عنوان القومية الحقة والوطنية البحتة. ومن جملة ما صنعته في هذا السبيل، إنشاء معهد للتمثيل الفني، يجمع بين جدرانه نخبة من خيرة فتيان وفتيات مصر المهذبين المثقفين، لتجعل منهم نواة صالحة تثمر كل الثمر. وأنا بصفتي فتاة متعلمة ومصرية قبل كل شيء، أحب الخير لبلادي، رغبت رغبة صادقة في دخول هذا المعهد، الذي أنشأته وزارة المعارف. وكان أخوف ما كنت أخافه أن يخيب أملي وتذهب مساعي أدراج الرياح، وتقدمت مع المتقدمين والمتقدمات، وجزنا جميعاً اختباراً أمام لجنة من كبار أدباء مصر، والعاملين على إعلاء شأنها. واختارت لجنة التحكيم من تفوقوا منا – وكنت لحسن حظي أنا من الناجحات – ورأت اللجنة بعد ذلك أن عدد الناجحين، يعدو العدد الذي قرره ولاة الأمور للمعهد، فعقدوا لنا امتحاناً آخر للتفصيل، حزت فيه قصب السبق، وكنت من أوليات أترابي الفائقات. وها أنا ذا الآن أشعر بالغبطة والسرور. فقد أتاني الله ما تمنيت به عليه، وأرادني في جو كله علوم ومعارف نتلقاها على أيدي أساتذة من خير من أنجبت مصر، وأذكاهم وأغزرهم علماً وفضلاً. وها نحن نستقي من فيض منهلهم العذب؛ فكأني بالواحد أو الواحدة منا نحلة تتنقل بين الورود والزهور ترتشف رحيقها وتحيله شهداً حلواً سائغاً – ما جئت مرة إلى المعهد أو عدت منه إلا وشعرت بالخيلاء تتملكني، فكأني ملكت البسيطة، وما عليها. كيف لا وأنا التي ما شعرت أنني ما زلت بعد طفلة في الحياة إلا بعد التحاقي بالمعهد!؟ هذه أنوار العلوم والعرفان تشرق علينا فتضيء لنا المسالك، وتظهر لنا ما خفي عنا وعمي علينا! في مصر دور للتمثيل بين جدي وهزلي كثيرة، ولا ننكر أن في تلك الدور من نوابغ الممثلين والممثلات العدد الوافر، وهذه المسارح تؤدي واجبها بقدر مدارك أصحابها واقتدارهم على تلخيص الفن الصحيح من مثالب التجارة المسرحية. وللنقد المسرحي حركة طيبة، وأرجو أن تتخلص قريباً مما علق بها من أغراض، جعلها تخرج في أكثر الأحايين من وظيفتها السامية. وكم أود أن يميز الناقد بين الممثل أو الممثلة في حياتها الخاصة، وبين حياتها فوق المسرح. وكم أحب ألا يخلط بينهما، وأن يسير بالجمهور إلى احترام رجال وسيدات المسرح، وأن يوقن أن لكل وسط من الأوساط أخياره ومفسديه. فلا يأخذ الصالح الفاضل بجريرة الضال. ولقد تملكتني رغبة قوية فاقت رغبتي في الالتحاق بالمعهد، وهي ما أرسمه وأخطه لنفسي من الآن بعد تخرجي. لست ممن تغرهن زينة الحياة وزخرفتها، ولا ممن يعبدن المادة والجاه والظهور. فلقد عشقت الفن للفن وله فقط. ما فكرت قط في أنني سيأتي عليّ يوم، أعتلي فيه خشبة المسرح، لأمثل دوراً وأجيده، وتنزل الستار بين عاصفة من التصفيق وهتاف الاستحسان. إنني أرغب رغبة صادقة في أن أحذق الفن، وأرمي إليه بسهم وافر. وأريد أن أحتسي كأسه حتى الثمالة، ورغبتي هذه خالصة للفن وحده. فما لي حظ في أن أتلذذ بالدنيا؛ ولكن لذتي كل اللذة في أن أسكت صوتاً في أعماق قلبي، وأرضي نزعة في قرارة نفسي. كنت أتلهف عليها تلهفاً، وهذا الصوت الهاتف، الذي لا يسكن. وتلك النزعة الصاخبة، والزهرة الذابلة للقطرة الهاطلة، التي لا تهدأ، هما أن أكون من أوليات المتخرجات في المعهد، إن لم أكن أولاهن. وبذلك يكون لي نصيب في أن انتظم في سلك أعضاء بعثة توفد إلى الخارج، لأحظى بأكبر قسط من الفن، ولأستقي من معينه، الذي لا ينضب، ثم أعود إلى بلادي، رافعة الرأس شامخة الأنف، وأكون بذلك قد بلغت غايتي، ونلت أمنيتي. وأعود إلى بلادي، لا كممثلة همها أن تظهر على المسرح أمام الناس لتلقي عليهم دروس الحياة، وتحرز بعد ذلك الشهرة والجاه؛ لا بل أعود إلى حيث بذرت النواة، إلى حيث نبت عودي وتلألأ نجمي إلى المعهد، وإليه فقط – لا كنواة صالحة كما كنت، ولكن كغارسة تغرس نواة جديدة وتتعدها؛ ثم ترقب يوم الحصاد”.


سيد علي إسماعيل